قبل 10 سنوات بالضبط، في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2013، أعلن الجيش الإسرائيلي عن اكتشاف ما أسماه «أول نفق هجومي ضد إسرائيل» في قطاع غزة. كان ذلك النفق بطول 800 متر، يبدأ في الحي الشرقي من مدينة خان يونس، ويمتد 100 متر داخل المناطق الإسرائيلية، وعلى عمق 20 متراً تحت الأرض، وبلغ عرضه وارتفاعه مترين.
لكن الإعلان الإسرائيلي عن ذاك النفق لم يتضمن العثور على آثار أسلحة أو عبوات ناسفة، كما حصل مع أنفاق صغيرة سابقة وجدت مفخخة، فقدّر الخبراء العسكريون أن «حماس» استهدفت أن يستخدم هذا النفق لغرض «خطف جنود إسرائيليين». كان تعليق قائد ميداني كبير في الجيش الإسرائيلي لصحيفة «هآرتس»، آنذاك، ما نصه: «سنجعلهم يندمون على هذا الجهد الضخم ويندفعون إلى اليأس والإحباط». وحطم الجيش الإسرائيلي بالفعل هذا النفق في حينه، كما فعل مع سابقه، وبدأ يفتش عن طريقة للقضاء على الأنفاق، وأقيمت وحدة عسكرية خاصة لهذا الغرض، شملت عدداً من العلماء، الذين تم تكليفهم ببناء أجهزة إلكترونية ومجسات حديثة لاستشفاف مكان الأنفاق والقضاء عليها، وعندما سُئل حينها قائد اللواء الجنوبي، يوآف غالانت، عن هذه الوحدة قال: «هذه حرب أدمغة بيننا وبين (حماس)، ونحن نخوضها بهدف واحد وحيد، هو الانتصار عليهم». اليوم صار غالانت وزيراً للدفاع، وباتت الأنفاق منتشرة على طول القطاع وعرضه، إلى حد أنهم يعتبرونها في تل أبيب «إف 35» بالنسبة لـ«حماس»، في إشارة إلى الطائرة الأميركية ذات القدرات الفائقة. لكن في تقدير أكثر تواضعاً يقولون إنها «مفاعل نووي بالنسبة للإرهاب». وما زال غالانت يتحدث عن «الانتصار»، بل عن إبادة.
خلال السنوات العشر الماضية لاحظ الجيش الإسرائيلي أنه لم يستطع القضاء على ظاهرة الأنفاق، بل زادت واتخذت شكلاً مختلفاً تماماً. ففي البداية أقيمت لكي تتيح لمقاتلي «حماس» صد هجمات إسرائيلية برية، فيفاجئون هذه القوات بنصب الكمائن، ثم حددوا لها هدف خطف جنود.
ونجحوا في ذلك سنة 2014، عندما شنت العملية الحربية «الرصاص المصبوب»، وتم خطف جنديين ما زالا حتى اليوم تحت أسر «حماس»، فقررت عندها إسرائيل بناء جدار ضخم على طول الحدود (65 كيلومتراً)، يمتد فوق الأرض وتحت الأرض، وهكذا لم تعد الأنفاق قادرة على اختراق الحدود الإسرائيلية.
لكن، تبين أن «حماس» تنازلت عن الأنفاق لاختراق الجدار الإسرائيلي، الذي كلف مليار دولار، واخترقتها بجرار وجرافة دفعت أجرتهما لأحد المقاولين 200 دولار، وأما الأنفاق فأخذتها إلى قلب قطاع غزة، وراحت تبني شبكة أنفاق ضخمة، يقال إن مثل هذه الأنفاق للاستخدام الحربي موجودة في كوريا الشمالية فقط، ولا يستبعد الإسرائيليون بدورهم أن تكون كوريا الشمالية شريكة في تخطيطها، وليس إيران فقط. بل إن بعض هذه الأنفاق استفادت من الخبرة الإسرائيلية نفسها في الموضوع. فإسرائيل نفسها كانت قد بنت سنة 1980 طابقاً أرضياً تحت مستشفى الشفاء في قلب مدينة غزة، عندما كانت تحتل القطاع بالكامل.
«غزة التحتا»... وأكثر
لقد انشغلت إسرائيل خلال السنوات العشر الماضية، في متابعة الأنفاق من قطاع غزة إلى داخل الحدود الإسرائيلية، وعندما بنت الجدار الواقي اطمأنت إلى أنها تمكنت من تدمير هذه الفكرة. فقد هدمت هذه الأنفاق وملأتها بمادة سائلة تنفخ حال إطلاقها وتسد كل منطقة فراغ فيها. ومن شدة الاطمئنان، سحبت الأسلحة من أيدي سكان غلاف غزة وخفضت عدد أبراج المراقبة. لكن «حماس» كانت تستغل هذه الفترة لبناء شبكة أنفاق ضخمة داخل القطاع، عددها 1300 نفق، تقع في عمق يصل إلى 70 متراً تحت الأرض، ويبلغ طولها حسب الفلسطينيين 500 كيلومتر، لكن العميد يعقوب نيجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن الأنفاق أطول، وربما تبلغ ألوف الكيلومترات. وأضاف، خلال مقابلة مع صحيفة «غلوبس»، قبل نحو أسبوعين، أن «الكلام يكون دقيقاً أكثر إذا تحدثنا عن ألوف الكيلومترات، وهذه الأنفاق بُنيت على طريقة كوريا الشمالية، التي تعدّ رابع أو خامس قوة عسكرية في العالم، وأنفاق غزة أكبر شبكة من نوعها في العالم بعد شبكة كوريا الشمالية، وسيكون من الصعب الاعتماد على الروبوت بداخلها، لأن الروبوت لا يعمل بهذا العمق تحت الأرض، والقتال داخل الأنفاق شبه مستحيل».
ومع ذلك، فإن الجيش الإسرائيلي يدّعي أن لديه «خرائط مفصلة عن هذه الأنفاق». ويُعد خططاً ملائمة ليجعلها «مقبرة لقادة (حماس)»، فيما يدعي قادة الحركة أن الأنفاق «شهدت تطويراً كبيراً في السنتين الأخيرتين وفقاً لتكنولوجيا عالية ستصدم إسرائيل، وتجعلها مصيدة ضخمة لجنودها. وفي كل الأحوال، تحولت الأنفاق إلى عنوان رئيسي في هذه الحرب، قادة «حماس» في قطاع غزة، ومعهم حوالي 20 ألف مقاتل وأكثر، يستخدمونها حصناً منيعاً تحت الأرض، وتسعى إسرائيل لخنقهم فيها حتى الموت.
فكيف هي الحياة في الأنفاق؟
القول إن «الحياة» في أنفاق غزة ليس دقيقاً؛ لأن هذه لا تسمى حياة فمصاعبها جمة. ومع ذلك، فهذه الأنفاق لم تعد كما يوحي اسمها مجرد ممرات طويلة ذات ارتفاع قليل، وأرضية من التربة. فما بنته «حماس» هو مدينة أخرى تحت الأرض تسمى «غزة التحتا»... وهناك من يقول إن تحت الأرض «غزتين»؛ أي أن هناك بلدة ثالثة تحت طبقة أخرى تحت الأرض. من يسير على طرقاتها يجد أماكن استراحة رحبة، كما الحال في استراحات محطات الوقود، وفيها غرف للاجتماعات، وأخرى للنوم، مجهزة بكل ما يلزم. وهي مزودة بمنظومة تهوية حديثة ومتطورة، وتحتوي على مخازن عدة للأغذية وأخرى للأدوية والوقود. وتعمل فيها شبكة اتصالات مشفرة، لم تنجح إسرائيل في تفكيكها، والدليل على ذلك أنها تدربت على غزوة إسرائيل (طوفان الأقصى) طيلة سنة كاملة مستخدمة هذه الشبكة من دون أن يتم اكتشاف الخطة. وكوادر «حماس» التي تتولى اللوجستيات مدربة على توفير «احتياجات الصمود» على اختلافها.
بالطبع، من يعيش فيها لا يتمتع بحياة مرفهة، كما الحال في مقرات قيادة الجيش الإسرائيلي، وبالتأكيد ليس كحال قادة «حماس» في الخارج، ومستخدموها يعانون من ظروف غير سهلة. وإسرائيل أعدت خططاً لجعلها حياة لا تطاق ولتحويلها إلى مصيدة ضخمة لرجال «حماس» وقادتها. وبحسب خبراء، فإن إسرائيل تنوي إغراق الأنفاق بمادة لزجة تنفخ وتصبح صلبة حال انطلاقها، وبذلك تغلق مدخل النفق كما لو أنها تضع بوابة حديدية ضخمة، سمكها من عدة أمتار. وستستخدم قنابل فراغية (فاكوم)، لهدمها على رؤوس من فيها، إلا أن «حماس» ومن ساعدها في هذه التقنية يقولون إنهم أخذوا بالاعتبار كل هذه الاعتبارات، وإنهم جاهزون للقتال، وهم يتحدون إسرائيل عبرها.
مجمع الشفاء
«مجمع الشفاء» الطبي القائم في قلب مدينة غزة أصبح هدفاً مركزياً للجيش الإسرائيلي، والحجة أنه يضم طابقاً أرضياً، وأن قيادة «حماس» اتخذت منه مقراً رئيسياً، واعتبرت تل أبيب الأمر «استخداماً للمستشفى ومرضاه دروعاً بشرية يختبئون وراءها». غير أن الحقيقة التي لا يتحدثون عنها في إسرائيل هي أولاً؛ أن إسرائيل نفسها تقيم مقر قيادتها في قلب تل أبيب، بالقرب من عمارات سكنية ومستشفى إيخيلوف، أحد أكبر مستشفيات إسرائيل. والحقيقة الثانية التي يتجاهلونها هي؛ أن إسرائيل نفسها هي التي استغلت هذا المقر (مجمع الشفاء)، فمنذ أن احتلت إسرائيل القطاع سنة 1967 استخدمت مرافقه مقراً لعمل الحاكم العسكري. وفي سنة 1980، بنت الطابق الأرضي ليكون مثل خندق وملجأ للقيادة، وظلت تستخدمه حتى آخر يوم لاحتلالها، سنة 1994. و«مجمع الشفاء» الذي كان مسؤولاً عن تقديم الخدمة الطبية لـ652 ألف فلسطيني يقطنون مدينة غزة، وآلاف من باقي سكان مدن القطاع، كان يعاني الأمرين قبل هذه الحرب، أولاً؛ بسبب الحصار الإسرائيلي، وثانياً؛ بسبب حكم «حماس» الذي لم يوفر له ما يحتاج من أدوية وأدوات طبية، فآلاف العمليات الجراحية مؤجلة، والمرضى بلا أدوية، فضلاً عن الصراع على وصول الكهرباء في ظل الانقطاع الطويل والمتكرر، وفقدان الوقود الذي يفترض أن يشغل مولدات الكهرباء للاستمرار في عمله، وهذا كله يشكل خطراً مباشراً على حياة المدنيين داخل القطاع.
ومع خطة إسرائيل لتفريغ شمال القطاع ودفع المواطنين إلى الجنوب، بذريعة حمايتهم، لجأ إلى المستشفى حوالي 100 ألف إنسان، إذ اكتشف الناس أن إسرائيل تقصف قوافل الهاربين، وهم على الطريق، وتقصف أيضاً المناطق الجنوبية التي تدعي إسرائيل أنها مناطق آمنة، والآن يهددون بقصف المستشفى، وتدميره، بدعوى الوصول إلى الأنفاق تحت المشفى والتي تضم قادة «حماس». وفي داخل إسرائيل، يدور حديث أن ما تقوله الحكومة والجيش بشأن وجود قيادات لـ«حماس» في خندق أسفل المستشفى منذ بداية الحرب كان كافياً إن صح ليدفعهم إلى المغادرة، ويبتعدوا إلى مناطق أخرى، ويعتبروا التهديدات الإسرائيلية مجرد «ترويع» للسكان.