الحرب هي السياسة... لكن بوسائل أخرى

دخان يتصاعد بعد غارة إسرائيلية على غزة الجمعة (أ.ف.ب)
دخان يتصاعد بعد غارة إسرائيلية على غزة الجمعة (أ.ف.ب)
TT

الحرب هي السياسة... لكن بوسائل أخرى

دخان يتصاعد بعد غارة إسرائيلية على غزة الجمعة (أ.ف.ب)
دخان يتصاعد بعد غارة إسرائيلية على غزة الجمعة (أ.ف.ب)

لا تتغيّر أبداً طبيعة الحرب. فهي تُخاض لأهداف سياسيّة. هكذا نظّر المفكر البروسي كارل فون كلوزفيتز. لكن الأكيد أن خصائص الحرب تتغيّر تبعاً للتغييرات في الأبعاد الاقتصاديّة والسياسيّة كما الاجتماعيّة، لكن من دون أن ننسى التكنولوجيّة منها.

كانت الحروب تُخاض قديماً حول المدينة بهدف الاستيلاء عليها وليس في داخلها. حتى إن معركة ستالينغراد الشهيرة، دارت كلّها حول المدينة، ولم تُخض من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى آخر.

في الحرب كلّ شيء سهل، لكن أسهل شيء فيها هو معقّد جداً جداً. فمن يذهب إلى الحرب فهو حتماً يطرق باب المجهول. هكذا هي حرب المدن. تستقبل المدينة زوارها، فإذا انقلبوا عليها تنقلب عليهم هي بدورها. هي مسالمة إذا كان الزائر مسالماً. وهي معادية إذا كانت نوايا الزائر خبيثة. تفضّل المدينة ابنها ومن ولد فيها. فهو يعي المكان والزمان فيها. له ذكريات في كلّ زاوية منها.

يعدّ المفكّر الألماني فريديريك راتزل، وهو أبو الجغرافيا السياسيّة، أن المدينة تعد مختبراً مهماً لتلاقح الأفكار. فهل رأيت يوماً عبقرياً يخرج من القرية؟ فهو يولد في القرية، لكن تطوّره يكون حتماً عبر المدينة.

في الحرب الأهليّة الأميركيّة (1860-1865) التي حصدت أكثر من 650 ألف قتيل، ذهب سكّان واشنطن إلى الريف لمشاهدة معركة بول رن (Bull Run)، مصطحبين معهم زادهم، والنظارات التي يستعملونها عند مشاهدة الأوبرا. سُمّيت هذه المعركة بمعركة «النزهة»، (Picnic Battle). حالياً، وفي القرن الحادي والعشرين لا ضرورة للذهاب بنزهة لمشاهدة معركة حيّة. فإن لم تكن المدينة مهتمّة بالحرب، فالحرب حتماً مهتمّة بالمدينة. فهي أصبحت مسرحاً للصراع ومرتعاً لمن لا يملك القوّة الكافية لمقارعة الأقوياء. تعد المدينة عاملاً مساوياً - مُعادلاً (Equalizer) للقوى. تضرب المدينة التفوّق العددي، كما النوعي للمهاجم. للمدينة خصوصيّة. تكمن روحيّتها في مساحتها، وفي هندستها المُدنيّة، في شوارعها، ومعالمها. فكلّ منزل فيها يعد متراساً. وكلّ عمارة عالية تعد مركز مراقبة ورصد. في المدينة تطول المسافات، ويتأخرّ الوقت. ومن يدخل المدينة يتغيّر، وفي الوقت نفسه يُغيّر المدينة. فالعلاقة بين المدينة ومن يهاجمها علاقة جدليّة.

في المدينة، يتعلّم الجنديّ ما لم يتعلّمه في أثناء تدريبه، حتى ولو حصل هذا التدريب ضمن مُدن اصطناعيّة مشابهة لمسرح الحرب الفعليّ.

هكذا تدرّب إسرائيل قواتها الخاصة على حرب المدن. فهي قد بنت في صحراء النقب مركزاً للتدريب على حرب المدن، وهو نسخة طبق الأصل عن المدينة الفلسطينيّة. يوجد في هذه المدينة الاصطناعيّة، مسجد، ودكاكين، و«غرافيتي» على الجدران مشابهة تماماً للمدن في قطاع غزّة. تشبه شوارع هذه المدينة شوارع المدن الفلسطينيّة. لكن الحرب الفعليّة في المدينة، هي غير حرب التدريبات. ففي المدينة، يتعلّم الجنديّ بعد كل خطوة يتقدّمها (On the Job Training). وعند كلّ خطوة يتقدّمها يبدأ بوعي المكان. وعند تجاوزه هذه الخطوة، قد تكون الخطوة التالية قاتلة. فوعيه للمكان تدريجيّ تراكميّ، وذلك بعكس ابن المدينة الأصليّ.

مسيّرة إسرائيلية طراز «إلبت هيرميس 450» تجول على طول حدود غزة الجمعة (أ.ف.ب)

حرب غزة البرية

يريد نتنياهو تدمير حركة «حماس». لكن الوسائل والوقت الممكن لذلك لا يساعدانه. فهو يريد شيئاً، وقادته العسكريّون يريدون شيئاً مختلفاً. والاختلاف على الخطط ظاهر للعيان.

بعد زيارة بايدن لإسرائيل، تظهّرت الرعاية الأميركيّة المباشرة للحرب على غزّة. فالبيت الأبيض، وحسبما تبيّن حتى الآن، يريد الأمور التالية: أن تقوم إسرائيل بعملية عسكريّة لكن من دون احتلال كامل القطاع. أن يؤخذ بعين الاعتبار وضع الرهائن، كما وضع المدنييّن في غزة. الاستمرار بتدفّق المساعدات الإنسانيّة إلى القطاع. وتقول بعض المعلومات إن الأميركيين يعتقدون أنه لا يمكن تحقيق الكثير من عملية بريّة كبيرة. وعليه، قد يمكن القول إن المطلوب حتى الآن هو على الشكل التالي:

استمرار القصف الجوّي مع الأخذ بالاعتبار وضع المدنييّن الغزّاويين؛ شرط أن يكون هذا القصف تحضيراً لعمليات عسكريّة داخل القطاع؛ على أن تكون هذه العمليات نوعيّة متفرّقة في أماكن عدّة، وقد تستهدف القيادات العسكريّة لحركة «حماس»، وضمناً البنى التحتيّة.

مسيّرة إسرائيلية طراز «إلبت هيرميس 450» تجول على طول حدود غزة الجمعة (أ.ف.ب)

تطلب أميركا من إسرائيل تحديد نظريّة النصر. أي متى تقف الحرب؟ وتعد إسرائيل نفسها على أنها حقّقت ما تريده. وأخيراً وليس آخراً، عدم جرّ «حزب الله» إلى فتح جبهة الشمال.

تُشكّل هذه الشروط، تقييدات كبيرة على السلوك الحربيّ الإسرائيليّ رداً على عمليّة «طوفان الأقصى». هذا مع العلم أن عامل الوقت كان دائماً يلعب ضدّ المصالح الإسرائيليّة في حروبها مع العرب. من هنا، تبدو نافذة الوقت المفتوحة لإسرائيل للقيام بأيّ عمل عسكريّ صغيرة جداً.

 

في مقارنة الوسائل

«حماس»: حضّرت «حماس» القطاع للسيناريو الأسوأ منذ سيطرتها عليه عام 2007. فهي حضّرته للقتال بعدة أبعاد: البعد الأفقي - طول وعرض؛ البُعد العاموديّ، أي الأبنية العالية؛ وأخيراً وليس آخراً، البُعد المتمثّل بالأنفاق تحت الأرض (يُقدّر طول الأنفاق حسب «بي بي سي» بـ500 كيلومتر).

تملك «حماس» القوات الخاصة. فهي تعي المكان بشكل كامل، حتى ولو غيّر القصف معالم المدينة. تملك العبوات الناسفة، الألغام كما المسيّرات الانتحاريّة. وذلك بالإضافة إلى القناصة. هذا عدا وجود المدنيين والرهائن ضمن منطقة العمليات. وأخيراً وليس آخراً، يُقدّر عدد حركة «حماس» المقاتل بـ30 ألفاً، بحيث تنطبق عليهم المقولة: «أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم»؟

تعتمد «حماس» اليوم في هذه المرحلة استراتيجيّة الشدّ - الجذب (Pull). وهي كانت قد استعملت استراتيجيّة الدفع (Push) خلال تنفيذ العملية في الداخل الإسرائيليّ. فهي وصلت في منطقة غلاف غزّة إلى الامتداد الأقصى (Push). فغنمت ما غنمت عبر المفاجأة الأخطر في تاريخ إسرائيل. وعندما انسحبت، فرضت على الجيش الإسرائيليّ أن يتبعها (Pull) إلى المنطقة الآمنة لها، إلى مسرحها الأساسيّ إلى بيتها، إلى المسرح الذي تعيه حيث الأفضليّة لها (Home Court).

دبابات إسرائيلية طراز «ميركافا» تناور قرب حدود لبنان الخميس (إ.ب.أ)

إسرائيل: تتفوّق إسرائيل على «حماس» بكلّ المقاييس. لكن القوّة تعد نسبيّة في المُطلق. فالقوّة تعد قوّة بمقدار ما يمكن الاستعمال منها. فإسرائيل قوّة نوويّة، لكن هل يمكن استعمال النوويّ في غزّة؟ إذاً يعد السلاح النوويّ وكأنه غير موجود، ولا يدخل في معادلة الحرب الحاليّة. تملك إسرائيل التفوّق الجوّي، البحريّ، البريّ، الاستخباراتيّ كما المدفعيّ. وهي تملك الفضاء، خاصة مع التدخلّ الأميركيّ. كما تملك القدرة على الحرب الإلكترونيّة (EW). لكن الحرب ليست كلّها أرقاماً وكميّة، فهي تدور في ظروف سياسيّة وجيوسياسيّة تفرض الكثير من التقييدات، خاصة في حالة النظام العالميّ القائم حالياً.

في الختام، يبدو مسرح الحرب مُحضّراً للقاء دمويّ جديد. فقد يُسمح بعد فترة لإسرائيل أن تقوم بعمل عسكريّ، لكن بعد تهيئة ظروف المنظومة الردعيّة الأميركيّة في المنطقة خاصة ضدّ إيران، والتأكّد من فاعليتها ومصداقيتها. وبشكل أن تأتي النتيجة على الشكل التالي: ضرب «حماس» لكن دون القضاء عليها، وبشكل أن تشعر إسرائيل أنها انتقمت. لكن هذه النتيجة، ومن دون حلّ سياسيّ دائم ستؤسّس الأرضيّة لحرب مقبلة في المستقبل. ألم نقل إن الحرب تُخاض لأهداف سياسيّة؟ وعليه، أين الأهداف السياسيّة من هذه الحرب؟


مقالات ذات صلة

تململ في إسرائيل حول «صفقة غزة» بعد «قائمة الـ34» المثيرة للجدل

المشرق العربي فلسطيني يجلس أمام متعلقاته التي تم انتشالها من أنقاض مبنى مدمر في أعقاب غارة إسرائيلية على مخيم البريج وسط قطاع غزة الاثنين (أ.ف.ب)

تململ في إسرائيل حول «صفقة غزة» بعد «قائمة الـ34» المثيرة للجدل

يبدو أن الزخم الذي أخذته «مفاوضات الدوحة» الرامية إلى إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وتبادل الرهائن والأسرى، تراجع قليلاً.

كفاح زبون (رام الله) كفاح زبون (رام الله) «الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي تصاعد الدخان جرَّاء الغارات الإسرائيلية على غزة (أ.ف.ب)

مقتل 13 فلسطينياً بغارات إسرائيلية على غزة

أفاد الدفاع المدني في غزة بأن 13 فلسطينياً بينهم عدد من الأطفال قُتلوا في غارات جوية إسرائيلية في قطاع غزة، اليوم (الاثنين).

«الشرق الأوسط» (غزة)
العالم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

2025... عام ملء الفراغات؟

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم... فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات أو خلق بعضها؟

المحلل العسكري (لندن)
المشرق العربي صورة من موقع الحادث في الضفة الغربية (ذا تايمز أوف إسرائيل)

«حماس» تشيد بعملية الضفة الغربية وتدعو إلى «تصعيد المقاومة»

أشادت حركة «حماس» بعملية إطلاق نار، شمال الضفة الغربية، اليوم الاثنين، أدت إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين، وإصابة ثمانية آخرين، ووصفتها بـ«البطولية».

«الشرق الأوسط» (رام الله)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (د.ب.أ)

إسرائيل: لم نتلق رداً من «حماس» بشأن «وضع الرهائن»

قالت إسرائيل، اليوم الاثنين، إن حركة «حماس» لم تقدم أي معلومات بشأن وضع 34 رهينة محتجَزين في قطاع غزة، أبدت الحركة استعدادها للإفراج عنهم.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

واشنطن تخفف «القيود» على دمشق

قافلة شاحنات تحمل مساعدات سعودية تدخل سوريا من معبر النصيب مع الأردن أمس (رويترز)
قافلة شاحنات تحمل مساعدات سعودية تدخل سوريا من معبر النصيب مع الأردن أمس (رويترز)
TT

واشنطن تخفف «القيود» على دمشق

قافلة شاحنات تحمل مساعدات سعودية تدخل سوريا من معبر النصيب مع الأردن أمس (رويترز)
قافلة شاحنات تحمل مساعدات سعودية تدخل سوريا من معبر النصيب مع الأردن أمس (رويترز)

مع بدء العد التنازلي لرحيلها، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تخفيف بعض القيود المالية على سوريا، تاركة مسألة رفع العقوبات لقرار تتخذه الإدارة الجديدة للرئيس دونالد ترمب.

وأظهر الموقع الإلكتروني الخاص بوزارة الخزانة الأميركية أن الولايات المتحدة أصدرت أمس رخصة عامة لسوريا تسمح لها بإجراء معاملات مع مؤسسات حكومية وكذلك بعض معاملات الطاقة والتحويلات المالية الشخصية.

في الأثناء، جرت في أنقرة مباحثات تركية - أردنية. وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، خلال مؤتمر صحافي بحضور نظيره الأردني أيمن الصفدي، إن القضاء على «وحدات حماية الشعب» الكردية بات «مسألة وقت»، وإن أنقرة لن توافق على أي سياسة تسمح للوحدات الكردية بالحفاظ على وجودها في سوريا. وأكد فيدان أن بلاده لن تسمح بتمرير أي أجندات غربية تدعم «حزب العمال الكردستاني» بذريعة مكافحة «داعش».

إلى ذلك، وصل إلى أبوظبي، أمس، أسعد الشيباني، وزير الخارجية في الإدارة السورية الجديدة، حيث التقى الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي، وبحثا التطورات في سوريا، والأوضاع الإقليمية، وسبل تعزيز العلاقات بين البلدين والشعبين.