بدأت الحكاية حين وقف فلورنتينو بيريز في قاعة الاجتماعات الشاسعة داخل مقر ريال مدريد، وهو يدرك تماماً أن الكلمات التي سيقولها ستشق تاريخ النادي إلى قبلٍ وبعد. لم يكن الرجل الذي اعتاد أن يعلن صفقات فلكية أو مشاريع هندسية عملاقة، بقدر ما كان مهندساً يتهيأ لتعديل الأساسات ذاتها التي بُني عليها الكيان منذ عام 1902. وعندما رفع بصره إلى أعضاء النادي الذين جلسوا أمامه، بدا كأنه يستعيد مائة عام من الذاكرة المؤسسية، من لحظات الفخر التي صاغت هوية النادي، إلى الدروب المعقدة التي جعلته الآن مضطراً لفتح الباب أمام فكرة كانت محرمة: دخول مستثمرين خارجيين إلى بيت سانتياغو برنابيو لأول مرة.

حسب شبكة The Athletic, كان ريال مدريد يعتمد طوال تاريخه على نموذج بدائي في ظاهره لكنه بالغ القوة في جوهره؛ آلاف الأعضاء المعروفين باسم «السوسيوس» الذين يمتلكون النادي رمزياً، ويصوتون على رئيسه، ويحددون سياسته العامة، دون أن يملك أي منهم حصة قابلة للبيع أو التوريث أو الاستثمار. كان هذا النموذج أشبه بعقد اجتماعي غير مكتوب، يقوم على الولاء والهوية والانتماء، وليس على مفهوم الربح والخسارة. ومع أن الأعضاء ليسوا ملاكاً بالمعنى القانوني، إلا أنهم «أصحاب القرار»، وهي مكانة منحها لهم التاريخ والأنظمة الإسبانية القديمة التي سمحت لنادٍ واحد في العاصمة بأن يبقى مؤسسة ديمقراطية ذات إدارة انتخابية، بينما تحوّل الجميع من حوله إلى شركات خاصة يسيطر عليها ملاك أفراد أو صناديق مالية.
لكن العالم تغيّر، أو ربما تغيّرت قواعده. فمنذ بداية الألفية، كان بيريز يكرر في خطاباته أن ريال مدريد يعيش في زمن تتنافس فيه أندية تملك ثروات دول، وأخرى تقف خلفها إمبراطوريات سياسية، وثالثة تديرها مجموعات استثمارية يمكنها ضخ مئات الملايين خلال ساعات. أما ريال مدريد، فهو وفق تعبير بيريز «نادٍ عظيم بنموذج قديم». نموذج يمنحه الهوية ولكنه يقيّده في نفس الوقت. ومع أن النادي لم يكن يعاني مادياً، بل كان في الواقع الأكثر قوة مالية في العالم بإيرادات تتجاوز المليار يورو، إلا أن قوة الماضي وحدها لم تعد كافية لضمان المستقبل.

تراكمت أسباب القلق داخل عقل بيريز. بعضها ظاهر، مثل صراعاته المتواصلة مع خافيير تيباس، رئيس رابطة «الليغا»، الذي يتهمه بمحاولة الاستحواذ على جزء من عوائد ريال مدريد. وبعضها الآخر خفيّ، يتصل بمخاطر مقبلة لا يعرف أحد شكلها، سواء كانت تشريعات حكومية جديدة، أو تغيّرات سياسية، أو رئيس مستقبلي للنادي قد يقوده نحو الضعف أو نحو الصفقات غير المدروسة. والأهم من ذلك أن بيريز كان يخشى أن تقع المؤسسة التي أفنى عمره فيها في يد إدارة تفتقر للكفاءة أو الأمانة.
هنا، داخل هذه الهواجس، تولّدت الفكرة. أن يظل النادي ملكاً للسوسيوس، لكن مع وجود شركة فرعية جديدة يعاد ترتيب الأصول داخلها، ويحصل فيها كل عضو على سهم واحد يحمل قيمة مالية حقيقية، بينما يدخل مستثمر جديد بحصة محدودة لا تتجاوز خمسة في المائة. مستثمر بلا صوت ولا حق في تغيير التاريخ، لكنه يقدم قوة مالية إضافية تؤمّن مستقبل الكيان.
حين أعلن بيريز ذلك في الجمعية العمومية، لم يكن الخطاب مجرد اقتراح تقني. كان رسالة مشحونة بالمشاعر. تحدث عن «الهجمات الخارجية» وعن «الدفاع عن هوية النادي»، وعن ضرورة حماية مدريد من المستقبل بقدر حماية الماضي. ولم يطلب من الأعضاء الموافقة النهائية، بل طلب شيئاً أكبر: أن يمنحوه الحق في طرح الفكرة على استفتاء عام يشمل كل السوسيوس البالغ عددهم 98 ألفاً. كان يدرك أن الشرعية أهم من القانون، وأن التغيير في نادٍ مثل ريال مدريد لا يمر عبر اللوائح فقط، بل عبر النفوس أيضاً.

الأعضاء الذين حضروا الجلسة لم يسمعوا خطة تفصيلية. بل سمعوا ملامح أولية لمشروع سيُشرح لاحقاً، في جمعية استثنائية لم يُحدد موعدها. لكن ما تسرب من مصادر عليمة أظهر صورة أوضح: الشركة الجديدة سوف تكون المالك القانوني لأصول النادي، من الملعب إلى المدينة الرياضية، بينما يحتفظ السوسيوس بحق انتخاب الرئيس والتحكم في النظام الأساسي. المستثمرون، مهما كان عددهم أو وزنهم المالي، لن يحصلوا على صوت واحد في السياسة الداخلية. لن يتحول النادي إلى ملكية خاصة، ولن يتكرر سيناريو فالنسيا أو ملقا، ولن يظهر ملاك جدد يفرضون وجودهم كما حدث في أتلتيكو مدريد أو في أندية أوروبا.
وفي غرف مغلقة داخل مدريد، كان الخبراء القانونيون يحاولون ابتكار صيغة لا تخالف القانون الإسباني الصارم، ولا تهدم روح النموذج القديم. كان المخطط الأول يشبه «قاعدة 50+1» الألمانية، لكنه تعثر لأنه غير قابل للتطبيق في إسبانيا. ثم ظهرت مقترحات أخرى، لكن الجميع كان يدرك أن الخط الأحمر الوحيد هو أن يظل ريال مدريد بعيداً عن فكرة «الشركة المساهمة الرياضية» التي تحوّلت إليها أندية «الليغا» منذ التسعينات. بالنسبة إلى بيريز، لم يكن الأمر قابلاً للنقاش. ريال مدريد لا يمكن أن يصبح كياناً تُباع أسهمه في البورصة، ولا أن يدخل في صراعات مساهمين كما حدث في إشبيلية، ولا أن يتحول إلى ضحية ملاك أجانب كما حصل في ملقا وفالنسيا.
ورغم ذلك، فإن الرجل لم يكن فاقداً لبراغماتية رجل الأعمال. فهو يعرف أن العالم يتغير، وأن الاستثمار الخارجي ليس خطيئة، بل يمكن أن يكون حائط حماية. وأن النادي الذي تجاوزت قيمة إعادة بناء ملعبه 1.8 مليار يورو يحتاج إلى منافذ مالية جديدة، وإلى أدوات تمكنه من مواصلة التوسع في مشروع «البرنابيو الجديد» الذي لم يعد ملعباً لكرة القدم فقط، بل أصبح مركز ترفيه عالمياً يستضيف الحفلات الضخمة ومباريات كرة السلة الأميركية وعروض الموسيقى العالمية.
وحين تتبعت المصادر أسماء المستثمرين المحتملين، قالوا إن «الطابور سيبدأ من نهاية شارع كونشا إسبينا». فالنادي الذي أصبح علامة تجارية عالمية له جاذبية لا تُقاوَم بالنسبة إلى صناديق الاستثمار، ورجال الأعمال، والمؤسسات المالية الكبرى. ومع ذلك، تشير المعلومات إلى أن الشركاء الحاليين، مثل Sixth Street، الذين موّلوا عملية تطوير الملعب، لن يكونوا بالضرورة جزءاً من المشروع الجديد.
لكنّ كل هذا لا يمكن أن يتحقق قبل استفتاء تاريخي سيصنع سابقة في تاريخ ريال مدريد الحديث. فحين يجتمع السوسيوس، وحين يرفع كل واحد منهم يده أو يصوت إلكترونياً، ستكون اللحظة أشبه بلحظة توتر جماعي بين الماضي والمستقبل. فإذا وافقوا، سيدخل النادي مرحلة جديدة تحافظ على روحه الديمقراطية لكنها تمنحه قدراً من القوة المالية التي كان يفتقر إليها. وإذا رفضوا، سيظل ريال مدريد كما كان دائماً، لكن مع مخاوف مؤجلة قد تنفجر في يوم ما.
وبين هذه المخاوف والآمال، تقف شخصية بيريز في منتصف المشهد. رجل تجاوز الثامنة والسبعين، لكنه يتصرف كما لو أنه في بداية مشروع جديد. يدرك أن السنوات تمضي، وأنه لن يبقى رئيساً إلى الأبد، وأن أفضل ما يتركه ليس مبنى أو ملعباً بل نظام قادر على حماية النادي حين يغيب الرجل الذي دافع عنه لعقود.
هكذا تبدو قصة ريال مدريد الآن: مؤسسة تقف على حافة تحوّل هادئ لكنه عميق، تحاول أن تحافظ على ديمقراطيتها التاريخية لكنها تتصالح مع عالم لم يعد يقبل البقاء في الماضي. وبقدر ما يبدو التغيير المالي خطوة جافة، إلا أنه في داخل مدريد يشبه رواية طويلة عن الهوية، والخوف، والطموح، وعن الشعور بأن القطب الأبيض يريد أن يبقى أبيض، لكنه يعرف أن العالم من حوله أصبح أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.
وما سيحدث في الجمعية المقبلة لن يكون مجرد تصويت، بل سيكون إعادة تعريف لما يعنيه أن تكون «سوسيو» في ريال مدريد، ولما يعنيه أن يبقى النادي الأكبر في العالم قادراً على حماية نفسه من الزمن.

