عبد ربه: عرفات كان مشاكساً مع القذافي... والعسكريون السوريون توارثوا كراهيته

لما يجري في غزة علاقة بالظلم الإسرائيلي المتمادي، خصوصاً إصرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التهرب من استحقاقات السلام. تفاقم هذا الظلم بعدما اتخذ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قرار التوقيع على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993.

راهن عرفات على أن يكون اتفاق أوسلو خطوة أولى لقيام دولة فلسطينية على بعض الأرض، لكن بنيامين نتنياهو بنى سياسته على اغتيال الاتفاق ومفاعيله. ولاتفاق أوسلو علاقة بما سبقه، خصوصاً حروب العواصم والعلاقات الشائكة التي قامت بين منظمة التحرير وبعض الدول العربية البارزة.

كان الغرض من الحوار مع ياسر عبد ربه، أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ربط الحاضر ببعض الماضي؛ لتسليط الضوء على أحداث لم يتيسر لمن ولدوا بعد أوسلو أن يعايشوها. وهنا نص الحلقة الثالثة والأخيرة:

سألت عبد ربه كيف تعامل عرفات مع هجمات 11 سبتمبر 2001، وعن رفض الرئيس جورج بوش مصافحة الزعيم الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة، فتذكر: «أولاً عدم مصافحة جورج بوش هي نتيجة لما رآه الأميركيون اختباراً تلو الاختبار لياسر عرفات، وأن الأخير فشل في الاختبار لجهة إدانة الأعمال التي كانت تقوم بها «حماس» وفصائل أخرى تستهدف المدنيين، ولأنه لم يقم بما يكفي من أجل منع تلك الأعمال، وأن ياسر عرفات أيضاً كان متواطئاً إلى حد ما. ودليلهم على ذلك سفينة «كارين أيه» وغيرها.

كان تصريح جورج بوش الشهير بأن «الشعب الفلسطيني يستحق ما هو أفضل من هذه القيادة الفلسطينية، وهي متورطة في الإرهاب». وعملياً أوجد تصريحه وضعاً انتقلنا فيه فعلاً لمرحلة جديدة بالكامل، مرحلة القطيعة مع الإدارة الأميركية، وإشهار هذه الإدارة العداء الكامل لشخص عرفات، عدا عن العداء للسلطة ككل تحت قيادته.

بعدها طرحوا فكرة أن عرفات يمكن أن يظل رمزاً، ولكن من دون صلاحيات تنفيذية واسعة، وأن تُحال هذه الصلاحيات التنفيذية إلى رئيس وزراء كان الأميركيون قد حددوه سلفاً وهو الأخ محمود عباس «أبو مازن». هذا كان الجانب الأول من عدم المصافحة لأن الإدارة الأميركية كانت قد أعلنت عملياً القطيعة مع ياسر عرفات، ولذلك امتنع بوش عن مصافحته.

عرفات ينتظر كلمة جورج بوش الابن أمام أول جمعية عامة للأمم المتحدة بعد 11 سبتمبر (غيتي)

على رغم الأجواء التي كانت سائدة فإن ياسر عرفات ذهب (إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة)، وجلس متوقعاً أن تحصل المصافحة. ويومها قال بوش لكوفي أنان (الأمين العام السابق للأمم المتحدة)، إن هذا الرجل يريدني أن أصافحه فليصافح نفسه.

عرفات في 11 سبتمبر: هذه طائرات وهمية

هذه كانت طريقة جورج بوش. في 11 سبتمبر، أنا شاهدت الأحداث على التلفزيون من بيتي في رام الله. أخذت سيارة وانتقلت إلى غزة فوراً، كانت الطريق مفتوحة والمسافة قريبة وتستغرق ساعتين أو أقل، فوجدت ياسر عرفات وحده بالمكتب. كانت فترة بعد الظهر تقريباً بتوقيتنا. وفور وصولي قال لي: أخشى أن يكون هناك طرف فلسطيني أو يد فلسطينية في هذه العملية، لذلك أول نظرية كانت عنده أن هذه طائرات وهمية اخترعت في التصوير على التلفزيون. قلت له: أبو عمار، هذه طائرات حقيقية ضربت البناية. قال: لا، لا، وهمية. الانفجار تم من داخل المباني وليس من خارجها. ما هو الفرق بين داخل المباني وخارجها؟ فقال لي: أنا خائف أن تكون الطائرات فلسطينية. طيب إذا افترضنا أنها فلسطينية فهذا لا يلغي أنه من الخارج.

تذكر عرفات خطف الطائرات على أيدي الفلسطينيين، واعتقد أن هذه يمكن أن تكون واحدة من المغامرات التي قمنا بها في الماضي ومجددة بطريقة مختلفة. قلت له: لا، دعنا نتريث. فعلاً هوية الخاطفين المنفذين لم تتضح يومها. سأل عرفات: ماذا يفعلون في العالم؟ أجبت. كما سمعت، فتحوا حملات تبرع بالدم، دعنا نطلع للتبرع بالدم. قال: أنا رجل كبير بالسن، والتبرع بالدم ممكن يضعفني. قلت له: سنجد حلاً لهذه القضية. المهم أن تقوم بخطوة رمزية وليس المهم أن يأخذوا دماً أو لا يأخذوا، هي خطوة رمزية.

فعلاً، انتقلنا إلى مستشفى الشفاء واصطف عدد من مرافقي ياسر عرفات ومن المواطنين ومن المرضى ومن الأطباء للتبرع بالدم. والمهم أيضاً أننا أحضرنا كاميرات التلفزيون لتصور هذا المشهد. لم يرتح عرفات إلا إذا عندما تيقن أنه ليس هناك أي ضلوع فلسطيني في هذه العملية. وكان هذا متأخراً، يمكن في اليوم التالي أو الذي يليه، عندما تولى أسامة بن لادن الإعلان عن مسؤوليته. ياسر عرفات للأسف كان أيضاً لا يرى أن هذه العملية ستغير من اتجاه سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة وتجاه أعمال الإرهاب. فصل بين هذه العملية وما يمكن أن يكون عليه سلوك الولايات المتحدة. وهذا أدى لتدهور مكانته بالتدريج عند الأميركيين لحد القطيعة الكاملة».

العلاقة الشائكة مع حافظ الأسد

لم تقم علاقة عادية أو ودية أو طبيعية بين ياسر عرفات وحافظ الأسد. ذهب ياسر عبد ربه إلى دمشق بمهمة بعد التدخل العسكري السوري في لبنان سنة 1976 والتقى الأسد. سألته: ماذا قال لك الأسد؟ فأجاب عبد ربه: «جرى اصطدام عسكري في صيدا (جنوب لبنان)، وأيضاً بعض الاصطدامات والمناوشات في منطقة صوفر (جبل لبنان) وغيرها، وتوترت الأجواء وحصلت مواجهة مسلحة بيننا وبينهم (السوريين)، فارتأت القيادة في بيروت ألا ندخل هذه المرحلة من الصدام. وأعتقد أن عدداً من الدول، بما فيها دول الخليج والسعودية بالذات، تدخلت لوقف هذا الاصطدام واحتوائه وتهدئة الوضع، لذلك وافق السوريون على استقبال وفد من عندنا يلتقي مع الرئيس الأسد، فذهبت أنا وفاروق القدومي الذي كان وزير الخارجية، وهو طبعاً رئيس الوفد، والتقينا الرئيس الأسد.

للمرة الأولى يدخل الأسد متجهماً ومعالم الغضب على وجهه. كان من عادته أن يكبت مشاعره، ومن الصعب عليك أن تقرأ في معالم في وجهه ما يدل على أنه سعيد أو غضبان أو موافق أو غير موافق... يعني هذا من المستحيلات. جلسنا فبادر هو. طبعاً، قبل الدخول إلى الاجتماع اشترط عليّ القدومي أن نلعب لعبة مزدوجة، هو الطرف الهادئ والذي يحاول تليين الأمور وأنا الطرف المتشدد قليلاً، يعني المشاغب. طبعاً هو لأن جذوره «بعثية» ولا يريد أن يقطع الحبال نهائياً. المهم، فاجأنا الأسد فوراً وقال: «هيك بتعملوا؟» قلنا: خيراً يا سيادة الرئيس؟ قال: السوريون الذين دخلوا إلى صيدا قطعتم رؤوسهم وتلعبون بها «فوتبول» (كرة قدم) في الشوارع.

أول مرة نسمع هذه التهمة. كان هناك ضابط سوري يبدو تائهاً، فبدل أن يسلك طريق جزين سلك طريق صيدا ولم يجد نفسه إلا في وسط مدينة صيدا، في الساحة، ومعه دبابتان أو ثلاث دبابات... فوجئت الميليشيات الموجودة في صيدا بالأمر وأطلقوا على إحدى الدبابات قذيفة «آر بي جي»، فصار الجنود يصرخون: نحن جنود سوريون... لم يكن أحد «فاهم شو الطبخة»، فأمسكوا نحو 40 جندياً سورياً كانوا آتين بشاحنتين إلى المنطقة من دون حماية أو أي ترتيب مع أحد، وقائدهم ظل مستمراً من دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب. فشل عسكري ذريع. الشبان في صيدا، سواء كانوا فلسطينيين أو لبنانيين، أخذوا الأربعين جندياً ووضعوهم في مكان، مدرسة، وأطعموهم وشربوهم وتعاملوا معهم ليسوا بوصفهم أسرى حرب ولم يتعرضوا لهم بإيذاء، ونحن كنا متأكدين من هذا قبل أن نذهب (إلى دمشق)، وطلبنا من الجانب السوري أن يأتي ليأخذهم أو يتولاهم أحد. كان وقتها قراراً، حتى كمال جنبلاط، يعني: هل يعقل أن نأخذ أسرى سوريين؟

تصديت (لكلام الأسد) وقلت له: سيادة الرئيس، كيف هذا الكلام؟ أولاً من المعيب أن يستخدم أحد تعبير أسرى. الجنود السوريون ليسوا أسرى. ثمة خطأ وقع فيه قائد ووجد نفسه في صيدا، وعناصر الميليشيا في صيدا رأوا دبابات لا يعرفون لمن هي، فحصل احتكاك معها ولحسن الحظ لم يصب أحد بإطلاق النار، والأربعون جندياً موجودون وليس هناك قطع رؤوس. فقال: والله هذه هي التقارير التي وردتني، فهل يكتبون لي تقارير كذباً؟

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط»

قلت: نرجوك تأكد، ليس هناك أي شخص مصاب، ومن أجل زيادة في التأكد ليبعثوا أحداً أو أي جهة تتسلّمهم. نريد نقلهم بالباصات لكننا لا نعرف إلى أي جهة نرسلهم. قال: حسناً سأتأكد من الموضوع. وكانت حينها معركة تل الزعتر مفتوحة، فطلبنا منه أن يتدخل في معركة تل الزعتر لوقفها؛ لأنها ستنتهي بمجزرة، لأن المخيم محاصر ومطوق وعليه قصف، ولم نكن نريد أن نتحدث صراحة عن سلوك بعض ضباطه. قال: «بيصير خير». لم ينطق بأنه سيحاول المساعدة بل قال: «بيصير خير إن شاء الله». وطلعنا على هذا الأساس. طبعاً اتفقت مع الأخ فاروق ألا نروي كل الرواية؛ لأنه أولاً إذا رويتها فكثير أو البعض له علاقات مع سوريا ولم يقطعها، فلا نريد الإساءة إلى الرئيس الرمز».

«من قتل كمال جنبلاط؟»

زيارة أخرى صعبة لدمشق شارك فيها عبد ربه بعد اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط الذي عارض التدخل العسكري السوري في لبنان. وها هو يسترجع تلك المحطة: «عدنا من القاهرة بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني. وكان لا بد من أن نزور سوريا وحافظ الأسد لنطلعه على النتائج كشيء بروتوكولي معتادون عليه مع قيادتي مصر وسوريا. حصل اغتيال كمال جنبلاط بالتزامن مع دورة المجلس الوطني، أي قبل أيام من زيارتنا لدمشق. سمينا الدورة وقتها «دورة الشهيد كمال جنبلاط» تقديراً له. عندما دخلنا على الرئيس حافظ الأسد أخبره ياسر عرفات بأننا سمينا الدورة «دورة الشهيد كمال جنبلاط»، فسارع الرئيس الأسد إلى القول: من برأيك يا «أبو عمار» اغتال كمال جنبلاط؟

عرفات في حديث مع حافظ الأسد خلال احتفالات ذكرى الثورة الليبية في طرابلس عام 1989 (أ.ف.ب)

أنا جالس إلى جانب الرئيس (عرفات)، ومعي أعضاء آخرون من اللجنة التنفيذية - قيادة منظمة التحرير. أنا من الناس الذين بدأوا يتوترون بانتظار رد عرفات. عرفات على طريقته عندما يكون غير قادر على إعطاء جواب وأمام وضع محرج للغاية تصبح رجلاه تتحركان ويكرر الكلمات. بعد قليل قال له: من غيرهم يا سيادة الرئيس؟ من غيرهم؟ من غيرهم؟ فأنا خفت يقول: حضرتك يا سيادة الرئيس، فقال الأسد له: من تعني يا «أبو عمار»؟ فأجاب: طبعاً إسرائيل.

ارتحتُ قليلاً، لكن الأسد أكمل: لماذا تعتقد يا «أبو عمار» أنها إسرائيل وليس غيرها؟ فقال له: أنا أعرف المنطقة التي كان فيها كمال جنبلاط. تنزل نزولاً، وفي آخر النزول توجد تحويلة ثم تبدأ بالصعود. هم كمنوا له عند التحويلة، من يقدر يفعل ذلك غير إسرائيل؟».

عرفات لم يؤيد توسيع الحرب في لبنان

اتُهم ياسر عرفات بأنه حرض كمال جنبلاط على نقل الحرب إلى الجبل، هل صحيح هذا الاتهام؟ يجيب عبد ربه: «بصراحة، أبداً. أنا أعتقد أن كمال جنبلاط كان يريد من المقاومة الفلسطينية بقواتها كلها أن توسع الجبهة في الجبل، بل هو الذي يمكن أنه أشرف حتى على حشد قوات الحزب الاشتراكي (الذي يقوده) في منطقة الجبل، وفي المنطقة المشرفة على الكحالة، من عاليه نزولاً. وطلب اشتراك «فتح» في العملية.

«فتح» لم تشترك، وإذا اشتركت اشتركت بطريقة رمزية. الذي اشترك بقوة كبيرة أتصور «الجبهة الديمقراطية» وتمت خسارة نحو عشرين مقاتلاً من الجبهة التي تصدى لها الجيش اللبناني، ليس فقط «الكتائب» أو «القوات اللبنانية» أو غيره. ياسر عرفات فوجئ بالصعود إلى الجبل. أنا واثق بأنه لم يكن في خطته الصعود للجبل ولا التحول إلى بكفيا من ناحية ضهور الشوير والنزول، كما كان يتوقع آخرون.

الذي اندفع في هذا الاتجاه هم ضباط ما يسمى بـ«تكتل أبو موسى وأبو خالد العملة». ياسر عرفات لم يبد المعارضة الكافية لمنع انخراطهم في هذه العملية. لكن لم يكن القرار بادئ ذي بدء من عند عرفات. كمال جنبلاط كان متحمساً للعملية، الصعود إلى الجبل وكسر ظهر القوات الكتائبية وتطويق المنطقة. ما كان ممكناً لأحد أن يصعد إلى الجبل ومنطقة عاليه إلا بموافقة اشتراكية.

وياسر عرفات لم يكن مؤيداً أيضاً لاجتياح بلدة الدامور اللبنانية. ياسر عرفات لبنانياً لم يقطع محاولات إعادة الاتصال بالطرف الآخر كما يسمونه في لبنان، أي «الكتائب» وكميل شمعون والآخرين. وكان يحرص على أن يبقي «شعرة معاوية» بهذه الاتصالات، وكان يشجع المقربين منه مثل أبو حسن سلامة وأبو الزعيم على أن يواصلوا هذه الصلات. ياسر عرفات، عندما حصل اقتحام الدامور، وبعد قصة تل الزعتر، هو الذي دفع بمجموعات وبقوات من عنده لمحاولة عدم تحويل الموضوع إلى مجزرة.

وأكثر من ذلك هو الذي أجرى اتصالات، كما أعتقد، مع شمعون لكي يذهبوا إلى السعديات، ومن هناك يتم نقلهم عن طريق البحر... كان هنا بعض المجانين الذين ربما أرادوا ارتكاب شيء من المجزرة بالكنيسة في الدامور؛ لأن ثمة أناساً لجأوا إلى الكنيسة، فأرسل من يحمي الكنيسة. أنا واثق، لم يتورط ياسر عرفات في الدخول بحرب قذرة من هذا النوع».

مع محمود درويش وعرفات في شمال لبنان

عام 1983 رجع ياسر عرفات، الذي خرج في 1982 من بيروت، إلى طرابلس في شمال لبنان لمواجهة «الانتفاضة» في «فتح»، وعملياً للدخول في مواجهة مع سوريا. لماذا رجع؟ وما هي قصة زيارة ياسر عبد ربه مع محمود درويش لياسر عرفات في الشمال؟ يتذكر عبد ربه قائلاً: «كانت هناك نظرية سورية فيما بعد بأن ياسر عرفات الداهية هو الذي جاء إلى طرابلس من أجل استدراج السوريين لشن معركة ضده حتى يوصم أبو موسى وأبو خالد العملة وأبو صالح بأن حركتهم ليست حركة تصحيح، ولكنها حركة مدبرة سورياً، وأنه قد نجح إلى حد كبير في هذه العملية. هل كان ياسر عرفات فعلاً عنده مثل هذا المخطط في رأسه؟ أنا لا أستبعد من ياسر عرفات ذلك؛ لأنه كان يريد للاعبين الحقيقيين أن يظهروا على خشبة المسرح من دون أن يأتي أحد ويموّه بستارة فلسطينية أنه باسم الإصلاح في «فتح» قاموا بهذا التدبير. طبعاً خلال فترة حصاره، ذهبنا أنا ومحمود درويش.

محمود درويش ربما هو الذي حرضني وليس أنا من حرضه. محمود درويش كانت بينه وبين ياسر عرفات علاقة ملتبسة. هو يحب عرفات ويطمئن إليه، لكنه في الوقت ذاته يشك في أنه يرتكب مغامرات غير محسوبة أحياناً، ويتخذ قرارات غير قابلة للتراجع عنها. ويفضل عرفات المتردد أحياناً والذي يقوم بالشيء وبعكسه حتى يظل في الوسط من دون التورط الشديد. هو الذي حرضني، أنا متأكد، على الذهاب للقاء «أبو عمار». فذهبنا بالسيارة معنا سائق فقط. وعن طريق حمص (سوريا). ذهبنا ودخلنا إلى طرابلس. قبل طرابلس، إلى البداوي وتلك المناطق حيث يوجد ياسر عرفات من المنطقة الشمالية. وبالعودة نزلنا عن طريق بعلبك. كانت هناك سهولة في دخول لبنان وقتها.

دخلنا فوجدناه يشرف على عمليات الحفر في الجبل، والجبل كله طباشير (كلسي)، الجبل كله أبيض، حتى هو ثيابه بيضاء. المهم، «كيفك أبو عمار؟». قال: كما ترونني أنا أحضّر. سألنا: لماذا الخنادق والحفريات؟ لم نأخذ من عرفات جواباً نهائياً. قال: هذه ترتيبات عسكرية لا علاقة لكم أنتم بها ولا تفهمون في الشأن العسكري. جلسنا معه واطمأننا عليه. معنوياته لا بأس بها. كان ذلك في فترة الظهيرة، فقال: تتغدون معي. محمود درويش فيما يتعلق بالطعام حذر. فكان غداء ياسر عرفات علبتي سردين وحبتين من الطماطم. نظرت إلى وجه محمود درويش فلم يكن راضياً.

شارك درويش بالحد الأدنى. أكل قليلاً من الخبز. بعد ذلك طلبنا منه الإذن بالانصراف لنعود إلى الشام (دمشق) قبل مغيب الشمس ورجعنا عن طريق البقاع».

وهل كانت «حرب المخيمات» في لبنان جزءاً من الرد على سلوك ياسر عرفات؟ يقول عبد ربه: «كان واضحاً أن حركة (أمل) حرّكتها بإيعاز سوري، بتدبير سوري. وكانت ناتجة عن توسع دور «فتح» في الجنوب، وأيضاً تمدد إلى حد ما في مناطق الجبل بتواطؤ ضمني مع وليد جنبلاط الذي كان يمرر كثيراً من المساعدات ويؤوي أيضاً معسكراً على الأقل لـ«فتح»، على ما أذكر، وحركتهم في كل الاتجاهات عبر منطقة الشوف.

كان السوريون يعرفون ذلك، أن «فتح» تتمدد في الجنوب، فأوعزوا إلى «أمل» بأن تقوم بذلك، فتورطت «أمل» بحرب عديمة المعنى والجدوى. محاصرة المخيمات مثل مخيم شاتيلا أو غيره من المخيمات، ولاحقاً تم الرد عليها بعملية مغدوشة، وكانت أيضاً بذات الدرجة من البشاعة.

القسوة ضد عرفات «متوارثة» سورياً

هل صحيح أن رئيس أركان الجيش السوري العماد حكمت الشهابي كان شديد القسوة في الكلام عن ياسر عرفات؟ يجيب عبد ربه: «كان يبدو الموقف متوارثاً في قيادات الجيش السوري. مصطفى طلاس لم يكن يحب ياسر عرفات، وفي أحيان كان في بعض خطبه بذيئاً للغاية ويشتمه بشتائم سوقية ورخيصة، وحكمت الشهابي كان لا يطيق اسم عرفات أبداً. كان يجاهر بذلك أمامنا».

وعن صبري البنا «أبو نضال» وشخصيته، يقول عبد ربه: «التقيته في المرحلة العراقية عندما كان في بغداد، وبعدها لم أره. هو شخص نرجسي للغاية، معتز بنفسه وشديد الشكوك. يتلفت حوله أحياناً، وسريع الاتهام. إذا ذكرت اسم أحد أمامه يقول لك فوراً: هذا جاسوس. ربما هو تأثر بالتقاليد العراقية السياسية لأن تهمة الجاسوس في العراق مثل شربة الماء. هو لا يشعرك بالارتياح، رغم أنه في أوقات أخرى، كأنه كان عنده حالة انفصام فعلياً، تجده شخصاً هادئاً ولطيف المعشر، وفي وقت قصير ينقلب إلى نقيضه.

سبح أبو نضال في الدم الفلسطيني كثيراً كثيراً. وكان هذا عندما حصل التقارب السوري - الفلسطيني، بعد حرب أكتوبر وبعد ما صار هناك مشروع للسلام، وبعدما أعلنا عن خطة النقاط العشرة التي هي أول جنين لمشروع قبول دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة. فهذا كان بالنسبة للعراقيين ناقوس خطر، فبدأوا بالعمل ضد منظمة التحرير وضد «فتح»، ولجأوا لسياسة الاغتيالات. في الكويت اغتالوا السفير، في باريس اغتالوا السفير، في أماكن كثيرة».

القذافي وجاذبية عرفات

هل كان التفاهم بين ياسر عرفات ومعمر القذافي صعباً؟ يجيب عبد ربه: «صعب وسهل. القذافي كان شديد الترحاب بياسر عرفات، وكان ودياً في التعامل معه، وياسر عرفات يجرؤ على أن يحكي معه بلغة فيها بعض القسوة أو التأنيب، حتى إنه كان يناديه: يا معمر. ولم يكن يجرؤ على قول هذا الكلام لصدام أو لحافظ الأسد أو السادات أو سواهم. كان يقول له مثلاً: يا معمر أنت رايح فين؟ أنت غلطان. نعم. كان يقول له: أنت غلطان، وكان ينتقده أحياناً.

القذافي كان يتقبل ذلك كله؛ لأن «أبو عمار» كان يعدّ نفسه ليس فقط أقدم عمراً بل أقدم من حيث تاريخه النضالي، أقدم كثيراً من القذافي. القذافي ضابط صغير برتبة ملازم أو نقيب... «أبو عمار» لم يكن يعطي للقذافي درجة من الأهمية بسبب أن القذافي كان شحيحاً جداً في دعم «فتح» ودعم «منظمة التحرير». لم يكن يدعم المنظمة، بل كان يدعم تنظيمات وفصائل، ويختص بالدعم أحمد جبريل الذي كما يقول المصريون «أكل بعقله حلاوة». أوهم القذافي بأنه قائد عسكري من الطراز الرفيع.

عرفات كان مشاكساً في علاقته بالقذافي. والقذافي كان مضطراً لأنْ يحترمه ويعامله باحترام. طبعاً قام لاحقاً بتمويل (تمرد فصيل) «الانتفاضة» في «فتح» ضد عرفات. كانت لدى عرفات كاريزما، حقيقة، طاغية إلى حد بعيد. هناك من لم يكن يحتملها. أنا متأكد. حافظ الأسد لم يكن يحتملها. أحمد حسن البكر وكان أيضاً لا يطيق عرفات. صدام ربما لم يكن يشعر بمنافسة مع أحد؛ لأنه هو مقتنع بداخله أنه هو منذ نعومة أظفاره متفوق على كل البشرية. القذافي كان أيضاً يغار. تحس أن لديه بعض الغيرة، لكنه كان مضطراً أن يعامل ياسر عرفات باحترام».

هل كانت لدى عدد من الانقلابيين العرب عقدة جمال عبد الناصر؟ يقول عبد ربه: «نعم، هذه موجودة. في الحقيقة، عبد الناصر هو الذي افتتح عهد الضباط الذين يتحولون إلى رموز شعبوية في بلدانهم وعلى المستوى العربي. فكل منهم، حتى الذين ينتقدون، فيهم جزء من خطابية عبد الناصر، مفردات عبد الناصر، فردية عبد الناصر. ربما عبد الناصر كانت عنده مزايا يعني أخرى إيجابية، هنا صعب أن يكون أحد قد تشبّه بها، ربما. لكن عبد الناصر كان نموذجاً للديكتاتور العسكري العربي. والنسخ هي نسخ مشوهة عنه. بالنسبة إلى القذافي كان عبد الناصر، أصلاً، رمزه الأبوي، إن صح التعبير في إطار علم النفس. احتضنه عبد الناصر وشجعه واحتواه».

جمال عبد الناصر مع عرفات والقذافي والملك حسين في القاهرة عام 1970 (غيتي)

«غزة كانت مقدسة عند عرفات»

التقى عبد ربه بعرفات للمرة الأولى في «معركة الكرامة» عام 1968 في الأردن، وهي المعركة التي أعطت الشرعية لـ«فتح» ولعرفات. سألته: هل تفتقد ياسر عرفات اليوم؟، فأجاب عبد ربه: «أكيد، أكيد. لا أحد عرف ياسر عرفات، وبدرجات مختلفة وهم بعدد محدود، إلا ويفتقد دوره، ويتذكر كيف كان يتصرف في هذا الوقت. حتى مؤخراً، هناك من يؤكد أن ياسر عرفات ما كان ليسمح بكل المقدمات التي أوصلت إلى العدوان الأخير على غزة.

ما كان ممكناً أن يسمح بأن يحصل هذا الانقسام الذي وقع في الحركة الفلسطينية وخروج «حماس» عن بقية الأطراف وعن منظمة التحرير، ثم انفصال غزة عن الضفة. ياسر عرفات غزة كانت بالنسبة إليه مقدسة، وما كان ممكناً أن يغادر غزة ولو نفذت «حماس» مائة انقلاب. ليس بالضرورة أن يغزو غزة لكنه مستعد أن يدفع الثمن لـ«حماس» مقابل أن يضع قدمه في غزة مرة أخرى».

سألت عبد ربه كيف خرج من الأردن بعد الأحداث الدامية في 1970 فقال: «خرجت في 1971؛ إذ ظللنا في حالة اختفاء في عمّان بعدما سيطر عليها الجيش الأردني. ثم انتقلت إلى الأحراش في جرش وعجلون التي تجمعت فيها كل قوات المقاومة و(تعرضت) للقصف وإلى آخره. ثم عقد اجتماع للمجلس الوطني في يوليو (تموز) أو أغسطس (آب)، فطلبوا منا، أنا و«أبو جهاد» (خليل الوزير)، أن نغادر أحراش جرش وعجلون ونذهب إلى القاهرة لنحضر المجلس الوطني، فغادرنا برعاية عربية، وحصل اكتساح أحراش جرش وعجلون ونحن في القاهرة».

حقائق

من هو ياسر عبد ربه؟

ولد ياسر عبد ربه في يافا في 1945. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى لبنان. كان في سن الخامسة عشرة حين نجح السياسي اليساري اللبناني محسن إبراهيم في إقناعه بالانضمام إلى «حركة القوميين العرب». تابع في الجامعة الأميركية في القاهرة دراسته في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.

في 1968 كان إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد في تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وشارك في السنة التالية في تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وهو كان الرجل الثاني فيها بعد حواتمة. غادر الجبهة عام 1990 وأسس حزب «فدا»، قبل أن يتخلى عن قيادته ويعمل مستقلاً منذ 2004.

كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات في 1968 إبان «معركة الكرامة» حين تصدت المنظات الفلسطينية الناشئة بدعم من مدفعية الجيش الأردني لقوات إسرائيلية هاجمت بلدة الكرامة الحدودية. ربطته لاحقاً بعرفات علاقة ثقة وطيدة مكنته من لعب دور بارز في الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ترأس عبد ربه الجانب الفلسطيني في أول حوار مع الولايات المتحدة عام 1989، وكان شريكاً فاعلاً في ما عُرف بـ«مطبخ اتفاق أوسلو». وتولى بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة مناصب وزارية. وشارك في معظم لقاءات عرفات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.

تولى بين 2005 و2015 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخرج من منصبه في ختام تلك الفترة بعد خلافات علنية مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس. أتاح له دوره في منظمة التحرير المشاركة في لقاءات رفيعة مع زعماء من العالم العربي وخارجه. وربطته علاقة مودة عميقة مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.

متزوج من الروائية ليانة بدر، وله ولدان.

عبد ربه: عرفات ناشد صدام الانسحاب من الكويت لتجنب «نكبة جديدة»

كان ياسر عبد ربه، أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حاضراً في لقاءات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مع المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين. وكان حاضراً أيضاً في لقاءات عرفات مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في أعقاب الغزو العراقي للكويت. شهادته تكشف وتضيء وتصوّب. وهنا نص الحلقة الثانية:

سألت عبد ربه عما قيل إن الجانب الفلسطيني أضاع فرصاً في التفاوض مع الإسرائيليين بما في ذلك في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، فأوضح: «كامب ديفيد، الحقيقة، منذ ساعاتها الأولى دبت الشكوك عندنا وعند ياسر عرفات بالذات حول النوايا الأميركية، وليس الإسرائيلية. كان الرئيس بيل كلينتون حاضراً. قُدّم لنا في اليوم الأول مشروع أميركي يقتطع نحو أكثر من عشرة في المائة من أراضي الضفة الغربية وفيه قيود كثيرة وتفاصيل لا تقود إلى الحصول على دولة حقيقية فيها سيادة ولو منقوصة قليلاً، بالإضافة إلى موضوع القدس الذي تُرك غامضاً وخاصة موضوع الأماكن المقدسة.

هذا الغموض لم يكن غموضاً بناء، بل كان غموضاً يميل لمصلحة الموقف الإسرائيلي، لأن هذه المناطق ذات حساسية شديدة وياسر عرفات كان هذا الموضوع بالنسبة له غير قابل للمساومة أو البحث، خاصة الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية. أنا أستطيع أن أؤكد أن ياسر عرفات كان يعتقد أن أي مساس بهذا حتى لو حصلنا على غالبية مطالبنا في القضايا الأخرى سيعطيه بلا منازع لقب الخائن وليس المحرر للأرض الوطنية.

كان هاجس عرفات الرئيسي ألا يقال عنه إنه قد تنازل عما لم يتنازل عنه غيره عبر التاريخ، يعني صلاح الدين مثلاً الذي استعاد الأماكن المقدسة ولم يساوم عليها. لذلك، حتى موضوع حائط المبكى، كما يقال، ياسر عرفات لم يستسلم للموقف الإسرائيلي باعتبار أن هذا الحائط هو حائط يهودي. كان يقول إن هذا الحائط هو حائط البراق، حسب المفهوم الإسلامي لهذا الحائط. وبالتالي كل الأماكن المقدسة، خاصة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، كانت بالنسبة لياسر عرفات هي العنوان الذي يمكن من خلاله أن يدخل التاريخ، مدخلاً وطنياً أو مدخل تفريط وخيانة.

أميركا «فقدت دور الوسيط» في كامب ديفيد

لنرجع إلى كامب ديفيد. عندما قُدم هذا المشروع الأميركي أثار عندنا ضجيجاً شديداً ورد فعل قاسياً، إذ لم نبدأ التفاوض أصلاً مع الإسرائيليين، فكيف يتقدم الأميركيون بهذه الصيغة وكأنها صيغة حل وسط تحتوي على انحياز أكثر للمواقف الإسرائيلية. في اليوم التالي، سُرعان ما سحب الأميركيون هذا المشروع من أجل إتاحة المجال للمفاوضات حول كل النقاط، نقاط الوضع النهائي بما فيها الحدود والأرض والقدس والاستيطان واللاجئين وغيرها.

عرفات مع كلينتون وباراك في قمة كامب ديفيد عام 2000 (أ.ف.ب)

هذا الانسحاب السريع لم يطمئننا، بل أثار عندنا شكوكاً عميقة بأن الأميركيين هذه هي نواياهم، وهذا الانسحاب هو مجرد تراجع تكتيكي من قبلهم. هذا كان الشرخ الأول عند المفاوض الفلسطيني وعند ياسر عرفات في مسار العملية التفاوضية وفي أخذ هذه العملية كعملية جدية وفي الركون إلى الموقف الأميركي بالذات. الأمر الثاني، كان ياسر عرفات يلح على ضرورة أن يجلس هو مع إيهود باراك ثنائياً لكي تتم معالجة كل القضايا قبل إحالتها إلى اللجان الثنائية التي شُكلت، حول الحدود وحول القدس وحول اللاجئين وغيرها.

إيهود باراك كان يتهرب من أي لقاء ثنائي مع ياسر عرفات، وكان يفضل اللقاءات التي تجمعه مع ياسر عرفات بحضور كلينتون والطرف الأميركي، وكأنه يريد الاستعانة بالموقف الأميركي علينا. قضى ياسر عرفات أياماً وساعات طويلة يستظل بالشمس أو يستمتع بأشعة الشمس، وكان هناك مندوب إسرائيلي يدعي أنه قريب منا وقريب من موقفنا ليس له وضع رسمي، يدعى (يوسي) غينوسار. كان يأتي بيننا وبين إيهود باراك ويحاول تهدئة ياسر عرفات لأنه يجلس بلا عمل عملياً.

نحن كنا نذهب للقاءات في لجان قد شُكلت، لكن هو لا يلتقي به ولا يحاوره محاورة فعلية حتى تسير اللجان وفق هذا المنهج. استُعيض عنها بلقاءات ثنائية بين ياسر عرفات وكلينتون، وهذه اللقاءات كانت حقيقة تدور في فراغ لأنه لم يكن يحكمها منهج تفاوضي. كانت هناك قضايا مثلاً يجري الحديث عنها في هذه اللقاءات. دارت هذه اللقاءات كثيراً حول موضوع القدس وكيفية معالجته. طرحت أفكار أميركية لكن في واقع الأمر أنها أفكار أميركية وإسرائيلية. أو هكذا كان شعورنا منذ اليوم الأول أن التنسيق جارٍ في عرض المشاريع والصيغ بين أميركا وإسرائيل ونحن خارج هذا التنسيق. فإذن دور الحكم دور الوسيط، ولو شكلاً، فقد من قبل الأميركيين.

كلينتون حمّلنا الفشل... وأخطأنا بتأخير الرد

كيف انتهت كامب ديفيد؟ يقول عبد ربه: «انتهت كامب ديفيد بأننا لم نتمكن من الوصول إلى اتفاق على أي من القضايا الرئيسية. واتفق في آخر لقاء تم بين ياسر عرفات وكلينتون على أن ترفع هذه الاجتماعات ونعود بعد أسبوعين نواصل خلالها الحوار مع الجانب الإسرائيلي لنكون أكثر جاهزية في الدخول في تفاصيل القضايا المركزية وكيفية معالجتها والتوصل إلى حلول مناسبة لها. لا أقول حلولاً وسطاً، ولكن أقول حلولاً مناسبة للطرفين.

هذا كان الاتفاق بوجودي مع كلينتون، وياسر عرفات كان حذراً وطلب من كلينتون ألا يعلن عن نتائج. أي لا يعلن عن الفشل. والأهم من ذلك ألا نحمل نحن مسؤولية الفشل. وعد كلينتون بأن يتقيد بهذا وألا يحملنا مسؤولية ولا يحمل الإسرائيليين. أمضينا أسبوعين من دون تقدم جوهري. يمكن بعض اللجان حققت شيئاً من التقدم. بموضوع الحدود لم نصل إلى تقدم حقيقي، وكانت الهوة واسعة بيننا وبين الإسرائيليين، بين تعديلات في الحدود بنسبة اثنين إلى ثلاثة في المائة، بينما يتحدث الإسرائيليون عن 15 في المائة. في موضوع اللاجئين، لا تقدم على الإطلاق. وفي موضوع القدس، لا تقدم على الإطلاق. لكن اختبرنا مواقف بعضنا بعضاً. عرفنا ما هو الحد الأقصى عند كل طرف من الطرفين.

وعد كلينتون ألا يلعب دوراً في عملية تحميل المسؤولية. خرجنا من كامب ديفيد. وأنا كنت في السيارة التي خرجت من كامب ديفيد إلى مطار واشنطن، والأمر يستغرق ساعتين أو ثلاثاً. عند وصولنا إلى المطار، تسلمنا مكالمة تليفونية، وقال لنا بعض الصحافيين الذين كانوا موجودين إن كلينتون عقد مؤتمراً صحافياً وحمّل ياسر عرفات المسؤولية الكاملة عن عدم الوصول إلى نتائج وعن الفشل. فغضب عرفات غضباً شديداً جداً، لكن كي لا يقود نفسه إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، طلب من أعضاء وفدنا الذين لا يزال بعضهم في كامب ديفيد ألا نعلق على ما قاله كلينتون ولا نرد عليه بنفي هذه المزاعم.

كان هذا خطأ أدركناه لاحقاً، وهو أنه كان يجب أن نرد مباشرة. وللأسف أنا كنت من الذين نصحوا بأن نتريث ولا نقوم بالرد حتى نطلع على تفاصيل ما قاله وحتى نسمع من الأميركيين أنفسهم، فربما عندهم بعض التفسيرات. وأخذتنا الرحلة إلى غزة مرة أخرى ساعات طويلة. تناقل خلالها الإعلام العالمي كله الموقف وتحميلنا المسؤولية من قبل الأميركيين.

عندما وصلنا إلى غزة ربما كنا قد أضعنا وقتاً كثيراً، بحيث رسخ في وعي العالم أننا نحن الذين أفشلنا تلك المفاوضات. الرئيس الأميركي فسّر لبعض العرب، ربما بعض ممثلي الدول العربية في واشنطن، لماذا قام بذلك، ولماذا أخل بتعهده مع ياسر عرفات، قائلاً إنه لو تركت القضية معلقة وبفشل كامل من دون تحميل عرفات المسؤولية، فهذا سيضر بموقع إيهود باراك ويضعفه. والانتخابات قريبة مما سيؤدي إلى فشله في الانتخابات. بالتالي فضّل أن يلصق التهمة بعرفات وأن يبرئ باراك لإنقاذه من تبعات هذا الفشل داخلياً في إسرائيل».

فرصة ضائعة في طابا

بعد ذلك بأشهر، قدم كلينتون مشروعه الخاص كي نتفاوض حوله، وهي خطة كلينتون. وكان ذلك في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2000، وكان قد بقي بضعة أسابيع لكلينتون في السلطة وكان هذا المشروع متقدماً على بقية المشاريع التي عرضت علينا في كامب ديفيد، وفاجأنا هذا المشروع. تبعت ذلك مفاوضات عقدناها في طابا المصرية بيننا وبين الوفد الإسرائيلي، وتمكنّا في هذه المفاوضات استناداً لمشروع كلينتون من تحقيق تقدم يصل، حسب قول الإسرائيليين وقتها وليس نحن فقط، إلى إغلاق 80 إلى 90 في المائة من قضايا الاتفاق النهائي.

ياسر عبد ربه في نقاش جانبي على هامش مفاوضات طابا مطلع 2001 (أ.ف.ب)

وصلنا إلى سؤال: هل نوقع على ما اتفقنا عليه ونترك 10 في المائة مثلاً لمفاوضات لاحقة؟ ذهبنا إلى ياسر عرفات في غزة لكي نسأله رأيه. الوفد الإسرائيلي اختلف أمامنا بين من وافق على أن نوقع رغم أن هناك انتخابات إسرائيلية بعد أسابيع قليلة، وبين من قال لا نستطيع القيام بهذه الخطوة لأن هذه حكومة انتهى مفعولها، وستأتي حكومة بديلة بعد أسبوعين. وكان الجميع يشتّم أن (رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل) شارون سيأتي. نحن كان لدينا تردد، عند ياسر عرفات، والإسرائيليون كان عندهم تردد. وكان هناك جناح يقول: لنوقّع ونضع شارون والحكومة الإسرائيلية القادمة أمام الأمر الواقع. وأنا كنت من الطرف الفلسطيني الذي يعيش في تردد ويقلق مما سيكون عليه موقف عرفات، فضاعت هذه الفرصة.

أين المسؤولية؟ المسؤولية عند ثلاثة أطراف: عند الولايات المتحدة وكلينتون الذي قدم مشروعه الحقيقي متأخراً، أي قبل أسابيع من رحيله. عند الجانب الإسرائيلي الذي كان قد وصل إلى توقيت ما قبل الانتخابات في إسرائيل ومجيء شارون الحتمي حسب استطلاعات الرأي إلى السلطة وفشل إيهود باراك. ونحن الذين كنا لا ندري ماذا نفعل: أنوقع مع الراحلين كلينتون وباراك، أم ننتظر مجيء الرئيس المقبل، وخصوصاً أنه جاءتنا إشارات من شخصيات فلسطينية ومن شخصيات عربية أن جورج بوش إذا جاء، وهو على الأغلب سيأتي، سيكون أكثر سخاء وأكثر فعالية في الوصول إلى تسوية، فتريثوا فيما يتعلق بالتوقيع.

أنا لا أريد أن أحمّل مسؤولية للآخرين، لكن حتى هذه اللحظة تساورني الحيرة: هل كنا على حق وصواب أم لا؟ أما اختصار الموضوع أن «كامب ديفيد» فشلت وأن الجانب الفلسطيني تلقى عرضاً سخياً ورفضه فهو كلام فارغ، والدليل أن كلينتون جاء بمشروعه بعد «كامب ديفيد» ببضعة أشهر، وطلب من الطرفين اللذين عجزا عن الوصول إلى نتيجة نهائية في مفاوضات طابا التي قطعنا فيها مسافة كبيرة».

باراك مناور... وبيريز مفاوض بارع

وعن التجربة العدائية مع آرييل شارون، يقول عبد ربه: «في الواقع لم يتسنَ لنا التعامل المباشر مع شارون. وأستطيع القول إن انعدام الثقة عند ياسر عرفات كان شديداً بالنسبة لإيهود باراك. لم يكن بهذه الحدة، لا مع رابين الذي كان يعتقد أنه جاد فعلاً بالتوصل إلى اتفاق إلى حين اغتياله، ولا مع شيمعون بيريس، الذي كان شعور عرفات تجاهه في صعود وهبوط. كان بيريس يدعي المرونة الشديدة، ثم ينتقل إلى التطرف، وهو كان مفاوضاً حقيقياً وبارعاً. فكان يضع ياسر عرفات في هذه الخانة. لا يعطيه الانطباع النهائي لا هو متشدد ولا هو متساهل أو مرن.

يرى عبد ربه أن بيريز كان مفاوضاً بارعاً يعرف كيف يرواغ عرفات (أ.ف.ب)

كنا قد توصلنا إلى اتفاق مع بنيامين نتنياهو قبلها في «واي ريفر» (في 1998) على الانسحاب من 13 في المائة من الضفة الغربية، ووثقت هذه بجهود كلينتون. وكان اتفاق «واي ريفر» خطوة قبل كامب ديفيد، وتضمن إطلاق عدة مئات من الأسرى واتفاقات أخرى حول التسهيلات للسلطة الفلسطينية. لم ينفذ نتنياهو أياً منها رغم أننا قد وقعنا عليها بعد جلسة ماراثونية عقدها كلينتون معنا ومعهم في قاعة مدرسة هناك استغرقت من صباح اليوم الأول، لمدة أربع وعشرين ساعة، حتى صباح اليوم الثاني. وصلنا إلى هذه الاتفاقات بضغط شديد من كلينتون. قَبِل نتنياهو وطبعاً لم ينفذ.

عندما جاء إيهود باراك عقدنا أول اجتماع معه ومع وزير خارجيته ديفيد ليفي، بعد أسبوع أو أسبوعين، طالبناه بأن ينفذ اتفاق «واي ريفر»، الذي عقدناه مع نتنياهو، ولا يستطيع أحد أن يزايد عليه إسرائيلياً، فرفض باراك وحجته كانت أنه: لماذا لا نجلس نحن وأنتم لمدة ستة أشهر وبدل أن أعطيكم 13 في المائة سأعطيكم الباقي كله، أعطيكم كل شيء بمفاوضات مكثفة.

طبعاً كان باراك مناوراً لأنه ثبت بالتجربة معه أنه ظل يتملص ويراوغ ولا يصل إلى أي اتفاق حقيقي. ما حصل أن عرفات كان يقول له: لماذا لا ندمج بين الموضوعين؟ تنسحب من الـ13 في المائة وفي الوقت نفسه نتفاوض على ما تبقى. لماذا لا تلتزم بما وافق عليه نتنياهو؟ لا يستطيع أحد أن يتهمك بشيء داخل إسرائيل، حتى اليمين المتطرف. رفض إيهود باراك ذلك.

«صبيانية» شارون مع عرفات

رفض شارون مصافحة عرفات. وكان هذا عملاً، في الحقيقة، صبيانياً من شارون، وعملاً شعبوياً ربما وسط التيار اليميني واليمين المتطرف الذي يسانده. لم تكن لذلك قيمة. عملياً شارون هو الذي كان وراء اندلاع الانتفاضة الثانية، وهو الذي قاد الحالة إلى تدهور مستمر، ثم وقعنا في خطأ استفاد منه شارون ووضع الأميركيين في زاوية، وهو السفينة «كارين إيه» التي كانت مملوءة بالسلاح، والتي جاءت عملياً من إيران. جاءت من جزيرة إيرانية، جزيرة كوش، كما قيل، وراقبها الطرفان الأميركي والإسرائيلي منذ لحظة انطلاقها حتى وصلت إلى المياه الإقليمية ثم أوقفوها، واتُهم ياسر عرفات بأنه وراءها.

كلام للتاريخ. ياسر عرفات أنكر كلياً أن تكون له معرفة بها، وحتى عندما طلب جورج بوش وبعض المقربين منه، بمن فيهم (وزير الخارجية الأميركي السابق) كولن باول، أن يعترف عرفات بالمسؤولية لأن اعترافه سيخفف الضغط في هذا الموضوع والتركيز عليه، أصر ياسر عرفات على أنه لا يتحمل المسؤولية.

طبعاً، لا يمكن أن يتم أمر من هذا النوع من دون معرفة عرفات بالتأكيد. والأشخاص الذين حاولوا إدخال هذا الكم من الأسلحة معروفون بأنهم مقربون من عرفات. هذه الأسلحة حتى بالكم والنوع، لم تكن لتؤدي إلى تغيير في موازين القوى، خصوصاً العسكرية ولا تهز أو تؤثر على تفوق إسرائيل العسكري. لكن استخدمت دلالةً على أن عرفات ليس خياره الوصول إلى تسوية وحل، بل الخيار العسكري. وحصلت في تلك اللحظة بعض العمليات ذات الطابع الانتحاري التي جرت داخل إسرائيل والتي مكنت الجانب الإسرائيلي من أن يخمد المحاولات الأميركية لإعادة الاعتبار والحياة للعملية السياسية.

خطأ عرفات في الانتفاضة الثانية

هل ساهمت إيران في تقويض اتفاق أوسلو عبر العمليات الانتحارية؟، يجيب عبد ربه: «لا أعتقد أن إيران كانت ضالعة فيما يتعلق بالعمليات الانتحارية. هذه عمليات كان المسؤول عنها بالدرجة الأساسية حركة «حماس». هناك فصائل أخرى يمكن قامت ببعض هذه العلميات. لا أذكر أن «الجهاد» كانت لها فعالية كبيرة فيما يتعلق بهذا الأمر. إنما صار ذلك جزءاً من حالة دخلت فيها الانتفاضة الثانية إلى العمل ذي الطابع العسكري نقيضاً للانتفاضة الأولى ولبدايات الانتفاضة الثانية حين كانت طابعها شعبياً حتى لو تخلله بعض العمليات العسكرية، فهي لم تصل إلى حد استهداف وتقصد استهداف مواقع مدنية داخل المدن الإسرائيلية.

أعتقد أن عرفات أخطأ في تلك المرحلة. خطأ غير قليل وهناك من يعدُّه خطأ مميتاً، خصوصاً أن ياسر عرفات أوحى لحركة «حماس» بأنه يرضى عن هذه العمليات كعنصر ضغط على الإسرائيليين، وهناك من قال وشهد أن ياسر عرفات قال لبعض قادة «حماس»: نحن كنا خصوماً في الماضي، والآن تحولنا إلى ما يشبه الحلفاء، نتيجة المشاركة في هذه العمليات. أنا ليست لدي أدلة على هذا القول، ولكن بطبيعة الحال كان هناك العديد من المبعوثين الدوليين يأتون ويذهبون ليطالبوا عرفات بإدانة هذه العمليات، فكان يرفض إدانة العمليات بذاتها ولكن يدين أي عمل يستهدف المدنيين ومن الجانبين».

هل كانت هالة ياسر عرفات عائقاً أمام انتشار «حماس» وكيف كانت علاقته بها؟، يقول عبد ربه إن عرفات في مرحلة ما كان شديداً في حزمه ضد حركة «حماس». شديداً للغاية إلى حد الاعتقالات. وأستطيع أن أقول إن في المرحلة الأولى من قيام السلطة في مرحلة إسحاق رابين وما تلاها إلى بداية عهد نتنياهو عندما جاء إلى السلطة عام 1996، كان على استعداد لاعتقال ومطاردة قادة «حماس» وكان يكلف أجهزتنا الأمنية بالقيام بمثل هذا الدور.

عندما تغيّر الاتجاه داخل إسرائيل، وخاصة مع بدء الانتفاضة الثانية وزيارة شارون الكارثية إلى المسجد الأقصى ثم اندلاع الهبة الشعبية، بدأت هذه العمليات. وكان عرفات يرى فيها وسيلة ضغط على الإسرائيليين، من دون أن يتورط هو شخصياً في هذا الأمر.

قبل هذا لابد من أن نستذكر أن التحول نحو تأييد للعمليات العسكرية، بما فيها ضد أهداف مدنية، لم يأتِ هكذا دفعة واحدة. بعد مقتل رابين وفترة انتقالية جاء فيها شيمعون بيريس وجرت انتخابات جاء فيها نتنياهو إلى السلطة في 1996، عقد أول لقاء مع نتنياهو في قاعدة عسكرية إسرائيلية على حاجز إيريز، كما نسميه، عند مدخل غزة.

لقاء بين عرفات ونتنياهو عند حاجز ايريز بين غزة وإسرائيل (أ.ف.ب)

كنت مع ياسر عرفات في ذلك اللقاء مع نتنياهو ولم يكن قد التقى به قبل ذلك. كان هناك شخص ثالث في هذا اللقاء، ولكن لا أذكر من. نتنياهو بدأ اللقاء بالقول: سيد عرفات أنت تعرف موقفي من اتفاقيات أوسلو التي وقعتم عليها مع شيمعون بيريس وإسحاق رابين، أنا كنت ضد هذه الاتفاقيات، وهذه حكومة جديدة في إسرائيل، وأنا أقول لكم إن هذه الاتفاقيات بالنسبة إلينا قد انتهت وسنستبدل بها قاعدة جديدة اسمها «التبادلية»، بمعنى أنه إذا قمتم بخطوة إيجابية فسنقابلها بخطوة إيجابية من قبلنا، وإذا قمتم بأي شيء سلبي سنقابله بشيء سلبي. بلا مرجعية، المرجعية هي «التبادلية»، قوموا بخطوات إيجابية إذا رضينا عنها سنقابلها بخطوات إيجابية.

كنت في هذا اللقاء مع ياسر عرفات وتقدمت بسؤال إلى نتنياهو: إذا افترضنا أننا سنقبل ذلك، ورغم أننا لا نقبله لأننا نحن وقعنا الاتفاق في أوسلو مع دولة إسرائيل وليس مع حكومة إسرائيلية، وهذا الاتفاق ملزم لكم كما هو ملزم لنا فلا يمكن أن تجري الاتفاقات بين الدول على قاعدة أن تتبدل مع تبدل الحكومات وإلا أصبح العالم غابة. هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية، إذا قمنا باعتماد هذا المبدأ «التبادلية» من يكون الحكم على أن أي خطوة من قبلنا ستكون إيجابية أم سلبية؟ كافية أم غير كافية؟ ومن يكون الحكم عليكم؟ فقال: نحن سنحكم. قلت: إذن أنتم الخصم وأنتم الحكم.

ظهرت ملامح الفشل فطلب عرفات أن يلتقي معه على انفراد في جلسة لمدة نصف ساعة أو أكثر ثم خرج. وفي الطريق إلى غزة، قال لي: «ما فيش فايدة. هذا الرجل يريد أن يدمر «أوسلو» ويدمر الاتفاقات. منذ لحظتها انتقلنا من ياسر عرفات الذي كان يضع رهانه كله على العملية السياسية إلى ياسر عرفات الذي صار أكثر حذراً وصار يعتبر أن إنقاذ العملية السياسية يعني، ليس مستحيلاً، بل أمامه مصاعب هائلة».

صدام قال لعرفات: أرى أنوار القدس كأنوار بغداد

سألت عبد ربه إن كان عرفات أخطأ في تقدير خطورة الغزو العراقي للكويت عام 1990، فأجاب: «بالتأكيد أخطأ. ياسر عرفات كان، في داخله على الأقل، لا يقبل هذا الغزو على الإطلاق. ولكن كان يخاف من التعبير عن ذلك حتى لا يفقد العلاقة مع العراق، عراق صدام حسين في ذلك الوقت. لم يكن مؤيدو ياسر عرفات كثراً في المنطقة، وخاصة بفعل العلاقة المشحونة والمتوترة مع (الرئيس السوري الراحل) حافظ الأسد. الاغتراب في تونس لسنوات غير قليلة. وأيضاً لأن العلاقة مع الأردن لم تكن علاقة قد رست على أساس إيجابي، وظل فيها بعض المشاحنات والتوترات. طبعاً علاقة ياسر عرفات مع دول الخليج كانت علاقة جيدة في ذلك الوقت. اختار عرفات أن يمسك العصا من المنتصف اعتقاداً منه بأن الأمر سينتهي بلا حرب، أي بتسوية وبتراجع صدام، وبالتالي ستعود العلاقات العربية - العربية، لكن ربما لن تعود العلاقات الفلسطينية - العراقية إلى سابق عهدها إذا خسر العلاقة مع صدام خلال الأزمة.

صدام خلال اجتماع مع عرفات في بغداد في مايو 1990 (غيتي)

طبعاً كان عرفات يأخذ في الاعتبار الدعم الذي يقدمه صدام لمنظمة التحرير. لا أستطيع أن أقارنه بدول الخليج ككل، إنما كان يدعم بشكل فعال. وكان، أهم من الدعم، يفتح طريق العراق لاتصالات عرفات مع الضفة الغربية وغزة عبر الأردن، أي كان يقدم دعماً لوجيستياً وليس فقط مالياً، وحرية الحركة والعمل لعرفات. كان يذهب إلى بغداد يتصل مع من يريد، يقيم علاقات سياسية، ينام مطمئناً. لم يكن يشعر بالاطمئنان الكامل في تونس، حيث تعرض لمحاولة اغتيال. لذلك اختار عرفات إمساك العصا من المنتصف. وظل على هذا الموقف محاولاً البحث عن تسوية وساعياً نحو تسوية».

كنت إلى جانب عرفات حين التقى صدام حسين أكثر من مرة بعد غزو الكويت. ماذا كان موقف عرفات؟، أجاب عبد ربه: «بأمانة طلب منه بوضوح وناشده أن ينسحب. كنا قد التقينا صدام في بيت أو فيلا متواضعة في حديقة الزوراء وهي حديقة أساسية في بغداد. كان ياسر عرفات وحده، ودُعيت أنا إلى اللقاء.

كان «أبو عمار» (عرفات) منفتحاً مع صدام، وقال له إن لديه مخاوف من أن يتعرض العراق لكارثة. صدام كان يحاول إقناعه أن كل هذا من أجل فلسطين. «أبو عمار» استخدم الجملة الشهيرة التي كررها أكثر من مرة: نحن مررنا بالنكبة منذ خمسين عاماً، ويمكن أن ننتظر أيضاً خمسين عاماً لكي تحل قضية فلسطين. لكن لا نريد نكبة أخرى تصيب العراق. لا نريد نكبة أخرى اسمها نكبة العراق. هذه، أنا شاهد، أنه قد كررها، حتى في لقاء كان فيه الملك حسين وعلي سالم البيض، ممثلاً عن اليمن الموحد، وكان حينها نائب الرئيس. ياسر عرفات قال في هذا اللقاء: لا أريد نكبة أخرى اسمها نكبة العراق.

بعد أن انتهينا في حديقة الزوراء من اللقاء، صدام قال له: «اطمئن يا (أبو عمار). أنا عملت حساباً لكل شيء». ولم نفهم ما هو الشيء الذي حسب حسابه، أمسكه من يده ووقفنا على باب الفيلا وأمامنا كانت بغداد في الليل، فقال له: يا «أبو عمار» إني أرى أضواء القدس كما أرى أضواء بغداد الآن أمامي. يعني استعادة القدس.

في الاجتماع الذي سبق، وكان رباعياً، اليمن والأردن ونحن والعراق، قال له «أبو عمار» هذا الكلام، ومن رد على «أبو عمار» (كان) طارق عزيز وقال له: يا «أبو عمار» نحن نريد أن نحرر لك فلسطين ونستعيد لك القدس وأنت ترفض؟ هل هذا الكلام معقول؟ نحن نريد أن نضع كل ثقل العراق ونغامر بالعراق حتى نستعيد القدس وأنت ترفض، هل يعقل هذا الكلام؟

سعدون حمادي أيضاً أكمل كلامه لنا في الخط نفسه. رفع الاجتماع وطلب من وزراء الخارجية، أن يذهبوا لصياغة البيان الختامي مع طارق عزيز ووزير خارجية اليمن الموحد ووزير خارجية الأردن مروان القاسم. كنت بمثابة وزير الخارجية لأنه لم يكن أحد غيري مع ياسر عرفات. كان معنا السفير، كان (المسؤول السابق في منظمة التحرير) الأخ عبد الله الحوراني معنا أيضاً.

طارق عزيز طلب التحذير من «نكبة العراق»

خرجنا، وأمسكني طارق عزيز وكنت أعرفه جيداً، وقال: أرجوك أن تجعل «أبو عمار» يؤكد على الكلام الذي قاله في الاجتماع حول القدس وحول العراق والنكبة، لا نريد نكبة اسمها نكبة العراق. أصابتني الدهشة لأن أول واحد تبرع للرد على «أبو عمار» هو طارق عزيز.

عرفات وعبد ربه والمستشار الرئاسي بسام أبو شريف خلال قمة مغاربية في الجزائر لدعم الانتفاضة عام 1988 (غيتي)

كان طارق عزيز يعرف جيداً خطورة الغزو، لكنه كان مضطراً أن يرد أمام الرئيس. أنا دهشت، فكررها عليّ طارق عزيز، فقلت له: طيب. رجعت فوجدت الرؤساء مجتمعين وحدهم وياسر عرفات معهم، فاستأذنت وقلت له: يقول لك طارق عزيز كرر على الرئيس صدام الكلام نفسه أنه لا نريد نكبة جديدة اسمها نكبة العراق. لازم إيجاد تسوية للأمور. قال لي: من؟ قلت له: طارق عزيز يقول لك كررها. قال: هل أنت متأكد؟ قلت: نعم، قبل دقيقتين سمعتها منه. طلبت منه أن يعيد الكلام مرتين. فكّر للحظة ثم قال لي: طيب طيب. لا أعرف إن كان كرره أم لا. هكذا كانت الأمور تجري».

في 1973، كان عبد ربه في عداد وفد زار بغداد والتقى القيادة العراقية التي كانت تدعم بشدة القيادي المنشق عن حركة «فتح» صبري البنا الشهير بـ«أبو نضال». سألته عن صحة ما يقال عن أن الرئيس أحمد حسن البكر كان يكره ياسر عرفات، فأجاب: «كان يكرهه بشدة. ويستخف به وبطريقة جلفة. دخلنا عليه فقال: كيف رئيسكم؟ كيف قائدكم؟ لم يكن «أبو عمار» اسمه رئيس حينها. قلنا له: بخير ويهديك السلام. فقال: أدز (أرسل) له موسى يحلق به ذقنه؟ هل يربي ذقنه لأنه مناضل فلسطيني، هل تحتاج القصة إلى ذقن؟ كلام من هذا القبيل، شيء مقزز. كان صدام حسين موجوداً وهدّأه قليلاً.

كان الجو متوتراً نتيجة لأحداث «أيلول الأسود» في الأردن في 1970. كانت لدينا أوهام، نحن الفلسطينيين، بأن الجيش العراقي الموجود في الأردن سيتدخل لصالحنا ضد الجيش الأردني. ولكن ذلك لم يحصل، لأن صراع البعثين، حزب البعث السوري مع حزب البعث العراقي، هو الذي كانت له الأولوية. فلما دخل الجيش السوري الأردن، صار العراق يتصور أن أي دخول من جانبه هو تقوية للتدخل من قبل «البعث» السوري، خصمه الحقيقي والأول والأخير. لذلك ارتأوا ألا يقوموا بأي تدخل حتى لا تميل الكفة ويقطف ثمارها «البعث» السوري.

دور القذافي في اغتيال «أبو إياد»

في اللقاء مع صدام في حديقة الزوراء، كان صلاح خلف «أبو إياد» يجب أن يحضر اللقاء، لكنه تذرع في اللحظة الأخيرة بأن عنده مغص معوي، فلم يأتِ. وصدام سأل عنه لأنه كان قد علم أنه سيأتي، سأل عنه فقلت إنني رأيته في الفندق وقال: عنده مغص. لم يبلع هذه الحجة واعتقد أنها لون من ألوان المقاطعة، ولذلك توجهت شكوكنا إلى صدام بأنه هو الجهة التي قامت باغتيال «أبو إياد» فيما بعد. لكن ثبت لاحقاً أنه معمر القذافي وبيد «أبو نضال» الذي كان لاجئاً وقتها في ليبيا.

بيد «أبو نضال» والقرار من معمر القذافي؟، يجيب عبد ربه: «بموافقة معمر القذافي. لم يكن «أبو إياد» ودياً تجاه معمر وكان ينتقده، وكان مقلاً، إن لم يكن منقطعاً، عن أي زيارة إلى ليبيا أو على أي صلة معه. كان معمر يناصبه العداء أو الحذر أو الكراهية.

العملية تمت انطلاقاً من ليبيا، مجيء الشخص من ليبيا، شخص تابع لـ«أبو نضال». طبعاً أحقاد «أبو نضال» ضد «أبو إياد» عميقة وقديمة، وما دام هو في ليبيا وتحت سمع وبصر الليبيين في الحد الأدنى يجب أن يبلغهم عن نواياه، إن لم يكونوا ضالعين معه. أنا تقديري أنهم كانوا ضالعين ولم يكن عندهم مانع من الخلاص من «أبو إياد».

غداً حلقة ثالثة وأخيرة

حقائق

من هو ياسر عبد ربه؟

ولد ياسر عبد ربه في يافا في 1945. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى لبنان. كان في سن الخامسة عشرة حين نجح السياسي اليساري اللبناني محسن إبراهيم في إقناعه بالانضمام إلى «حركة القوميين العرب». تابع في الجامعة الأميركية في القاهرة دراسته في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.

في 1968 كان إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد في تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وشارك في السنة التالية في تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وهو كان الرجل الثاني فيها بعد حواتمة. غادر الجبهة عام 1990 وأسس حزب «فدا»، قبل أن يتخلى عن قيادته ويعمل مستقلاً منذ 2004.

كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات في 1968 إبان «معركة الكرامة» حين تصدت المنظات الفلسطينية الناشئة بدعم من مدفعية الجيش الأردني لقوات إسرائيلية هاجمت بلدة الكرامة الحدودية. ربطته لاحقاً بعرفات علاقة ثقة وطيدة مكنته من لعب دور بارز في الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ترأس عبد ربه الجانب الفلسطيني في أول حوار مع الولايات المتحدة عام 1989، وكان شريكاً فاعلاً في ما عُرف بـ«مطبخ اتفاق أوسلو». وتولى بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة مناصب وزارية. وشارك في معظم لقاءات عرفات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.

تولى بين 2005 و2015 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخرج من منصبه في ختام تلك الفترة بعد خلافات علنية مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس. أتاح له دوره في منظمة التحرير المشاركة في لقاءات رفيعة مع زعماء من العالم العربي وخارجه. وربطته علاقة مودة عميقة مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.

متزوج من الروائية ليانة بدر، وله ولدان.

عبد ربه: السنوار فاجأ حلفاءه وفوجئ بحجم اختراق 7 أكتوبر

وضعتْ عملية «طوفان الأقصى» الشعب الفلسطيني على مفترق طرق يراوح بين نكبة جديدة وفتح الأفق أمام قيام الدولة الفلسطينية. أسئلة كثيرة تُطرح في الشارع الفلسطيني وخارجه: ماذا عن العملية التي شنتها «حماس»؟ وماذا عن الرد الإسرائيلي؟ وماذا عن شروط انضمام «حماس» إلى التسوية السلمية؟ وماذا أيضاً عن السلطة و«اليوم التالي»؟ ولأن الحاضر ابن تجارب الماضي فقد بحثتُ عمَّن كان شريكاً وشاهداً في العقود الماضية.

منذ «معركة الكرامة» في 1968، انخرط ياسر عبد ربه في العمل الفلسطيني. جاء من حركة القوميين العرب وشهد ولادة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وبعدها «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، وصولاً إلى حزب «فدا». وإضافةً إلى هذه المواقع القيادية الفصائلية، كان عبد ربه أميناً لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومقرباً من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وإلى جانبه في المفاوضات مع الإسرائيليين والأميركيين وكذلك في العلاقات مع بغداد ودمشق وطرابلس. كان الغرض من الحوار الانطلاق من الحاضر واسترجاع بعض محطات الماضي وعبره، وهنا نص الحلقة الأولى:

سألت عبد ربه إنْ كان الشعب الفلسطيني يتجه حالياً نحو الدولة المستقلة أم نحو نكبة ثانية، فأجاب: «نحن وسط نكبة فلسطينية غير مسبوقة، وربما هذه النكبة، من حيث حجم المأساة التي وقع بها الشعب الفلسطيني، تتجاوز كثيراً النكبة الأولى. في النكبة الأولى، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية مهشمة، بل استبُدلت بالقرار العربي وتحالف عدد من الدول العربية الشكليّ في ما بينها، باسم حماية حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه».

نكبة جديدة... وظرف مختلف

في هذه النكبة، الحركة الوطنية الفلسطينية، رغم كل نواقصها وعيوبها التي كشفت عنها أيضاً أحداث مأساة غزة وما سُمي «طوفان الأقصى»، لا يمكن القضاء عليها أو استبدالها مهما كانت النتائج العسكرية على الأرض. المقارنة ليست بين وحشية ووحشية احتلالية إسرائيلية. تكنولوجيا القتل والدمار تتجاوز الآن بكثير ما كان متوفراً في عام 1948، ولكنّ الهدف واحد. في 1948 أُزيل ما يعادل 500 قرية فلسطينية وبلدة ومدينة، ونُفِّذ مخطط للتهجير الجماعي، وبقسوة لا تقل عن القسوة التي نشهدها اليوم.

لكن الآن، الفلسطيني لديه ذاكرة أكثر حدّة مما كانت عليه يومها. ربما لم نصدق عام 1948 أنه سيتم اقتلاعنا بالكامل من أرض وطننا. اليوم الفلسطيني، الكبير والصغير، يخشى أن يُقذف به مرة أخرى خارج أرض وطنه، وينظر إلى هذا الخطر على أنه شيء واقعي وملموس، وبالتالي يستميت في الدفاع، وترتفع صرخات الألم، وليست صرخات اليأس، رغم كل ما وقع من دمار في قطاع غزة من أقصى شماله حتى جنوبه.

الفلسطيني تحت الأنقاض اليوم يقول: لن أغادر أرض وطني. وهذه ليست شعارات، بل تعبير عن الوعي الذي تراكم عند الفلسطينيين على امتداد أكثر من سبعين عاماً. أنا أعتقد أن للدور الذاتي الفلسطيني في هذه اللحظة تأثيراً ليس بالقليل على كيفية اتجاه الأمور والأحداث.

عالم اليوم، ليس منحازاً بشكل قطعي لإسرائيل. هناك دوائر سياسية في الدول الغربية تنحاز لإسرائيل ولكن «بتردد»، وأحياناً أجرؤ على القول: «بخجل»، بينما لم نشهد في عام 1948 الملايين تتظاهر في العواصم الغربية، خصوصاً من جيل الشباب، كما نشهده اليوم.

أظن أن الشعور بأن الدولة الفلسطينية هي الحل سائدٌ حتى عند الدول الأكثر تملقاً لإسرائيل في هذه المأساة التي نمرّ بها. هذه الدول تحاول أن تقلل من حجم الجريمة الإسرائيلية التي ارتكبتها في قطاع غزة، ولا تزال. تحاول أن تغضّ النظر عن أفعال إسرائيلية وأقوال إسرائيلية. لم يكن يجرؤ الجيل الإسرائيلي الذي سبّب النكبة الأولى على النطق بها. اليوم هناك من يسمينا «حيوانات بشرية»، وهناك من يجاهر بضرورة مسح قطاع غزة وإخلائه من سكانه وطردهم نحو المجهول، واستيطان قطاع غزة وزرعه بالمستوطنات على أبعد أو أوسع مدى.

هناك أيضاً العالم اليوم يسارع إلى محاكمة إسرائيل. إسرائيل لم تخضع لأي محاكمة في تاريخها منذ نشأتها على المستوى الذي نشهده اليوم. محكمة العدل الدولية، هذا ليس حدثاً عابراً وطارئاً ومحدود الأثر. لم يقل لإسرائيل: أنت متهمة بإبادة الجنس البشري، مرة واحدة بكل تاريخها رغم أن هذا التاريخ مفعَم بالجرائم، مفعَم بالمذابح، مفعَم بالانتهاكات التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني.

أيُّ دور لـ«حماس»؟

وهل يمكن أن تكون «حماس» جزءاً من الحل؟ هذا السؤال يصعب عليّ أن أجيب عنه، ما لم تسارع «حماس» إلى استخدام هذه الفرصة لإعادة النظر في بعض المواقف والأفكار والأساليب التي اتّبعتها. أقول «بعض» ولا أقول «كل». يجب ألا أنكر أن «حماس» قوة وطنية فلسطينية، وأنها قوة مقاومة وأنها فعلت الكثير من أجل قضية الشعب الفلسطيني منذ نشأتها ومشاركتها في الانتفاضة الأولى.

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع رئيس تحرير «الشرق الأوسط» غسان شربل

لكي تعيد «حماس» الدور الذي بدأت به، وأن تستمر به، فهي تحتاج إلى مراجعة حقيقية. وهذا لا يمكن تفاديه بعد هذه المأساة التي حصلت، والمستمرة في قطاع غزة ولا ندري ما آفاقها بشكل كامل لكنّ مؤشراتها واضحة؛ وهي أن إسرائيل تريد غزة خالية من شعبها، أن تُلحقَ الدمار بقطاع غزة بحيث لا يعود بمقدور هذا الشعب أن يعود إلى مكانه الأصلي: لا بيوت، لا طرقات، لا بنية تحتية، لا إمكانية لتوفر أبسط مقومات الحياة. هذا ما هو قائم. فكيف ستتصرف «حماس» الآن، بغضّ النظر عن الاتهامات التي توجَّه ضدها، وبغضّ النظر عن عقوبات يمكن أن يتم إنزالها بها من هذا البلد أو ذاك، غربياً، وبعض هذه العقوبات فيها درجة عالية من النفاق.

تصوّرْ أن «حماس»، مثلاً، تُصنّف قوةً إرهابيةً بينما (لا تُصنَّف كذلك) حركة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي تصاحبها أعمال قتل وسرقة أراضٍ وتدمير بيوت وتدمير مزروعات ومحاولة حرق حتى بعض القرى والمدن وتقديمها نموذجاً للطرد الشامل للفلسطينيين خصوصاً في الضفة الغربية!

رغم هذا كله، أقول إن الباب لا يزال مفتوحاً، والمجال مفتوح، أمام «حماس». هذه ليست السابقة الأولى. كانت هناك سوابق عديدة. والفلسطينيون وياسر عرفات وحركة «فتح»، كان هناك وقت قيل إنها انتهت، بعد معركة بيروت، على سبيل المثال، وأنها أصبحت أبعد بعشرات آلاف الكيلومترات عن أرض وطنها وأصبحت في منفى قَصيٍّ وبعيد. ولكن استطاعت «فتح» أن تعيد دورها، ومعها منظمة التحرير وبقية القوى الفلسطينية، وأن تطرق باب التسوية السياسية بقوة. «حماس» تحتاج إلى درجة ما من التعامل بواقعية مع عالم اليوم، ومع التجربة الفلسطينية. وليس في كل يوم يمكن لهذه التجربة، المريرة والقاسية، أن تتكرر.

السنوار ونموذج عرفات

سألته إن كان يحيى السنوار، زعيم «حماس» في غزة، يستطيع أن يقبل الآن بما قبل به ياسر عرفات في «اتفاق أوسلو» 1993، فجاء الجواب: «لا أعرف بالضبط، أو لا أستطيع أن أفكر بعقل يحيى السنوار، ولكنَّ الجواب عندي سأسارع إلى قوله وهو: نعم. لأن التجربة المريرة تُعلم دروساً، وأنا أعرف، إذا كان المعنيّ هو الشخص بحد ذاته، أمرين: السنوار ليس من سلالة (الإخوان المسلمين) المكوَّنين عقائدياً بطريقة يصعب فيها عليهم التعامل البراغماتي والواقعي مع تطورات الأحداث. هو جاء إلى (حماس) بوصفها حركة ذات لون إسلامي وحركة مقاومة، بمعنى بعد عام 1987 عندما بدأت (حماس) تتكون وتشترك في الانتفاضة الأولى.

إسماعيل هنية ويحيى السنوار خلال اجتماع لقادة فصائل فلسطينية في غزة عام 2017 (أ.ف.ب)

الأمر الثاني، أنا أعتقد أنه لم يكن يُتوقع في 7 أكتوبر (تشرين الأول) النتائج التي حققها الاختراق (الحماسي) الفلسطيني لحدود قطاع غزة. ربما كان يريد القيام بعملية محدودة يتخللها اختطاف بعض العسكريين واشتباك محدود. معركة محدودة مع إسرائيل يتخللها أيضاً قليل من القصف والتدمير لتحسين الشروط بين قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض الحصار الخانق على القطاع. تحسين شروط حياتية، وتحسين شروط اقتصادية، وتحسين شروط ربما جغرافية، وميناء أو مطار... إلخ، وتحسين شروط قبول إسرائيل بـ(حماس) قيادةَ أمرٍ واقع في قطاع غزة من الناحية السياسية. هذا الانفجار الذي حدث والذي نتج عن تقصير، كما يسميه الإسرائيليون، غير مسبوق، هو الذي ربما فاجأ السنوار مثلما فاجأ آخرين».

«طوفان الأقصى» قرار العسكريين

لكن هل شعر عبد ربه لدى إطلاق «طوفان الأقصى» بتوقيت اقليمي؟ يرد: «على الإطلاق. أنا لا أظن أن هذا الحدث في بداياته وفي التداعيات التي تلت ناتجٌ عن تخطيط إيراني مثلاً، كما كان يشاع، أو بعض قوى من معسكر الممانعة. أنا لا أظن ذلك. (حماس) لها علاقات مع إيران ومع غيرها من القوى، و(حماس) كانت مستعدة وترجو أن تقيم علاقات مع قوى أخرى في الخليج وفي العالم العربي من خارج ذلك المعسكر.

الذي حصل لم يكن بمعرفة قيادة «حماس» في الخارج، وإلا لَمَا استقبلت هذا الحدث بنفس الدهشة والاستغراب، وحتى أجرؤ على القول، الصدمة التي استقبلها بها الآخرون من خارج (حماس)، بمن فيهم أنا. هم حاولوا أن يلملموا أنفسهم وألا يبدوا كأنهم في حالة تعارض مع قيادة الداخل، وحاولوا أن يجدوا الذرائع والمبررات بالقول إن هذا قرار القيادة العسكرية في الداخل، وإن القيادة العسكرية مخوّلة بأن تتخذ ما تشاء من قرارات، وأين أنتم كقيادة سياسية؟ تكتموا على هذا الموضوع حتى اليوم.

لا أريد أن أنتقص من دورٍ للخارج ولا للداخل في (حماس)، ومن مسؤولية الخارج والداخل عن هذا العمل الذي قاد إلى استغلال إسرائيلي من أجل توسيع نطاقه ومن أجل القيام بحملة مدمِّرة شرسة عنصرية مثل الحملة التي نشهدها الآن. أظن أن إسرائيل كانت تتمنى أن تتوافر ظروف من هذا النوع، وربما أقل حدة من نتائج (طوفان الأقصى) في يومه الأول، لكنها سرعان ما لملمت نفسها وعرفت كيف توجه الضربة المقابلة وأن تستغل ما حدث.

مقاتلون فلسطينيون يتحركون من خان يونس باتجاه إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

أنا أجزم بأن قوى الخارج بما فيها (حزب الله) فوجئت بانطلاق العملية. ردود الفعل ومحاولات التنصل الضمني مما حدث وقعت منذ اليوم الأول، في أقوال القيادات الإيرانية وقيادات (حزب الله) ومختلف التيارات. إذا كانت قيادة (حماس) نفسها لم تكن على علم، فكيف ستكون هذه الأطراف الأخرى على علم؟

أنا أظن أن القرار ذاتيٌّ من قيادة (حماس) في داخل غزة. وكما قلت، اعتقدتْ (هذه القيادة) أنها يمكن أن تقوم بعمل محدود نسبياً، ليس بالحجم الذي وقع، وأنّ رد الفعل الإسرائيلي أيضاً سيكون محدوداً نسبياً، أي بحجم، على الأقل، المعارك السابقة في 2014 و2018 وما قبلها، لكن أيضاً هم فوجئوا بحجم الإنجاز الذي تحقق لهم وسارعوا إلى محاولة استثمار هذا بعد أن وقع وأصبحت في يدهم أسلحة ثمينة من أسرى، مما أحدث هزة عميقة داخل إسرائيل».

ضرورة تجديد السلطة الفلسطينية

أريد الإشارة إلى استخلاص وحيد وقصير بالنسبة إلى معركة غزة اليوم. كلنا يعرف الواقع الإقليمي، وأنا لا أريد أن أدخل لا في التعليق ولا في إلقاء المواعظ والمطالب غير العقلانية مرة أخرى والنابعة من الشكوى ليس من حسابات القوى وموازينها، ولا الوضع الدولي. هناك فرص متاحة. الحركة الوطنية الفلسطينية مطالَبة الآن بأن تعيد تنظيم صفوفها ووضع أولوياتها السياسية من جديد، بما فيها حركة «حماس» وبقية القوى طبعاً.

ما أقصده أيضاً هنا، وبشكل أكثر صراحةً، أنه ينبغي ألا نستهين بالقول الذي أصبح متداولاً دولياً إن هناك حاجة إلى سلطة فلسطينية مجدّدة. ربما البعض ينظر إلى هذا المطلب الدولي كأنه نوع من الذريعة التي يستخدمها بعض القوى دولياً، خصوصاً الولايات المتحدة، للتنصل من القيام بما يتوجب عليها من إطلاق عملية سياسية تجعل هذه المأساة الواقعة في غزة اليوم، ليست فقط مأساة، وإنما فرصة للوصول إلى حل سياسي يشكّل الخاتمة في ما يتصل بالصراع العربي- الإسرائيلي.

ربما هو ذلك. لكن، لو كانت هناك قيادة وطنية فلسطينية موحدة، بمشاركة كل الأطراف بما فيها «حماس»، ألم يكن من الممكن تدارك ما حصل أو القيام بدور، ربما، يوفر ضمانة أكثر لمصالح الشعب الفلسطيني من الطريقة التي وقعت فيها أو انطلقت فيها هذه الأحداث الأخيرة من 7 أكتوبر حتى الآن؟ ألم يكن من الممكن أن نستخدم كل القوى المتوفرة في يدنا، وليست قوة غزة فقط أو قوى وإمكانات متناثرة هنا أو هناك في الضفة الغربية، أنْ نستخدم قوى وطاقات الشعب الفلسطيني كله بطريقة أكثر عقلانية أو أكثر فاعلية من الذي حصل حتى اليوم؟

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط»

نحن أهملنا، وبعضنا متعمِّدٌ أحياناً، عدداً من الفرص التي توافرت لإعادة تجميع القوى الفلسطينية في الإطار الوطني الواحد، وبالتالي السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني، بحيث لا ينفرد به طرف ويفاجئ الأطراف الأخرى. كم مرة دَعَوْنا إلى حوارات ووصلنا إلى نتائج؟ في السعودية، في مصر، حتى مؤخراً في الجزائر... إلخ. موسكو احتضنت حوارات في ما بيننا، ومشينا بعد انتهاء كل لقاء في اتجاهات أعادت الصراع والتناقض الثانوي الداخلي بيننا وجعلته هو الرئيسي.

أنا أظن أنه يجب أن تكون هناك الآن محاولة جدية لإعادة تجميع الصف الوطني الفلسطيني لتكريس وجود قيادة وطنية فلسطينية موحدة ومسؤولة تضم الجميع. وإضافةً إلى ذلك، يجب أن يعاد أيضاً إنتاج قيادة للسلطة الوطنية تستطيع أن تتعامل مع الظرف الحالي ومع النوافذ المفتوحة مهما كانت ضيقة التي يتيحها الكلام وتتيحها المواقف الدولية الحالية».

فرص إصلاح السلطة و«حماس»

هل السلطة قابلة للإصلاح؟ هل منظمة التحرير قابلة للإصلاح؟ هل «حماس» قابلة للتغيير؟ يظن عبد ربه أن كل هذا ممكن. «أي إن (حماس) قابلة للتغيير، ويجب أن تُغيّر وألا تحكم على نفسها بمصير مأساوي أيضاً. (حماس) الآن تَلقى احتضاناً واسعاً من الفلسطينيين في كل مكان، ومن جمهور واسع في المنطقة العربية، وحتى على الصعيد الدولي. هناك مَن يبرر لها ما حدث بالقول إن الصراع لم يبدأ في 7 أكتوبر، والصراع مسؤول عنه العالم الذي احتضن (أوسلو) في البداية ثم تدريجياً تخلى عن الأهداف التي وُضعت أو وُقِّعت من أجلها اتفاقية أوسلو، بما فيها التسليم بالأمر الواقع الذي أعاد إنتاج الاحتلال الإسرائيلي بصيغ أكثر تشدداً وتطرفاً من ناحية التوسع الاستيطاني لإعادة رسم خريطة الضفة الغربية بحيث يستحيل الوصول إلى قيام دولة فلسطينية.

(حماس) تستطيع، و(فتح) تستطيع، ولكنّ هذا يحتاج إلى قرار حقيقي من الطرفين لإعادة مراجعة لكل السلوك السياسي الذي اتخذاه. نحن في حاجة إلى حكومة تشكل نوعاً من التوافق الوطني، ليس حكومة هذا الفصيل أو ذاك الفصيل. لا حكومة غزة (الحمساوية)، ولا حكومة الضفة (الفتحاوية)، بل حكومة توافق وطني تقبل بها كل الأطراف ويقبل بها بالأساس الشارع الوطني الفلسطيني ويثق العالم العربي والدولي بأن مثل هذه الحكومة ستكون قادرة على أن تسير بالوضع الفلسطيني بجدية نحو تحقيق حل منشود وهو الدولة الفلسطينية المستقلة».

صلاحيات الرئيس و«القرار الصحيح»

الرئيس ياسر عرفات لم يتقبل محاولات الحد من صلاحياته، وكنت في خضمّ هذه التجربة. هل يتقبل الرئيس محمود عباس الحد من صلاحياته؟ أجاب: «ليس مطلوباً الحد من صلاحيات أحد، بمن فيهم الرئيس محمود عباس. الرئيس محمود عباس يستطيع من أجل أن يمارس صلاحياته الفعلية أن يبادر إلى تشكيل، أو الدعوة لتشكيل، حكومة توافق وطني (أُجري اللقاء قبل استقالة الحكومة الفلسطينية)، وأن يطلق حواراً سريعاً ومن دون تعقيدات شهدناها في كل أشكال الحوارات السابقة التي وصلت إلى طريق مسدودة. نحن نريد حكومة تستطيع أن تتحدث باسم الفلسطينيين بدعمٍ من كل الفلسطينيين بمن فيهم قواهم المنظمة؛ «فتح» و«حماس»... إلخ.

عباس وعبد ربه خلال زيارة لمعبر رفح عام 2005 (غيتي)

هو يستطيع أن يخرج من إطار الحسابات الضيقة، وأن يحافظ على موقعه ودوره. ولكن يجب أن يأخذ القرار أولاً. لأن ياسر عرفات لم يأخذ القرار المناسب في اللحظة التي كان فيها يحتاج إلى أخذ ذلك القرار. في خضمّ الانتفاضة الثانية الفلسطينية، كان ينبغي وبكل جرأة أن يرفع ياسر عرفات صوته ضد العمليات المسلحة التي كانت تستهدف المدنيين والتي كان الاحتلال الإسرائيلي يستثمرها إلى الحد الأقصى من أجل تبرير تدمير كل قوى وطاقات السلطة الفلسطينية، بما فيها تدمير اتفاقات أوسلو نفسها.

الاستيطان مشكلة «أوسلو»

ياسر عرفات في «أوسلو» كان غير مقتنع بالتدرجية، أي سياسة تنفيذ الاتفاق مع الإسرائيليين على مراحل. وكانت عنده خشية حقيقية، وثبت أنها خشية مشروعة، من أن الإسرائيليين يمكن أن يتوقفوا عند المرحلة الأولى التي احتوتها «اتفاقية أوسلو»، ثم التنصل من إكمال هذه المرحلة نحو المراحل الفعلية التي تتناول القدس وكل الأراضي الفلسطينية والانسحاب منها، وتتناول اللاجئين، وتتناول إزالة الاستيطان عن الأراضي الفلسطينية. كان يخشى ذلك، ولكنه قام بتجربة.

أنت تعرف في مفاوضات أوسلو، حتى لما كدنا نصل إلى اتفاق كان الإسرائيليون يعرضون علينا فقط الانسحاب من غزة وتبقى الضفة الغربية محتلة من الإسرائيليين للمرحلة الثانية، أي بعد خمس سنوات. ياسر عرفات هو الذي تدخل بقوة لكي يقول: أقبل بالانسحاب من غزة، ولكن أريد موطئ قدم أيضاً في الضفة الغربية. ولذلك، وصلنا إلى «اتفاق غزة وأريحا»، هذا كان بفضل ياسر عرفات وتدخلاته وليس بفضل المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين توصلوا إلى النسخة الأولى من «اتفاق أوسلو».

عرفات وإلى يساره ياسر عبد ربه عام 1993 (غيتي)

بعد أن قبلت إسرائيل بصيغة «غزة وأريحا»، ويمكن قبلها، كانوا يفكرون بأن جزءاً من منطقة جنين مثلاً يمكن أن يحيلوه إلى السلطة لتكون مسؤولة عنه أو غيرها من المناطق، ثم رسا الأمر على منطقة أريحا بمبادرة إسرائيلية. ربما لأنهم اعتقدوا أن هذه المنطقة هي المنطقة التي لا تحتوي على كثافة استيطانية نسبية في ذلك الوقت، ولأنها هامشية بالقياس إلى المناطق الأخرى سكانياً وجغرافياً في بقية الضفة الغربية، لكنَّ مشكلة ياسر عرفات كمشكلة الذين اشتركوا في «عملية أوسلو»، وأنا منهم، ومن دون أن أزيّن دوري بهذه الدرجة أو تلك، أنهم لم ينظروا إلى خطر الاستيطان الإسرائيلي النظرة التي يستحقها والتي يتطلبها في ذاك الوقت.

كان هناك مَن يعتقد أنه بمجرد قيام السلطة الفلسطينية في غزة وفي أريحا، سيدرك المستوطنون أنفسهم أن هذه بداية المسار وعليهم أن يهيِّئوا أنفسهم للرحيل، وأن يعودوا من حيث جاءوا. هذا على أرض الواقع لم يحصل، الذي حصل عكس ذلك. على امتداد السنوات، تمدد الاستيطان أكثر فأكثر. فلم يكن هناك تقدير حقيقي ناتج عن إدراك واقعي لحجم الاستيطان، لانتشاره في الأراضي الفلسطينية، ولمعرفة حتى ثقافية بالفكر الصهيوني الذي إذا تخلى عن الاستيطان تخلى عن عمادٍ رئيسي في المشروع الصهيوني منذ بدايته.

مطبخ «أوسلو» الفلسطيني

مَن كان أفراد مطبخ «أوسلو»، وهل كانت لمحسن إبراهيم، الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي»، علاقة به؟ قال: «ياسر عرفات ومحمود عباس وأحمد قريع وشخصي المتواضع وحسن عصفور، الذي كان مشاركاً مع قريع في مفاوضات أوسلو المباشرة. القرار كان يُتخذ هناك، ولكن الكلمة الأخيرة في القرار كانت لياسر عرفات. محسن إبراهيم كان على علاقة، وكان يتم إطلاعه أولاً بأول على تطور المفاوضات، لكن طبعاً كان محسن على درجة من الذكاء لكي ينأى بنفسه عن الدخول في صميم الحوار الفلسطيني الداخلي، أي الدخول في مناقشة القرار الفلسطيني الختامي والنهائي.

كان محسن يقدم ملاحظات ونصائح وتساؤلات، وكلها كانت ذات قيمة، ولكن لم يكن يقول إن عليكم أن تقبلوا أو لا تقبلوا بهذا البند الذي توصلتم إليه. كان ينأى بنفسه، إدراكاً منه كشخص لامع الذكاء، بأنه مهما بلغت معرفته بتفاصيل وتعقيدات الوضع الفلسطيني ليس من الناحية السياسية حتى من الناحية الجغرافية والديموغرافية والوضع القائم على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، لم يكن على إلمام كافٍ، فبالتالي لا يستطيع مَن هو في هذا الوضع أن يُدلي بدلوه في أن تقبل بهذا الشرط الإسرائيلي أو لا تقبل به».

وهل كان محمود درويش، الشاعر الكبير، على اطّلاع على «أوسلو»؟ يجيب: «أنا كنت شخصياً أُطلعه عليه، ومحمود كان حذراً منذ البداية. تحذيراته كانت تحذيرات عامة؛ أنه عليكم أن تحاولوا عدم الوقوع في الأفخاخ الإسرائيلية أولاً، وأن تحصلوا على التزامات محددة ودقيقة في ما يتعلق بالمواضيع الرئيسية: القدس، والانسحاب التام، والاستيطان، وطبعاً قضية اللاجئين. محمود يعرف ماذا يعني الاستيطان، بشكل أكثر دقة وأكثر واقعية من الآخرين.

أستطيع أن أقول وبناءً على خبرة مباشرة، إنني كانت لديَّ معرفة كافية للتحذير من خطر النظر إلى الاستيطان بشكل هامشي، وأن نتائج وجودنا ووضع أقدامنا مرة أخرى على جزء من أرض وطننا سوى تجعل الاستيطان ينعطف نحو الخلف ويزول من تلقاء نفسه بالتدريج. لم أكن من ذلك التيار، كنت أحذّر، لكن لم يكن تحذيري بالحدة الضرورية، ليس حدة الصوت بل حدة الموقف.

من ناحية أخرى، ياسر عرفات لم يكن يعرف الواقع الحقيقي للاستيطان ووجود المستوطنات، وآخرون كذلك، وأجزم بأنه حتى أبو مازن (الرئيس عباس)، لم يكن يعرف. كانت لديهم انطباعات أكثر من معرفة حقيقية، انطباعات مثل أن هذا وجود مؤقت وليس وجوداً راسخاً له طابع الديمومة على الأرض.

في مرات كثيرة، كثيرٌ من الناس في المنطقة العربية، حتى قادة، كانوا يعتقدون أن المستوطنات هي كرفانات متنقلة يمكن في لحظة إخراجها وسحبها كما جيء بها.

صدمة عرفات من المستوطنات

بعد عام 1996 عندما تمددت السلطة، «غزة وأريحا» ثم تلاها التمدد في أخذ السلطة المدنية والأمنية داخل المدن الرئيسية في الضفة الغربية، وهذا ما سُمي وقتها «اتفاقية إعادة الانتشار للقوات الإسرائيلية خارج المدن»، خارج «منطقة أ»، وتقسيم الضفة إلى ثلاث مناطق: «منطقة أ»، حيث للسلطة سيطرة كاملة، و«منطقة ب» حيث للسلطة سيطرة مدنية، و«منطقة ج» تبقى فيها لإسرائيل السيطرة المدنية والأمنية على مساحة تعادل 60 في المائة من أراضي الضفة. المهم، بعد أن حصل هذا، وكان حديثاً توصّلنا إلى انسحاب إسرائيلي من رام الله.

جاء عرفات إلى رام الله، وكان في حاجة إلى السفر إلى الأردن. وكانت الأجواء فيها ضباب ومُنعت المروحية من نقله من رام الله إلى عمان، فأردنا أن نأخذ طريق البر الذي يقود من رام الله إلى ضواحي القدس تقريباً، مروراً إلى الأغوار فأريحا ثم الانتقال إلى الأردن. كنت مع عرفات في السيارة وحدنا. نزلنا من رام الله عبر ضواحي القدس. أنا كنت قبل ذلك، حتى قبل أن ينسحب الإسرائيليون، قد تجولت في الضفة الغربية كلها، منطقةً منطقةً، لأتعرف على بلدي وعلى تضاريسه وعلى واقع الاستيطان في ذلك البلد، وربما بادرت منذ اللحظة الأولى لتشكيل مؤتمر وطني لمقاومة الاستيطان، ونحن ما زلنا في أريحا ولم نصل إلى بقية المدن.

في الطريق راح ياسر عرفات يسألني: «إيه ده؟» فأقول له: هذه مستوطنات. يُدهَش: «دي مستوطنات؟». مستوطنات بمعنى بلدات، وبنية تحتية حتى أكثر تقدماً من البنية التحتية للقرى الفلسطينية، وبلدات منتشرة وواسعة وفيها كل مقومات الحياة المدنية على الأرض. كل كيلومتر يسأل وأقول له: هذه مستوطنة. صمت ياسر عرفات وأُصيب بما يشبه الصدمة، ليست العاطفية، بل السياسية، لأنه تعرَّف على واقع الاستيطان أفضل مما تعرف عليه في غزة. في غزة كانت مستوطنات صغيرة، بؤراً محاطة ومطوَّرة بوجود بشري وجغرافي فلسطيني، فكان هذا الوجود هشاً لا يعمّر كثيراً، بعكس الواقع الذي كان قائماً في الضفة الغربية.

«استخفاف» عباس بالاستيطان

مرة كنت أنا وأبو مازن في الطريق إلى إسرائيل لإجراء لقاء في السفارة المصرية مع عدد من الإسرائيليين بحضور ومشاركة السفير المصري حينها. في هرتسيليا، محل إقامة السفير المصري، وليس في السفارة بتل أبيب. كان هذا في نهاية التسعينات.

وفي الطريق، هناك أرض حرام بين الضفة الغربية وإسرائيل. كانت منطقة حراماً، أي منطقة فاصلة. الإسرائيليون دخلوا إلى هذه المنطقة وبدأوا ببناء مستوطنات جديدة. أشرت لأبو مازن وقلت له: هؤلاء الذين يتحدثون عن التسوية، هذه المنطقة الحرام الفاصلة التي يجب أن تعود لنا أو على الأقل نتقاسمها، بدأوا ببناء مستوطنة عليها. أبو مازن نظر إليَّ وقال: «مش مشكلة. هذا كله سيعود إلينا. كله سنستعيده».

كانت نظرته إلى الاستيطان فيها درجة عالية من الاستخفاف، وأظن أنه حتى بعد أن أصبح رئيساً كانت نظرته ذاتها إلى الاستيطان أنه هذا كله سيزول، وقابل لاستعادته ولا يشكل خطراً كبيراً كما يتصور البعض الآخر، سواء منظمات أهلية فلسطينية أو شخصيات فلسطينية أو قيادات... إلخ.

عرفات وشخصنة حلم الدولة

سألت عبد ربه: هل تعتقد أن ياسر عرفات أراد أن يدخل التاريخ بصفته مَن استعاد قسماً من الأراضي الفلسطينية وبعدما تعب من حروب العواصم ومن الوضع العربي والوضع الدولي، وأنه يريد قبراً في الأراضي الفلسطينية؟ فردَّ بأن «ياسر عرفات كان طبعاً يريد أن يكرَّس أولَّ فلسطيني أنشأ للفلسطينيين أو قاد الفلسطينيين نحو إنشاء دولة مستقلة. وهذا الحلم لم يفارقه.

أحياناً كثيرة، بعض القادة يصبحون مسكونين بفكرة معينة، ويتماهون بين شخصهم وبين الفكرة. بين شخصهم والحقوق الوطنية أو السياسية لشعب بأكمله. كان لديه حلم شبيه بما حلم به نيلسون مانديلا وربما غاندي وغيرهما. ياسر عرفات كان يريد أن يكون هذا البطل الذي يَرسخ في ضمير الشعب الفلسطيني لأجيال. ذكراه وإنجازاته تَرسخ للأجيال القادمة.

مصافحة بين عرفات وإسحق رابين في حديقة البيت الأبيض برعاية بيل كلينتون (أ.ف.ب)

مشكلة ياسر عرفات أنه كان يعطي الأولوية لسيطرة السلطة على المواقع التي فيها تجمعات رئيسية للشعب الفلسطيني. سيطرة السلطة على الشعب، على الناس، وليس بالمعنى السيئ للسيطرة، بل بالمعنى السيادي، بمعنى أن يكون هو الممثل لهذا الشعب، ويستهين إلى حد غير قليل بموضوع الأرض، كأنَّ الأرض ستعود من تلقاء ذاتها عندما تصبح هناك سلطة لها مؤسسات لها هيئات مختلفة؛ لها حكومة ولها تمثيل، وأيضاً يخضع لها كل الشعب الفلسطيني. وهذا الشعب يختار ممثليه لهذه السلطة عبر الانتخابات.

أُريد هنا أن أعطي نموذجاً لذلك؛ في المرحلة التي كنا نتفاوض فيها بعد عودة السلطة إلى أرض الوطن وبدء التفاوض على اتفاق ما سُميت إعادة الانتشار والسيطرة الفلسطينية على المدن الرئيسية في الضفة الغربية سيطرة كاملة، كانت هناك لقاءات مستمرة، سواء في طابا المصرية أو أحياناً في بعض الأماكن مثل غزة، محيط غزة، وأحياناً كثيرة في رام الله وفي داخل بعض المناطق الفلسطينية، تجمع ياسر عرفات وشمعون بيريز الذي كان مكلفاً بدرجة رئيسية، وقبلها في حياة إسحاق رابين كانت تجمعه برابين.

عندما توصلنا إلى اتفاق حول انتشار السلطة في كل المدن، كان هناك لقاء مع بيريز. في هذا اللقاء، أنا كنت أجلس إلى جانب عرفات، قال له بيريز بكل صراحة وقحة: نحن لا نستطيع إكمال إعادة الانتشار في الضفة الغربية لأن هناك بعض المستوطنات المعزولة التي لم يُبتّ بمصيرها لأن هذا له علاقة بمفاوضات حول الوضع النهائي. هناك مستوطنات معزولة يجب أن تجد سبيلها للصلة بإسرائيل من دون المرور بمناطق مأهولة فلسطينية. وقال: كلها مجرد خمس طرق.

أنا كنت أجلس إلى جانب ياسر عرفات الذي كان بين خيار أن يستمر الانسحاب من بقية المدن أو أن يوافق. همستُ له وكتبت: لا تقبل يا أبو عمار. لا تقبل. لأنه أصبح ليس إحساساً بل معرفة، بأن الطرق الخمس يمكن أن تصبح خمسين طريقاً. والطريقة الإسرائيلية في التفاوض هي: يسهِّل ما يريده منك ويعقِّد ما تريده منه، حتى لو كان هناك ألف توقيع، وألف التزام، ومحدَّد بالتفصيل وبدقة. وهذا ما حصل. ياسر عرفات فكَّر قليلاً، على الأقل، كنت أتوقع أنه سيرفع الاجتماع، ثم قال له بالإنجليزية: take it (خُذها). شمعون بيريز فهم الدرس. يمكن أن تساوم ياسر عرفات على توسيع سلطته ونفوذه في الضفة الغربية مقابل أن تحصل على مكاسب بالنسبة للمستوطنات وأن يقبل بها من دون أن يثار حولها أي ضجيج».

غداً حلقة ثانية

حقائق

من هو ياسر عبد ربه؟

ولد ياسر عبد ربه في يافا في 1945. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى لبنان. كان في سن الخامسة عشرة حين نجح السياسي اليساري اللبناني محسن إبراهيم في إقناعه بالانضمام إلى «حركة القوميين العرب». تابع في الجامعة الأميركية في القاهرة دراسته في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.

في 1968 كان إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد في تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وشارك في السنة التالية في تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وهو كان الرجل الثاني فيها بعد حواتمة. غادر الجبهة عام 1990 وأسس حزب «فدا»، قبل أن يتخلى عن قيادته ويعمل مستقلاً منذ 2004.

كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات في 1968 إبان «معركة الكرامة» حين تصدت المنظات الفلسطينية الناشئة بدعم من مدفعية الجيش الأردني لقوات إسرائيلية هاجمت بلدة الكرامة الحدودية. ربطته لاحقاً بعرفات علاقة ثقة وطيدة مكنته من لعب دور بارز في الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ترأس عبد ربه الجانب الفلسطيني في أول حوار مع الولايات المتحدة عام 1989، وكان شريكاً فاعلاً في ما عُرف بـ«مطبخ اتفاق أوسلو». وتولى بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة مناصب وزارية. وشارك في معظم لقاءات عرفات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.

تولى بين 2005 و2015 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخرج من منصبه في ختام تلك الفترة بعد خلافات علنية مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس. أتاح له دوره في منظمة التحرير المشاركة في لقاءات رفيعة مع زعماء من العالم العربي وخارجه. وربطته علاقة مودة عميقة مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.

متزوج من الروائية ليانة بدر، وله ولدان.

عبد ربه: السنوار فاجأ حلفاءه وفوجئ بحجم اختراق 7 أكتوبر

وضعتْ عملية «طوفان الأقصى» الشعب الفلسطيني على مفترق طرق يراوح بين نكبة جديدة وفتح الأفق أمام قيام الدولة الفلسطينية. أسئلة كثيرة تُطرح في الشارع الفلسطيني وخارجه: ماذا عن العملية التي شنتها «حماس»؟ وماذا عن الرد الإسرائيلي؟ وماذا عن شروط انضمام «حماس» إلى التسوية السلمية؟ وماذا أيضاً عن السلطة و«اليوم التالي»؟ ولأن الحاضر ابن تجارب الماضي فقد بحثتُ عمَّن كان شريكاً وشاهداً في العقود الماضية.

منذ «معركة الكرامة» في 1968، انخرط ياسر عبد ربه في العمل الفلسطيني. جاء من حركة القوميين العرب وشهد ولادة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وبعدها «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، وصولاً إلى حزب «فدا». وإضافةً إلى هذه المواقع القيادية الفصائلية، كان عبد ربه أميناً لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومقرباً من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وإلى جانبه في المفاوضات مع الإسرائيليين والأميركيين وكذلك في العلاقات مع بغداد ودمشق وطرابلس. كان الغرض من الحوار الانطلاق من الحاضر واسترجاع بعض محطات الماضي وعبره، وهنا نص الحلقة الأولى:

سألت عبد ربه إنْ كان الشعب الفلسطيني يتجه حالياً نحو الدولة المستقلة أم نحو نكبة ثانية، فأجاب: «نحن وسط نكبة فلسطينية غير مسبوقة، وربما هذه النكبة، من حيث حجم المأساة التي وقع بها الشعب الفلسطيني، تتجاوز كثيراً النكبة الأولى. في النكبة الأولى، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية مهشمة، بل استبُدلت بالقرار العربي وتحالف عدد من الدول العربية الشكليّ في ما بينها، باسم حماية حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه».

نكبة جديدة... وظرف مختلف

في هذه النكبة، الحركة الوطنية الفلسطينية، رغم كل نواقصها وعيوبها التي كشفت عنها أيضاً أحداث مأساة غزة وما سُمي «طوفان الأقصى»، لا يمكن القضاء عليها أو استبدالها مهما كانت النتائج العسكرية على الأرض. المقارنة ليست بين وحشية ووحشية احتلالية إسرائيلية. تكنولوجيا القتل والدمار تتجاوز الآن بكثير ما كان متوفراً في عام 1948، ولكنّ الهدف واحد. في 1948 أُزيل ما يعادل 500 قرية فلسطينية وبلدة ومدينة، ونُفِّذ مخطط للتهجير الجماعي، وبقسوة لا تقل عن القسوة التي نشهدها اليوم.

لكن الآن، الفلسطيني لديه ذاكرة أكثر حدّة مما كانت عليه يومها. ربما لم نصدق عام 1948 أنه سيتم اقتلاعنا بالكامل من أرض وطننا. اليوم الفلسطيني، الكبير والصغير، يخشى أن يُقذف به مرة أخرى خارج أرض وطنه، وينظر إلى هذا الخطر على أنه شيء واقعي وملموس، وبالتالي يستميت في الدفاع، وترتفع صرخات الألم، وليست صرخات اليأس، رغم كل ما وقع من دمار في قطاع غزة من أقصى شماله حتى جنوبه.

الفلسطيني تحت الأنقاض اليوم يقول: لن أغادر أرض وطني. وهذه ليست شعارات، بل تعبير عن الوعي الذي تراكم عند الفلسطينيين على امتداد أكثر من سبعين عاماً. أنا أعتقد أن للدور الذاتي الفلسطيني في هذه اللحظة تأثيراً ليس بالقليل على كيفية اتجاه الأمور والأحداث.

عالم اليوم، ليس منحازاً بشكل قطعي لإسرائيل. هناك دوائر سياسية في الدول الغربية تنحاز لإسرائيل ولكن «بتردد»، وأحياناً أجرؤ على القول: «بخجل»، بينما لم نشهد في عام 1948 الملايين تتظاهر في العواصم الغربية، خصوصاً من جيل الشباب، كما نشهده اليوم.

أظن أن الشعور بأن الدولة الفلسطينية هي الحل سائدٌ حتى عند الدول الأكثر تملقاً لإسرائيل في هذه المأساة التي نمرّ بها. هذه الدول تحاول أن تقلل من حجم الجريمة الإسرائيلية التي ارتكبتها في قطاع غزة، ولا تزال. تحاول أن تغضّ النظر عن أفعال إسرائيلية وأقوال إسرائيلية. لم يكن يجرؤ الجيل الإسرائيلي الذي سبّب النكبة الأولى على النطق بها. اليوم هناك من يسمينا «حيوانات بشرية»، وهناك من يجاهر بضرورة مسح قطاع غزة وإخلائه من سكانه وطردهم نحو المجهول، واستيطان قطاع غزة وزرعه بالمستوطنات على أبعد أو أوسع مدى.

هناك أيضاً العالم اليوم يسارع إلى محاكمة إسرائيل. إسرائيل لم تخضع لأي محاكمة في تاريخها منذ نشأتها على المستوى الذي نشهده اليوم. محكمة العدل الدولية، هذا ليس حدثاً عابراً وطارئاً ومحدود الأثر. لم يقل لإسرائيل: أنت متهمة بإبادة الجنس البشري، مرة واحدة بكل تاريخها رغم أن هذا التاريخ مفعَم بالجرائم، مفعَم بالمذابح، مفعَم بالانتهاكات التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني.

أيُّ دور لـ«حماس»؟

وهل يمكن أن تكون «حماس» جزءاً من الحل؟ هذا السؤال يصعب عليّ أن أجيب عنه، ما لم تسارع «حماس» إلى استخدام هذه الفرصة لإعادة النظر في بعض المواقف والأفكار والأساليب التي اتّبعتها. أقول «بعض» ولا أقول «كل». يجب ألا أنكر أن «حماس» قوة وطنية فلسطينية، وأنها قوة مقاومة وأنها فعلت الكثير من أجل قضية الشعب الفلسطيني منذ نشأتها ومشاركتها في الانتفاضة الأولى.

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع رئيس تحرير «الشرق الأوسط» غسان شربل

لكي تعيد «حماس» الدور الذي بدأت به، وأن تستمر به، فهي تحتاج إلى مراجعة حقيقية. وهذا لا يمكن تفاديه بعد هذه المأساة التي حصلت، والمستمرة في قطاع غزة ولا ندري ما آفاقها بشكل كامل لكنّ مؤشراتها واضحة؛ وهي أن إسرائيل تريد غزة خالية من شعبها، أن تُلحقَ الدمار بقطاع غزة بحيث لا يعود بمقدور هذا الشعب أن يعود إلى مكانه الأصلي: لا بيوت، لا طرقات، لا بنية تحتية، لا إمكانية لتوفر أبسط مقومات الحياة. هذا ما هو قائم. فكيف ستتصرف «حماس» الآن، بغضّ النظر عن الاتهامات التي توجَّه ضدها، وبغضّ النظر عن عقوبات يمكن أن يتم إنزالها بها من هذا البلد أو ذاك، غربياً، وبعض هذه العقوبات فيها درجة عالية من النفاق.

تصوّرْ أن «حماس»، مثلاً، تُصنّف قوةً إرهابيةً بينما (لا تُصنَّف كذلك) حركة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي تصاحبها أعمال قتل وسرقة أراضٍ وتدمير بيوت وتدمير مزروعات ومحاولة حرق حتى بعض القرى والمدن وتقديمها نموذجاً للطرد الشامل للفلسطينيين خصوصاً في الضفة الغربية!

رغم هذا كله، أقول إن الباب لا يزال مفتوحاً، والمجال مفتوح، أمام «حماس». هذه ليست السابقة الأولى. كانت هناك سوابق عديدة. والفلسطينيون وياسر عرفات وحركة «فتح»، كان هناك وقت قيل إنها انتهت، بعد معركة بيروت، على سبيل المثال، وأنها أصبحت أبعد بعشرات آلاف الكيلومترات عن أرض وطنها وأصبحت في منفى قَصيٍّ وبعيد. ولكن استطاعت «فتح» أن تعيد دورها، ومعها منظمة التحرير وبقية القوى الفلسطينية، وأن تطرق باب التسوية السياسية بقوة. «حماس» تحتاج إلى درجة ما من التعامل بواقعية مع عالم اليوم، ومع التجربة الفلسطينية. وليس في كل يوم يمكن لهذه التجربة، المريرة والقاسية، أن تتكرر.

السنوار ونموذج عرفات

سألته إن كان يحيى السنوار، زعيم «حماس» في غزة، يستطيع أن يقبل الآن بما قبل به ياسر عرفات في «اتفاق أوسلو» 1993، فجاء الجواب: «لا أعرف بالضبط، أو لا أستطيع أن أفكر بعقل يحيى السنوار، ولكنَّ الجواب عندي سأسارع إلى قوله وهو: نعم. لأن التجربة المريرة تُعلم دروساً، وأنا أعرف، إذا كان المعنيّ هو الشخص بحد ذاته، أمرين: السنوار ليس من سلالة (الإخوان المسلمين) المكوَّنين عقائدياً بطريقة يصعب فيها عليهم التعامل البراغماتي والواقعي مع تطورات الأحداث. هو جاء إلى (حماس) بوصفها حركة ذات لون إسلامي وحركة مقاومة، بمعنى بعد عام 1987 عندما بدأت (حماس) تتكون وتشترك في الانتفاضة الأولى.

إسماعيل هنية ويحيى السنوار خلال اجتماع لقادة فصائل فلسطينية في غزة عام 2017 (أ.ف.ب)

الأمر الثاني، أنا أعتقد أنه لم يكن يُتوقع في 7 أكتوبر (تشرين الأول) النتائج التي حققها الاختراق (الحماسي) الفلسطيني لحدود قطاع غزة. ربما كان يريد القيام بعملية محدودة يتخللها اختطاف بعض العسكريين واشتباك محدود. معركة محدودة مع إسرائيل يتخللها أيضاً قليل من القصف والتدمير لتحسين الشروط بين قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض الحصار الخانق على القطاع. تحسين شروط حياتية، وتحسين شروط اقتصادية، وتحسين شروط ربما جغرافية، وميناء أو مطار... إلخ، وتحسين شروط قبول إسرائيل بـ(حماس) قيادةَ أمرٍ واقع في قطاع غزة من الناحية السياسية. هذا الانفجار الذي حدث والذي نتج عن تقصير، كما يسميه الإسرائيليون، غير مسبوق، هو الذي ربما فاجأ السنوار مثلما فاجأ آخرين».

«طوفان الأقصى» قرار العسكريين

لكن هل شعر عبد ربه لدى إطلاق «طوفان الأقصى» بتوقيت اقليمي؟ يرد: «على الإطلاق. أنا لا أظن أن هذا الحدث في بداياته وفي التداعيات التي تلت ناتجٌ عن تخطيط إيراني مثلاً، كما كان يشاع، أو بعض قوى من معسكر الممانعة. أنا لا أظن ذلك. (حماس) لها علاقات مع إيران ومع غيرها من القوى، و(حماس) كانت مستعدة وترجو أن تقيم علاقات مع قوى أخرى في الخليج وفي العالم العربي من خارج ذلك المعسكر.

الذي حصل لم يكن بمعرفة قيادة «حماس» في الخارج، وإلا لَمَا استقبلت هذا الحدث بنفس الدهشة والاستغراب، وحتى أجرؤ على القول، الصدمة التي استقبلها بها الآخرون من خارج (حماس)، بمن فيهم أنا. هم حاولوا أن يلملموا أنفسهم وألا يبدوا كأنهم في حالة تعارض مع قيادة الداخل، وحاولوا أن يجدوا الذرائع والمبررات بالقول إن هذا قرار القيادة العسكرية في الداخل، وإن القيادة العسكرية مخوّلة بأن تتخذ ما تشاء من قرارات، وأين أنتم كقيادة سياسية؟ تكتموا على هذا الموضوع حتى اليوم.

لا أريد أن أنتقص من دورٍ للخارج ولا للداخل في (حماس)، ومن مسؤولية الخارج والداخل عن هذا العمل الذي قاد إلى استغلال إسرائيلي من أجل توسيع نطاقه ومن أجل القيام بحملة مدمِّرة شرسة عنصرية مثل الحملة التي نشهدها الآن. أظن أن إسرائيل كانت تتمنى أن تتوافر ظروف من هذا النوع، وربما أقل حدة من نتائج (طوفان الأقصى) في يومه الأول، لكنها سرعان ما لملمت نفسها وعرفت كيف توجه الضربة المقابلة وأن تستغل ما حدث.

مقاتلون فلسطينيون يتحركون من خان يونس باتجاه إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

أنا أجزم بأن قوى الخارج بما فيها (حزب الله) فوجئت بانطلاق العملية. ردود الفعل ومحاولات التنصل الضمني مما حدث وقعت منذ اليوم الأول، في أقوال القيادات الإيرانية وقيادات (حزب الله) ومختلف التيارات. إذا كانت قيادة (حماس) نفسها لم تكن على علم، فكيف ستكون هذه الأطراف الأخرى على علم؟

أنا أظن أن القرار ذاتيٌّ من قيادة (حماس) في داخل غزة. وكما قلت، اعتقدتْ (هذه القيادة) أنها يمكن أن تقوم بعمل محدود نسبياً، ليس بالحجم الذي وقع، وأنّ رد الفعل الإسرائيلي أيضاً سيكون محدوداً نسبياً، أي بحجم، على الأقل، المعارك السابقة في 2014 و2018 وما قبلها، لكن أيضاً هم فوجئوا بحجم الإنجاز الذي تحقق لهم وسارعوا إلى محاولة استثمار هذا بعد أن وقع وأصبحت في يدهم أسلحة ثمينة من أسرى، مما أحدث هزة عميقة داخل إسرائيل».

ضرورة تجديد السلطة الفلسطينية

أريد الإشارة إلى استخلاص وحيد وقصير بالنسبة إلى معركة غزة اليوم. كلنا يعرف الواقع الإقليمي، وأنا لا أريد أن أدخل لا في التعليق ولا في إلقاء المواعظ والمطالب غير العقلانية مرة أخرى والنابعة من الشكوى ليس من حسابات القوى وموازينها، ولا الوضع الدولي. هناك فرص متاحة. الحركة الوطنية الفلسطينية مطالَبة الآن بأن تعيد تنظيم صفوفها ووضع أولوياتها السياسية من جديد، بما فيها حركة «حماس» وبقية القوى طبعاً.

ما أقصده أيضاً هنا، وبشكل أكثر صراحةً، أنه ينبغي ألا نستهين بالقول الذي أصبح متداولاً دولياً إن هناك حاجة إلى سلطة فلسطينية مجدّدة. ربما البعض ينظر إلى هذا المطلب الدولي كأنه نوع من الذريعة التي يستخدمها بعض القوى دولياً، خصوصاً الولايات المتحدة، للتنصل من القيام بما يتوجب عليها من إطلاق عملية سياسية تجعل هذه المأساة الواقعة في غزة اليوم، ليست فقط مأساة، وإنما فرصة للوصول إلى حل سياسي يشكّل الخاتمة في ما يتصل بالصراع العربي- الإسرائيلي.

ربما هو ذلك. لكن، لو كانت هناك قيادة وطنية فلسطينية موحدة، بمشاركة كل الأطراف بما فيها «حماس»، ألم يكن من الممكن تدارك ما حصل أو القيام بدور، ربما، يوفر ضمانة أكثر لمصالح الشعب الفلسطيني من الطريقة التي وقعت فيها أو انطلقت فيها هذه الأحداث الأخيرة من 7 أكتوبر حتى الآن؟ ألم يكن من الممكن أن نستخدم كل القوى المتوفرة في يدنا، وليست قوة غزة فقط أو قوى وإمكانات متناثرة هنا أو هناك في الضفة الغربية، أنْ نستخدم قوى وطاقات الشعب الفلسطيني كله بطريقة أكثر عقلانية أو أكثر فاعلية من الذي حصل حتى اليوم؟

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط»

نحن أهملنا، وبعضنا متعمِّدٌ أحياناً، عدداً من الفرص التي توافرت لإعادة تجميع القوى الفلسطينية في الإطار الوطني الواحد، وبالتالي السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني، بحيث لا ينفرد به طرف ويفاجئ الأطراف الأخرى. كم مرة دَعَوْنا إلى حوارات ووصلنا إلى نتائج؟ في السعودية، في مصر، حتى مؤخراً في الجزائر... إلخ. موسكو احتضنت حوارات في ما بيننا، ومشينا بعد انتهاء كل لقاء في اتجاهات أعادت الصراع والتناقض الثانوي الداخلي بيننا وجعلته هو الرئيسي.

أنا أظن أنه يجب أن تكون هناك الآن محاولة جدية لإعادة تجميع الصف الوطني الفلسطيني لتكريس وجود قيادة وطنية فلسطينية موحدة ومسؤولة تضم الجميع. وإضافةً إلى ذلك، يجب أن يعاد أيضاً إنتاج قيادة للسلطة الوطنية تستطيع أن تتعامل مع الظرف الحالي ومع النوافذ المفتوحة مهما كانت ضيقة التي يتيحها الكلام وتتيحها المواقف الدولية الحالية».

فرص إصلاح السلطة و«حماس»

هل السلطة قابلة للإصلاح؟ هل منظمة التحرير قابلة للإصلاح؟ هل «حماس» قابلة للتغيير؟ يظن عبد ربه أن كل هذا ممكن. «أي إن (حماس) قابلة للتغيير، ويجب أن تُغيّر وألا تحكم على نفسها بمصير مأساوي أيضاً. (حماس) الآن تَلقى احتضاناً واسعاً من الفلسطينيين في كل مكان، ومن جمهور واسع في المنطقة العربية، وحتى على الصعيد الدولي. هناك مَن يبرر لها ما حدث بالقول إن الصراع لم يبدأ في 7 أكتوبر، والصراع مسؤول عنه العالم الذي احتضن (أوسلو) في البداية ثم تدريجياً تخلى عن الأهداف التي وُضعت أو وُقِّعت من أجلها اتفاقية أوسلو، بما فيها التسليم بالأمر الواقع الذي أعاد إنتاج الاحتلال الإسرائيلي بصيغ أكثر تشدداً وتطرفاً من ناحية التوسع الاستيطاني لإعادة رسم خريطة الضفة الغربية بحيث يستحيل الوصول إلى قيام دولة فلسطينية.

(حماس) تستطيع، و(فتح) تستطيع، ولكنّ هذا يحتاج إلى قرار حقيقي من الطرفين لإعادة مراجعة لكل السلوك السياسي الذي اتخذاه. نحن في حاجة إلى حكومة تشكل نوعاً من التوافق الوطني، ليس حكومة هذا الفصيل أو ذاك الفصيل. لا حكومة غزة (الحمساوية)، ولا حكومة الضفة (الفتحاوية)، بل حكومة توافق وطني تقبل بها كل الأطراف ويقبل بها بالأساس الشارع الوطني الفلسطيني ويثق العالم العربي والدولي بأن مثل هذه الحكومة ستكون قادرة على أن تسير بالوضع الفلسطيني بجدية نحو تحقيق حل منشود وهو الدولة الفلسطينية المستقلة».

صلاحيات الرئيس و«القرار الصحيح»

الرئيس ياسر عرفات لم يتقبل محاولات الحد من صلاحياته، وكنت في خضمّ هذه التجربة. هل يتقبل الرئيس محمود عباس الحد من صلاحياته؟ أجاب: «ليس مطلوباً الحد من صلاحيات أحد، بمن فيهم الرئيس محمود عباس. الرئيس محمود عباس يستطيع من أجل أن يمارس صلاحياته الفعلية أن يبادر إلى تشكيل، أو الدعوة لتشكيل، حكومة توافق وطني (أُجري اللقاء قبل استقالة الحكومة الفلسطينية)، وأن يطلق حواراً سريعاً ومن دون تعقيدات شهدناها في كل أشكال الحوارات السابقة التي وصلت إلى طريق مسدودة. نحن نريد حكومة تستطيع أن تتحدث باسم الفلسطينيين بدعمٍ من كل الفلسطينيين بمن فيهم قواهم المنظمة؛ «فتح» و«حماس»... إلخ.

عباس وعبد ربه خلال زيارة لمعبر رفح عام 2005 (غيتي)

هو يستطيع أن يخرج من إطار الحسابات الضيقة، وأن يحافظ على موقعه ودوره. ولكن يجب أن يأخذ القرار أولاً. لأن ياسر عرفات لم يأخذ القرار المناسب في اللحظة التي كان فيها يحتاج إلى أخذ ذلك القرار. في خضمّ الانتفاضة الثانية الفلسطينية، كان ينبغي وبكل جرأة أن يرفع ياسر عرفات صوته ضد العمليات المسلحة التي كانت تستهدف المدنيين والتي كان الاحتلال الإسرائيلي يستثمرها إلى الحد الأقصى من أجل تبرير تدمير كل قوى وطاقات السلطة الفلسطينية، بما فيها تدمير اتفاقات أوسلو نفسها.

الاستيطان مشكلة «أوسلو»

ياسر عرفات في «أوسلو» كان غير مقتنع بالتدرجية، أي سياسة تنفيذ الاتفاق مع الإسرائيليين على مراحل. وكانت عنده خشية حقيقية، وثبت أنها خشية مشروعة، من أن الإسرائيليين يمكن أن يتوقفوا عند المرحلة الأولى التي احتوتها «اتفاقية أوسلو»، ثم التنصل من إكمال هذه المرحلة نحو المراحل الفعلية التي تتناول القدس وكل الأراضي الفلسطينية والانسحاب منها، وتتناول اللاجئين، وتتناول إزالة الاستيطان عن الأراضي الفلسطينية. كان يخشى ذلك، ولكنه قام بتجربة.

أنت تعرف في مفاوضات أوسلو، حتى لما كدنا نصل إلى اتفاق كان الإسرائيليون يعرضون علينا فقط الانسحاب من غزة وتبقى الضفة الغربية محتلة من الإسرائيليين للمرحلة الثانية، أي بعد خمس سنوات. ياسر عرفات هو الذي تدخل بقوة لكي يقول: أقبل بالانسحاب من غزة، ولكن أريد موطئ قدم أيضاً في الضفة الغربية. ولذلك، وصلنا إلى «اتفاق غزة وأريحا»، هذا كان بفضل ياسر عرفات وتدخلاته وليس بفضل المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين توصلوا إلى النسخة الأولى من «اتفاق أوسلو».

عرفات وإلى يساره ياسر عبد ربه عام 1993 (غيتي)

بعد أن قبلت إسرائيل بصيغة «غزة وأريحا»، ويمكن قبلها، كانوا يفكرون بأن جزءاً من منطقة جنين مثلاً يمكن أن يحيلوه إلى السلطة لتكون مسؤولة عنه أو غيرها من المناطق، ثم رسا الأمر على منطقة أريحا بمبادرة إسرائيلية. ربما لأنهم اعتقدوا أن هذه المنطقة هي المنطقة التي لا تحتوي على كثافة استيطانية نسبية في ذلك الوقت، ولأنها هامشية بالقياس إلى المناطق الأخرى سكانياً وجغرافياً في بقية الضفة الغربية، لكنَّ مشكلة ياسر عرفات كمشكلة الذين اشتركوا في «عملية أوسلو»، وأنا منهم، ومن دون أن أزيّن دوري بهذه الدرجة أو تلك، أنهم لم ينظروا إلى خطر الاستيطان الإسرائيلي النظرة التي يستحقها والتي يتطلبها في ذاك الوقت.

كان هناك مَن يعتقد أنه بمجرد قيام السلطة الفلسطينية في غزة وفي أريحا، سيدرك المستوطنون أنفسهم أن هذه بداية المسار وعليهم أن يهيِّئوا أنفسهم للرحيل، وأن يعودوا من حيث جاءوا. هذا على أرض الواقع لم يحصل، الذي حصل عكس ذلك. على امتداد السنوات، تمدد الاستيطان أكثر فأكثر. فلم يكن هناك تقدير حقيقي ناتج عن إدراك واقعي لحجم الاستيطان، لانتشاره في الأراضي الفلسطينية، ولمعرفة حتى ثقافية بالفكر الصهيوني الذي إذا تخلى عن الاستيطان تخلى عن عمادٍ رئيسي في المشروع الصهيوني منذ بدايته.

مطبخ «أوسلو» الفلسطيني

مَن كان أفراد مطبخ «أوسلو»، وهل كانت لمحسن إبراهيم، الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي»، علاقة به؟ قال: «ياسر عرفات ومحمود عباس وأحمد قريع وشخصي المتواضع وحسن عصفور، الذي كان مشاركاً مع قريع في مفاوضات أوسلو المباشرة. القرار كان يُتخذ هناك، ولكن الكلمة الأخيرة في القرار كانت لياسر عرفات. محسن إبراهيم كان على علاقة، وكان يتم إطلاعه أولاً بأول على تطور المفاوضات، لكن طبعاً كان محسن على درجة من الذكاء لكي ينأى بنفسه عن الدخول في صميم الحوار الفلسطيني الداخلي، أي الدخول في مناقشة القرار الفلسطيني الختامي والنهائي.

كان محسن يقدم ملاحظات ونصائح وتساؤلات، وكلها كانت ذات قيمة، ولكن لم يكن يقول إن عليكم أن تقبلوا أو لا تقبلوا بهذا البند الذي توصلتم إليه. كان ينأى بنفسه، إدراكاً منه كشخص لامع الذكاء، بأنه مهما بلغت معرفته بتفاصيل وتعقيدات الوضع الفلسطيني ليس من الناحية السياسية حتى من الناحية الجغرافية والديموغرافية والوضع القائم على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، لم يكن على إلمام كافٍ، فبالتالي لا يستطيع مَن هو في هذا الوضع أن يُدلي بدلوه في أن تقبل بهذا الشرط الإسرائيلي أو لا تقبل به».

وهل كان محمود درويش، الشاعر الكبير، على اطّلاع على «أوسلو»؟ يجيب: «أنا كنت شخصياً أُطلعه عليه، ومحمود كان حذراً منذ البداية. تحذيراته كانت تحذيرات عامة؛ أنه عليكم أن تحاولوا عدم الوقوع في الأفخاخ الإسرائيلية أولاً، وأن تحصلوا على التزامات محددة ودقيقة في ما يتعلق بالمواضيع الرئيسية: القدس، والانسحاب التام، والاستيطان، وطبعاً قضية اللاجئين. محمود يعرف ماذا يعني الاستيطان، بشكل أكثر دقة وأكثر واقعية من الآخرين.

أستطيع أن أقول وبناءً على خبرة مباشرة، إنني كانت لديَّ معرفة كافية للتحذير من خطر النظر إلى الاستيطان بشكل هامشي، وأن نتائج وجودنا ووضع أقدامنا مرة أخرى على جزء من أرض وطننا سوى تجعل الاستيطان ينعطف نحو الخلف ويزول من تلقاء نفسه بالتدريج. لم أكن من ذلك التيار، كنت أحذّر، لكن لم يكن تحذيري بالحدة الضرورية، ليس حدة الصوت بل حدة الموقف.

من ناحية أخرى، ياسر عرفات لم يكن يعرف الواقع الحقيقي للاستيطان ووجود المستوطنات، وآخرون كذلك، وأجزم بأنه حتى أبو مازن (الرئيس عباس)، لم يكن يعرف. كانت لديهم انطباعات أكثر من معرفة حقيقية، انطباعات مثل أن هذا وجود مؤقت وليس وجوداً راسخاً له طابع الديمومة على الأرض.

في مرات كثيرة، كثيرٌ من الناس في المنطقة العربية، حتى قادة، كانوا يعتقدون أن المستوطنات هي كرفانات متنقلة يمكن في لحظة إخراجها وسحبها كما جيء بها.

صدمة عرفات من المستوطنات

بعد عام 1996 عندما تمددت السلطة، «غزة وأريحا» ثم تلاها التمدد في أخذ السلطة المدنية والأمنية داخل المدن الرئيسية في الضفة الغربية، وهذا ما سُمي وقتها «اتفاقية إعادة الانتشار للقوات الإسرائيلية خارج المدن»، خارج «منطقة أ»، وتقسيم الضفة إلى ثلاث مناطق: «منطقة أ»، حيث للسلطة سيطرة كاملة، و«منطقة ب» حيث للسلطة سيطرة مدنية، و«منطقة ج» تبقى فيها لإسرائيل السيطرة المدنية والأمنية على مساحة تعادل 60 في المائة من أراضي الضفة. المهم، بعد أن حصل هذا، وكان حديثاً توصّلنا إلى انسحاب إسرائيلي من رام الله.

جاء عرفات إلى رام الله، وكان في حاجة إلى السفر إلى الأردن. وكانت الأجواء فيها ضباب ومُنعت المروحية من نقله من رام الله إلى عمان، فأردنا أن نأخذ طريق البر الذي يقود من رام الله إلى ضواحي القدس تقريباً، مروراً إلى الأغوار فأريحا ثم الانتقال إلى الأردن. كنت مع عرفات في السيارة وحدنا. نزلنا من رام الله عبر ضواحي القدس. أنا كنت قبل ذلك، حتى قبل أن ينسحب الإسرائيليون، قد تجولت في الضفة الغربية كلها، منطقةً منطقةً، لأتعرف على بلدي وعلى تضاريسه وعلى واقع الاستيطان في ذلك البلد، وربما بادرت منذ اللحظة الأولى لتشكيل مؤتمر وطني لمقاومة الاستيطان، ونحن ما زلنا في أريحا ولم نصل إلى بقية المدن.

في الطريق راح ياسر عرفات يسألني: «إيه ده؟» فأقول له: هذه مستوطنات. يُدهَش: «دي مستوطنات؟». مستوطنات بمعنى بلدات، وبنية تحتية حتى أكثر تقدماً من البنية التحتية للقرى الفلسطينية، وبلدات منتشرة وواسعة وفيها كل مقومات الحياة المدنية على الأرض. كل كيلومتر يسأل وأقول له: هذه مستوطنة. صمت ياسر عرفات وأُصيب بما يشبه الصدمة، ليست العاطفية، بل السياسية، لأنه تعرَّف على واقع الاستيطان أفضل مما تعرف عليه في غزة. في غزة كانت مستوطنات صغيرة، بؤراً محاطة ومطوَّرة بوجود بشري وجغرافي فلسطيني، فكان هذا الوجود هشاً لا يعمّر كثيراً، بعكس الواقع الذي كان قائماً في الضفة الغربية.

«استخفاف» عباس بالاستيطان

مرة كنت أنا وأبو مازن في الطريق إلى إسرائيل لإجراء لقاء في السفارة المصرية مع عدد من الإسرائيليين بحضور ومشاركة السفير المصري حينها. في هرتسيليا، محل إقامة السفير المصري، وليس في السفارة بتل أبيب. كان هذا في نهاية التسعينات.

وفي الطريق، هناك أرض حرام بين الضفة الغربية وإسرائيل. كانت منطقة حراماً، أي منطقة فاصلة. الإسرائيليون دخلوا إلى هذه المنطقة وبدأوا ببناء مستوطنات جديدة. أشرت لأبو مازن وقلت له: هؤلاء الذين يتحدثون عن التسوية، هذه المنطقة الحرام الفاصلة التي يجب أن تعود لنا أو على الأقل نتقاسمها، بدأوا ببناء مستوطنة عليها. أبو مازن نظر إليَّ وقال: «مش مشكلة. هذا كله سيعود إلينا. كله سنستعيده».

كانت نظرته إلى الاستيطان فيها درجة عالية من الاستخفاف، وأظن أنه حتى بعد أن أصبح رئيساً كانت نظرته ذاتها إلى الاستيطان أنه هذا كله سيزول، وقابل لاستعادته ولا يشكل خطراً كبيراً كما يتصور البعض الآخر، سواء منظمات أهلية فلسطينية أو شخصيات فلسطينية أو قيادات... إلخ.

عرفات وشخصنة حلم الدولة

سألت عبد ربه: هل تعتقد أن ياسر عرفات أراد أن يدخل التاريخ بصفته مَن استعاد قسماً من الأراضي الفلسطينية وبعدما تعب من حروب العواصم ومن الوضع العربي والوضع الدولي، وأنه يريد قبراً في الأراضي الفلسطينية؟ فردَّ بأن «ياسر عرفات كان طبعاً يريد أن يكرَّس أولَّ فلسطيني أنشأ للفلسطينيين أو قاد الفلسطينيين نحو إنشاء دولة مستقلة. وهذا الحلم لم يفارقه.

أحياناً كثيرة، بعض القادة يصبحون مسكونين بفكرة معينة، ويتماهون بين شخصهم وبين الفكرة. بين شخصهم والحقوق الوطنية أو السياسية لشعب بأكمله. كان لديه حلم شبيه بما حلم به نيلسون مانديلا وربما غاندي وغيرهما. ياسر عرفات كان يريد أن يكون هذا البطل الذي يَرسخ في ضمير الشعب الفلسطيني لأجيال. ذكراه وإنجازاته تَرسخ للأجيال القادمة.

مصافحة بين عرفات وإسحق رابين في حديقة البيت الأبيض برعاية بيل كلينتون (أ.ف.ب)

مشكلة ياسر عرفات أنه كان يعطي الأولوية لسيطرة السلطة على المواقع التي فيها تجمعات رئيسية للشعب الفلسطيني. سيطرة السلطة على الشعب، على الناس، وليس بالمعنى السيئ للسيطرة، بل بالمعنى السيادي، بمعنى أن يكون هو الممثل لهذا الشعب، ويستهين إلى حد غير قليل بموضوع الأرض، كأنَّ الأرض ستعود من تلقاء ذاتها عندما تصبح هناك سلطة لها مؤسسات لها هيئات مختلفة؛ لها حكومة ولها تمثيل، وأيضاً يخضع لها كل الشعب الفلسطيني. وهذا الشعب يختار ممثليه لهذه السلطة عبر الانتخابات.

أُريد هنا أن أعطي نموذجاً لذلك؛ في المرحلة التي كنا نتفاوض فيها بعد عودة السلطة إلى أرض الوطن وبدء التفاوض على اتفاق ما سُميت إعادة الانتشار والسيطرة الفلسطينية على المدن الرئيسية في الضفة الغربية سيطرة كاملة، كانت هناك لقاءات مستمرة، سواء في طابا المصرية أو أحياناً في بعض الأماكن مثل غزة، محيط غزة، وأحياناً كثيرة في رام الله وفي داخل بعض المناطق الفلسطينية، تجمع ياسر عرفات وشمعون بيريز الذي كان مكلفاً بدرجة رئيسية، وقبلها في حياة إسحاق رابين كانت تجمعه برابين.

عندما توصلنا إلى اتفاق حول انتشار السلطة في كل المدن، كان هناك لقاء مع بيريز. في هذا اللقاء، أنا كنت أجلس إلى جانب عرفات، قال له بيريز بكل صراحة وقحة: نحن لا نستطيع إكمال إعادة الانتشار في الضفة الغربية لأن هناك بعض المستوطنات المعزولة التي لم يُبتّ بمصيرها لأن هذا له علاقة بمفاوضات حول الوضع النهائي. هناك مستوطنات معزولة يجب أن تجد سبيلها للصلة بإسرائيل من دون المرور بمناطق مأهولة فلسطينية. وقال: كلها مجرد خمس طرق.

أنا كنت أجلس إلى جانب ياسر عرفات الذي كان بين خيار أن يستمر الانسحاب من بقية المدن أو أن يوافق. همستُ له وكتبت: لا تقبل يا أبو عمار. لا تقبل. لأنه أصبح ليس إحساساً بل معرفة، بأن الطرق الخمس يمكن أن تصبح خمسين طريقاً. والطريقة الإسرائيلية في التفاوض هي: يسهِّل ما يريده منك ويعقِّد ما تريده منه، حتى لو كان هناك ألف توقيع، وألف التزام، ومحدَّد بالتفصيل وبدقة. وهذا ما حصل. ياسر عرفات فكَّر قليلاً، على الأقل، كنت أتوقع أنه سيرفع الاجتماع، ثم قال له بالإنجليزية: take it (خُذها). شمعون بيريز فهم الدرس. يمكن أن تساوم ياسر عرفات على توسيع سلطته ونفوذه في الضفة الغربية مقابل أن تحصل على مكاسب بالنسبة للمستوطنات وأن يقبل بها من دون أن يثار حولها أي ضجيج».

غداً حلقة ثانية

حقائق

من هو ياسر عبد ربه؟

ولد ياسر عبد ربه في يافا في 1945. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى لبنان. كان في سن الخامسة عشرة حين نجح السياسي اليساري اللبناني محسن إبراهيم في إقناعه بالانضمام إلى «حركة القوميين العرب». تابع في الجامعة الأميركية في القاهرة دراسته في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.

في 1968 كان إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد في تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وشارك في السنة التالية في تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وهو كان الرجل الثاني فيها بعد حواتمة. غادر الجبهة عام 1990 وأسس حزب «فدا»، قبل أن يتخلى عن قيادته ويعمل مستقلاً منذ 2004.

كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات في 1968 إبان «معركة الكرامة» حين تصدت المنظات الفلسطينية الناشئة بدعم من مدفعية الجيش الأردني لقوات إسرائيلية هاجمت بلدة الكرامة الحدودية. ربطته لاحقاً بعرفات علاقة ثقة وطيدة مكنته من لعب دور بارز في الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ترأس عبد ربه الجانب الفلسطيني في أول حوار مع الولايات المتحدة عام 1989، وكان شريكاً فاعلاً في ما عُرف بـ«مطبخ اتفاق أوسلو». وتولى بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة مناصب وزارية. وشارك في معظم لقاءات عرفات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.

تولى بين 2005 و2015 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخرج من منصبه في ختام تلك الفترة بعد خلافات علنية مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس. أتاح له دوره في منظمة التحرير المشاركة في لقاءات رفيعة مع زعماء من العالم العربي وخارجه. وربطته علاقة مودة عميقة مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.

متزوج من الروائية ليانة بدر، وله ولدان.