منذ ثلاث سنوات، جمعت ويليام نون وماريا فارس مأساة خسارة أعز الناس جرَّاء انفجار مرفأ بيروت المروع. وبعد أسابيع، سيجمعهما زواج يكلّل حباً وُلد من رحم الأحزان، ويكرس عهدهما بالنضال حتى تحقيق العدالة لضحايا الكارثة، وفقاً لتقرير أعدته «وكالة الصحافة الفرنسية».
في الرابع من أغسطس (آب) 2020، كان العنصر في فوج إطفاء بيروت جو نون، شقيق ويليام، والمسعفة سحر فارس، شقيقة ماريا، في عداد عشرة عناصر من الفوج هرعوا إلى المرفأ لإطفاء حريق سبق الانفجار الذي يحيي لبنان الأسبوع المقبل ذكراه السنوية الثالثة.
وحصد الانفجار الذي يعدّ من بين أقوى الانفجارات غير النووية في العالم، أكثر من 220 قتيلاً وتسبّب في إصابة أكثر من 6500 شخص بجروح، عدا عن دمار واسع في المرفأ وعدد من أحياء العاصمة.
وتحول تجاذبات سياسية وقضائية دون تحقيق تقدم في التحقيق الذي يراوح مكانه.
من داخل منزل عائلة نون في بلدة مشمش الواقعة على بعد ستين كيلومتراً شمال بيروت، يقول ويليام (28 عاماً) لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» محاطاً بصور شقيقه التي تزين أنحاء الغرفة بينما تجلس خطيبته قربه: «لن يكون يوم زفافنا مشابهاً لأي زفاف آخر. كثر خسروا إخوتهم. لكنّ الفرق أننا لم نعرف لِمَ خسرناهما أساساً وأنهما ماتا سوياً».
ويضيف: «نودّ أن نؤسس عائلة معاً (...) ما سنقدم عليه يبرهن عن إيماننا، رغم كل ما حدث، أن ما زالت لدينا إرادة الحياة».
في جلسة علاج نفسي مخصّصة لأشقاء عناصر فوج الإطفاء الذين حفظ اللبنانيون قصة كل منهم وتأثر بها، التقى الخطيبان اللذان أضناهما الحزن عام 2020. وبعد قرابة عامين من لقائهما الأول، جمعتهما قصة حب انطلقت من مشاركتهما في احتجاجات للمطالبة بمعرفة الحقيقة، وسيكللانها بالزواج في سبتمبر (أيلول) المقبل.
ويتمنى ويليام الذي يدير مطعماً أسّسه مع شقيقه وشقيقته في قريتهم الهادئة، لو «أننا تعرفنا من دون انفجار وليت الانفجار لم يحصل».
«الوجع ذاته»
بغصّة، تنتظر ماريا (28 عاماً) موعد الزفاف. تغرورق عيناها بالدموع عندما تفكر في أن شقيقتها سحر، التي كانت تضج حياةً، لن تكون شاهدة على زفافها، ولن يكون جو بجانب شقيقه.
وتقول بصوت مخنوق: «عوض أن يكونا معنا وفرحين بنا، نفكر كيف يمكننا أن نجعلهما حاضرين في ذاك اليوم، ربما بوردة أو بصورة».
وتضيف: «صحيح أن منازلنا تضيق بصورهما، ولكن صعب جداً تقبّل فكرة أن شقيقتي ستكون حاضرة من خلال صورة ولا تقف قربي».
بعد الانفجار المشؤوم، لم يتوقع ويليام أن يجد الفرح طريقه إليه، لكنه وجد في ماريا شخصاً يتقاسم معه «الوجع ذاته والقضية ذاتها»، ووفقاً له، فإن «النضال من أجل العدالة أصعب من الانفجار بحد ذاته». ويؤكد: «علينا أن نعرف ماذا حصل في الرابع من أغسطس (آب)».
يُعرف ويليام بانتقاداته الحادة للطبقة السياسية ويتصدّر كل التحركات الاحتجاجية لأهالي الضحايا المطالبين بإعادة إطلاق التحقيقات المعلقة منذ نهاية 2021. وقد أوقفته القوى الأمنية مطلع العام الحالي بسبب رميه الحجارة على نوافذ قصر العدل، وأطلقت سراحه في اليوم التالي.
ويؤكد ويليام: «نحن مصران على الحقيقة (...) هذا وعدنا وسيكون الموضوع الذي نناقشه كل صباح. لكننا سنحاول في الوقت ذاته أن نفصل حياتنا الشخصية عن التحقيق».
ويضيف: «التحقيق يسبب لنا قهراً شديداً، وإذا واصلنا التحدث عنه سنقضي حياتنا نبكي».
ونجم الانفجار، وفق السلطات، عن تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم داخل المرفأ من دون اجراءات وقاية، إثر اندلاع حريق لم تُعرف أسبابه. وتبيّن لاحقاً أن مسؤولين على مستويات عدة كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكناً.
وفي 23 يناير (كانون الثاني)، أعلن المحقق العدلي طارق بيطار استئناف تحقيقاته متحدياً الضغوط السياسية والقضائية مع وجود عشرات الدعاوى المرفوعة ضده والمطالبة بعزله، التي علّقت عمله لمدة 13 شهراً.
وسرعان ما رفضت النيابة العامة التمييزية قراره وادعت بدورها عليه بتهمة «التمرد على القضاء واغتصاب السلطة»، مما أنذر بأزمة قضائية غير مسبوقة.
ومنذ ذلك الحين، دخل ملف التحقيق في غياهب النسيان، وابتعد بيطار عن أروقة قصر العدل.
«لدينا الحق»
يؤجّج تعليق التحقيق غضب أهالي ضحايا الانفجار الذين يطالبون ومنظمات حقوقية والأمم المتحدة بإرسال بعثة تقصي حقائق مستقلة لا تعرقلها التدخلات السياسية.
في كنيسة صغيرة بنتها عائلة نون قرب منزلها تخليداً لذكرى جو، تزينها صوره ومقتنياته الشخصية وبينها بزة فوج الإطفاء، يضيء العروسان شمعة على نيّة تحقيق العدالة.
وتسود في لبنان المنقسم سياسياً إلى حد بعيد والقائم على منطق المحاصصة الطائفية، ثقافة الإفلات من العقاب منذ عقود، وتعطل التدخلات السياسية عمل المؤسسات الدستورية والقضائية.
لكن رغم العراقيل والتهديدات التي طالت بيطار شخصياً، تعول عائلات الضحايا على صدور القرار الظني.
ويقول ويليام: «لدينا أمل بالتأكيد في تحقيق العدالة وإلا كنا تخلينا عنها (...) إذا كان نفسنا قصيراً سنيأس بسرعة، لأن من نواجههم متجذرون في السلطة، لديهم مال وسلاح وعسكر وسطوة على ثلاثة أرباع القضاء. أما نحن فليس لدينا إلا الحق».
وتثني ماريا على كلامه بالقول: «نحن مصرون على أن نصل إلى الحقيقة لأن هذا حقهم قبل أن يكون حقنا».
وتضيف: «منذ اليوم الأول لوقوع الانفجار، كان لدي إيمان بأن دم سحر والشباب سيكون قيامة للبنان، حتى لو استغرق وقتاً وتعرضنا للضرب وتمت عرقلتنا ومحاربتنا».