يلملم حبيب بيضون (82 عاماً) الزجاج من أمام مشغل الأحذية الذي يملكه في ضاحية بيروت الجنوبية، ويراقب الصحافيين والزوار الرسميين القادمين إلى موقع اغتيال القيادي في «حماس» صالح العاروري. «نجونا بأعجوبة»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، مشيراً إلى تساقط الزجاج والأحجار من المبنى الذي يقطنه إثر الانفجارات. أزال الحصى والزجاج المتناثر، وأعاد فتح مشغله، مثله مثل عشرات المتاجر في محيط موقع الاستهداف.
وبيضون، واحد من مئات أرعبهم دويّ الانفجار المفاجئ على مدخل الضاحية الشمالي، لكن أياً منهم لا يمتلك رواية كاملة، أو معلومات مؤكدة عما حدث، رغم تقاطع جميع الشهود هنا على أنهم سمعوا دوي انفجارات متزامنة، ألزمت قسماً كبيراً من السكان بالمغادرة من مواقع سكنهم القريبة «خوفاً من أن يكون القصف الإسرائيلي قد بدأ».
يخبر السكان أن الازدحام شهد مستويات قياسية بعد الاستهداف على مسالك الخروج من المنطقة باتجاه عمق المدينة في بيروت التي تبعد نحو 5 كيلومترات، خوفاً من أن تكون الانفجارات مقدمة لقصف متتالٍ.
دمار بالحد الادنى
تبدو آثار الاغتيال ماثلة في شقتين سكنيتين محترقتين بالكامل. اخترق صاروخ سقفين من الطبقة الثالثة، إلى الطبقة الأولى، وتظهر آثاره في فتحتين متوازيتين، فيما سقط السقف الثاني على أرض الطبقة الأولى. وفي الشارع الموازي للمبنى، ثمة سيارتان تعرضتا لحريق، ولا يعرف السكان كيف وصلت كتلة اللهب إليهما، رغم بُعدهما عن المكان المستهدف 15 متراً بالحد الأدنى.
لا تزال الأجهزة الأمنية اللبنانية ترفع الأدلة من المكان المستهدف، فيما يتحضر عناصر حزبيون لرفع لافتة في المكان المستهدف تتضمن صورة كبيرة للمسجد الأقصى. وعلى الشرفة المقابلة، يعمل عناصر من الدفاع المدني التابع لـ«الهيئة الصحية الإسلامية» برفع الأنقاض. أما على الأرض، فيصل المسؤولون الرسميون لتفقد موقع الاستهداف.
وتفقد الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء الركن محمد خير موقع الاغتيال، وقال: «كلّفني رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالجولة التفقدية في المكان المُستهدف وسنحصي الأضرار، وسيصدر تقرير بهذا الشأن»، لافتاً إلى أن «التعويضات ستكون بحسب ما سيصدر عن مجلس الوزراء». وأضاف: «ما رأيناه هنا يتطلب تحقيقات من قبل عدة جهات والأضرار محدودة».
استئناف الحياة
في موقع الانفجار، يكمل السكان حياتهم كالمعتاد، رغم إقفال الشارع أمام السيارات بآليات الجيش اللبناني والدفاع المدني، وتحوله إلى ساحة لجمع الأدلة. إلى جانب الموقع المستهدف، متجران يبيعان الحلويات، وآخر يبيع التبغ، أعاد أصحابها فتح أبوابها، وكان الزبائن يعبرون ويدخلون إليها ويخرجون كالمعتاد. فالقصف، لم يصب المتاجر بأضرار كبيرة، كما لم يدمر المباني، مما يعزز الاعتقاد بأنه كان دقيقاً ومتطوراً لدرجة أنه يصيب المستهدفين تحت السقوف، من دون دمار كبير.
وتتنازع السكان الذين عادوا إلى المنطقة، صباح الأربعاء، مشاعر متضاربة. فمن جهة، يرى البعض أن الخطر انتهى «بمجرد ما علمنا أنه اغتيال»، ما يعني أن «لا تبعات له أو قصف سيتواصل»، فيما لا يخفي آخرون قلقهم من «تحول المنطقة إلى ساحة مفتوحة للقصف الإسرائيلي»، للمرة الأولى منذ أربع سنوات على أقل تقدير، إثر المسيّرة الإسرائيلية التي انفجرت في منطقة معوض في أغسطس (آب) 2019.
في الواقع، يجدد هذا الانفجار قلقاً سابقاً اختبره السكان على مدى سنوات، بدءاً من القصف الإسرائيلي في حروب إسرائيلية متواصلة، وانفجارات هزت الضاحية الجنوبية في فترة الحرب السورية بين 2013 و2015، مما يزيد من منسوب القلق الذي يزداد أخيراً، مع نزوح عشرات الآلاف من قرى الجنوب الحدودية إلى الضاحية منذ بدء الحرب في الجنوب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
ويقول بيضون: «اختبرنا التهجير عدة مرات»، مذكراً بالنزوح من مسقط رأسه في مدينة بنت جبيل الحدودية في السبعينات باتجاه النبعة في ضاحية بيروت الشرقية التي غادرها أيضاً إلى بيروت ثم الضاحية الجنوبية، إثر الحرب اللبنانية، وأخيراً مغادرة منزله في بنت جبيل بسبب التصعيد على الحدود الجنوبية. يضيف: «لا يمكن أن تُؤتَمن إسرائيل على أرواح اللبنانيين. هذه حالنا منذ نشأتها على حدودنا الجنوبية».
عدم يقين
وتسود حالة عدم يقين في المنطقة، مما يعقد إمكانيات اتخاذ أي قرار. تقول سيدة تعبر الشارع من ناحية بئر العبد باتجاه شارع معوّض: «لا نعرف إذا كان علينا سنغادر، وما إذا كان الاستهداف مقدمة لاستهدافات أخرى أو لحرب تتوسّع إلى الضاحية». وتضيف أن تطورات الأيام المقبلة «ستحدد ما إذا كان علينا مغادرة المكان، أو ملازمة منازلنا»، في إشارة إلى رد «حزب الله» المتوقع على اغتيال العاروري، وحجم الرد الإسرائيلي المقابل.
بالموازاة، لا يعرف السكان ما إذا كانت قيادات «حماس» بالفعل موجودة في الضاحية، أو تتنقل بين الناس، خصوصاً أن الشقة المستهدفة لم يكن أحد يعرف أن قيادات من «حماس» تقيم فيها، وهو أمر يؤكده سكان الضاحية. ويمثّل هذا الأمر عامل قلق آخر، فهم لا يدركون نوايا إسرائيل، ولا حركة «حماس» للابتعاد عنها في حال تنقل مسؤوليها بين الناس، مما يجعل المشهد ضبابياً.