لم تكن التهديدات الإسرائيلية بمواصلة قصف غزة للقضاء على حركة «حماس»، حتى في حال التوصل إلى اتفاق هدنة، مجرد كلام عبثي. والدليل «الحيّ» على ذلك أن مخيم جباليا، معقل «حماس» الرئيسي، عاد ليتصدر مشهد الحرب الدموية.
فمنذ نحو أسبوع، وفي الوقت الذي كانت فيه المفاوضات بين إسرائيل وحركة «حماس» لا تزال بين أخذ ورد عبر الوساطات للتوصل إلى اتفاق تبادل الأسرى ووقف الاقتتال، شن الجيش الإسرائيلي هجوماً مكثفاً على مخيم جباليا ومحيطه في شمال قطاع غزة، وطلب من الفلسطينيين إخلاء المنطقة.
وقال مدير الدفاع المدني في شمال قطاع غزة أحمد الكلحوت، اليوم، إن الجيش الإسرائيلي أحرق أجزاء كبيرة من مخيم جباليا.
ويرى محللون أن إسرائيل تريد الضغط أكثر على حركة «حماس» لإجبارها على تقديم تنازلات في مفاوضات صفقة التبادل، وذلك عبر استهداف معقلها الرئيسي في شمال القطاع، إلا أن صحيفة «وول ستريت جورنال» نقلت عن جندي احتياطي إسرائيلي من فرقة «الكوماندوز 98» التي تقاتل حالياً في جباليا قوله إن «حماس» تهاجم بشكل أكثر عدوانية، وتطلق مزيداً من الأسلحة المضادة للدبابات على الجنود الذين يحتمون في المنازل وعلى المركبات العسكرية الإسرائيلية يومياً.
وقبل أشهُر، ظن الجيش الإسرائيلي أنه فكَّك قوات «حماس» في الثلث الشمالي من غزة، إلا أن الصحيفة الأميركية أشارت إلى أن «حماس» تستخدم أنفاقها ومسلحيها ومخزونها من الأسلحة للعودة إلى حرب العصابات المقاتلة في جباليا.
أين يقع مخيم جباليا؟ وماذا نعرف عنه؟
مخيم جباليا هو أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، وأُنشئ بمحاذاة بلدة جباليا بعد نزوح آلاف الفلسطينيين إليه قادمين من قرى ومدن جنوب فلسطين عقب النكبة عام 1948.
يقع مخيم جباليا على مسافة كيلومتر من الطريق الرئيسية (غزة - يافا). تحد المخيم من الغرب والجنوب قريتا جباليا والنزلة، ومن الشمال قرية بيت لاهيا، ومن الشرق بساتين الحمضيات التابعة لحدود مجلس قرى جباليا، والنزلة، وبيت لاهيا.
يرتفع المخيم عن سطح البحر نحو 30 قدماً، ويبعد عن مدينة جباليا مسافة كيلومتر تقريباً، وهو من أقرب المخيمات إلى معبر إيريز، المنفذ الوحيد لسكان غزة إلى إسرائيل.
وتُشرف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (أونروا) على مختلف الخدمات الاجتماعية المقدمة لسكان المخيم، الذي يعاني الاكتظاظ، حسب وكالة «وفا».
ويبلغ تعداد سكان مخيم جباليا، حسب تقديرات جهاز الإحصاء المركزي منتصف عام 2023، نحو 59574 لاجئاً.
ووفق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، كان أكثر من 21 ألف فلسطيني يمرون عبر «إيريز» للعمل في إسرائيل يومياً قبل الانتفاضة الثانية.
ومنذ 12 يونيو (حزيران 2007)، أي بعد سيطرة «حماس» على قطاع غزة، بات يُسمح لفئة محدودة جداً من أبناء القطاع بالحصول على تصاريح للخروج من غزة للعمل في إسرائيل.
وفي السنوات الماضية، شمل من يُسمح لهم بالحصول على التصاريح، مرضى ممن لديهم تحويلات طبية للعلاج خارج غزة ومرافقيهم والتجار وموظفي المنظمات الدولية وبعض الحالات الإنسانية الاستثنائية.
وتوجد في المخيم 32 منشأة تابعة لـ«أونروا»، و16 مبنى مدرسياً، ومركز توزيع أغذية، و3 مراكز صحية، اثنان منها في مخيم جباليا، والثالث في منطقة الصفطاوي. كما يوجد مكتبان للإغاثة والخدمات الاجتماعية ومكتبة عامة و 7 آبار مياه ومكتب صيانة ومكتب صرف صحي واحد .
لماذا سمِّي «مخيم جباليا»؟
وفق ما ذكرت موسوعة المخيمات الفلسطينية، سُمي المخيم نسبةً إلى مدينة جباليا التي يقع بمحاذاتها، وهو اسم مشتق من «أزاليا» البلدة الرومانية القديمة التي تقوم عليها «النزلة». وقد تكون تحريفاً لكلمة «جبالية» السريانية، بمعنى الجبال أو الفخاري، وهي من جذر «جَبْلا» بمعنى الفخار والطين.
وعدَّته روايات أخرى مأخوذاً من كلمة «جبالية» الذين وفدوا في أواخر العهد البيزنطي، و«الجبالية» هم أخلاط من أروام ومصريين وغيرهم.
التركيبة السكانية
استقر في المخيم بعد النكبة 35 ألف لاجئ، معظمهم كانوا قد هُجروا من القرى والمدن الواقعة في جنوب فلسطين، مثل اللد والرملة ويافا وبئر السبع وأسدود ويتوزعون على 5587 عائلة، حسب موسوعة المخيمات الفلسطينية.
ارتفع عدد السكان عام 1995 إلى نحو 80.137 نسمة، أما في عام 2023 فيكشف الموقع الرسمي لـ«أونروا» أن عدد سكان المخيم بلغ 116.011 ألف نسمة، يتوزعون على مساحة لا تتجاوز 1.4 كيلومتر مربع.
تعرَّض السكان للترحيل القسري على مدار السنوات، ففي عام 1970 رحّلت إسرائيل نحو 975 عائلة من سكان المخيم إلى مشروع بيت لاهيا والنزلة المتاخم لحدود المخيم، وفي عام 1971 عملت على هدم وإزالة ما يزيد على 3600 غرفة تسكنها 1173 عائلة، بدعوى توسيع أزقّة وطرقات المخيم حتى تتمكن سيارات جنود الاحتلال العسكرية من دخول المخيم وتعقب عناصر المقاومة.
مذبحة جباليا
على مر السنوات، تعرَّض المخيم لمجازر راح ضحيتها مئات المدنيين، ودُمِّرت خلالها المباني السكنية والمؤسسات المدنية والخدماتية، ولعل أحدثها مذبحة عام 2023 التي وقعت مع انطلاق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، حيث تعرض مخيم جباليا لاستهداف دامٍ ووقعت مجازر عدة.
وفي 31 أكتوبر (تشرين الأول) ارتكب سلاح الجوّ الإسرائيلي مجزرة في مخيم جباليا، مما أدى إلى سقوط أكثر من 400 مدني ما بين قتيل وجريح.
وفي تفاصيل ما حصل، نفَّذت كتائب «القسام» يوم السابع من أكتوبر 2023 عملية «طوفان الأقصى»، وذلك «رداً على الاعتداءات الإسرائيلية وتدنيس الأقصى والاستمرار في الاستيطان»، وفقاً لما أعلن محمد الضيف، القائد العام لـ«القسّام».
وأعطى حينها إشارة انطلاق العمليّة التي شهدت اقتحاماً من المسلحين لمستوطنات غلاف غزة ونجحوا في قتلِ عدد كبيرٍ من الجنود الإسرائيليين، وأسر عشرات آخرين كما استطاعوا خلال ساعات قطع عشرات الكيلومترات ووصلوا إلى مستوطنات أبعد من تلك المحيطة والقريبة من قطاع غزة.
استمرَّت الاشتباكات بين الجيش الإسرائيلي وبين مسلحي «القسام» في عديد من المستوطنات وعلى رأسها مستوطنة سديروت. فجاء الرد الإسرائيلي على هذه العمليّة من خلال شنّ سلاح الجو الإسرائيلي عشرات الغارات العشوائيّة على القطاع متسبّبةً في مقتل عشرات المدنيين وتدمير البنية التحتية لمدن القطاع، ليصل إلى فرض إغلاق شامل وقطع متعمد لكل الخدمات من ماء وكهرباء وغاز، وهو ما هدَّد حياة أكثر من مليونَي فلسطيني يعيشون داخل القطاع الذي يُعاني أصلاً تبعات الحصار الخانق عليه منذ ستة عشر عاماً.
وفي عصر يوم 31 أكتوبر 2023، أغارت الطائرات الإسرائيلية على حيّ سكني مكتظ بالسكان ومحاذٍ للمستشفى الإندونيسي في شمال غزّة، مخلّفةً المئات من القتلى والجرحى في حصيلة أولية قُدرت بنحو 400، كلّهم من المدنيين.
وأفادت صحيفة «الغارديان» البريطانية، بأن طيران الجيش الإسرائيلي استخدم عدة أسلحة «JDAM»، أي ذخائر الهجوم المباشر المشترك، مما أدى إلى 5 حفر عميقة في مخيم جباليا، ودمار شمل 8 مبانٍ بشكلٍ كامل.
ووفق تحقيق لـ«وول ستريت جورنال»، فإن القصف الإسرائيلي الذي كان يهدف إلى اغتيال إبراهيم البياري، أدى إلى مقتل نحو 136 فلسطينياً، من بينهم 69 طفلاً، مما جعل الغارة واحدة من أكثر الغارات الجوية دموية خلال القصف على غزة.
وفي مطلع يناير (كانون الثاني)، أي بعد شهرين ونيف، أعلن الجيش الإسرائيلي الانسحاب من جباليا، معلناً إنهاء عملية تفكيك قوات «حماس»، وتصفية عدد من قادتها الميدانيين البارزين.
مجازر على مر السنوات
وليست هذه المجزرة الأولى، ففي عام 2004، نفّذت إسرائيل عملية عسكرية أطلقت عليها «أيام الندم» بدعوى تأمين منطقة عازلة لحماية المستوطنات الإسرائيلية من صواريخ كتائب «القسام»، وقصفت خلال هذه العملية المخيم لـ17 يوماً.
وقُتل أكثر من 100 فلسطيني، وشُرد أكثر من 600، ودُمِّرت مئات المباني السكنية والمؤسسات المدنية والصحية والخدماتية في هذه المجزرة.
وفي يوليو (حزيران) 2014 ارتكبت إسرائيل مجزرة في مخيم جباليا بعدما قصفت مدرسة تابعة لـ«أونروا» احتمى فيها نحو 3000 فلسطيني، مما أدى إلى استشهاد 20 شخصاً وإصابة أكثر من 50.
جباليا مهد انتفاضة الحجارة
انطلقت من جباليا الانتفاضة الفلسطينية الأولى «انتفاضة الحجارة» في أواخر عام 1987، عندما دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين عند حاجز «إيريز»، مما أسفر عن مقتل 4 عمال وجرح 7 آخرين.
وتحولت جنازة الضحايا إلى مظاهرات كبيرة سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة والضفة الغربية. واستمرت إلى حين توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.