يشهد المغرب في السنوات الأخيرة نهضة كروية غير مسبوقة على مختلف المستويات، من المنتخب الأول الذي أبهر العالم في كأس العالم 2022، إلى المنتخبات السنية والنسائية التي تواصل تحقيق النجاحات قارياً وعالمياً. هذه الطفرة الاستثنائية أثارت تساؤلات واسعة في الوسط الرياضي العربي حول سر هذا التفوق المستدام، وكيف تمكن المغرب من التحول من منافس إقليمي إلى نموذج يُحتذى به على المستويين القاري والدولي.
وفي حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»، كشف خالد زينابي، المستشار التقني للأكاديميات، والمدرب الخاص للاعبين المحترفين الناشئين، عن الركائز الأساسية التي قامت عليها هذه التجربة الرائدة، موضحاً أن سرّ نجاح المنتخبات المغربية مؤخراً يرتكز على رؤية استراتيجية شاملة تقوم على الاستثمار في البنية التحتية، والاعتماد على الكفاءات الوطنية، وترسيخ هوية فنية واضحة مبنية على الانضباط، والتخطيط طويل المدى، والاستقرار الفني. كما تناول في حديثه مكامن القوة في المدرسة التدريبية المغربية والدروس التي يمكن للمنتخبات العربية الاستفادة منها في طريقها نحو التطور والاستدامة.
وأوضح زينابي أن الاستثمار المكثف في البنية التحتية الرياضية كان الخطوة الأولى في هذا المسار، حيث تم بناء ملاعب حديثة وتجهيز مرافق تدريبية متطورة، مما ساهم في توفير بيئة احترافية مثالية رفعت من مستوى اللاعب المغربي وساهمت في تحسين أدائه. وأضاف أن المغرب استثمر بشكل كبير في تطوير البنية التحتية الرياضية، وهذه الاستثمارات منحت اللاعبين بيئة تدريبية مثالية ساعدتهم على التطور في أجواء احترافية متكاملة.

وتحدث زينابي عن الاحترافية والانتشار في الدوريات الأوروبية بوصفها من أهم أسباب نجاح الكرة المغربية، قائلاً إن الجالية المغربية الموجودة في أوروبا واهتمامها الكبير بالرياضة، وخاصة كرة القدم، أفرزت جيلاً من اللاعبين الذين أصبحوا جزءاً من أبرز الأندية في الدوريات الكبرى. هؤلاء اللاعبون مهدوا الطريق أمام لاعبي الداخل، وخصوصاً خريجي أكاديمية محمد السادس التي لعبت دوراً محورياً في تطوير أداء اللاعب المغربي وإعداده للاحتراف.
وأشار زينابي إلى أن الاتحاد المغربي لكرة القدم انتهج نهجاً مؤسسياً قائماً على التخطيط بعيد المدى، موضحاً أن اتحاد الكرة بدأ يعتمد استراتيجيات واضحة لتطوير المنظومة الكروية، واهتم بدعم الفئات السنية وتنمية المواهب منذ الصغر، مما جعل التحسن في الأداء ملموساً ومتدرجاً عبر السنوات.
وفيما يتعلق بالجانب الفني، شدّد زينابي على أن الاستقرار الفني كان أحد أسرار النجاح قائلاً إن الاستقرار في الجهاز الفني للمنتخب الأول، ووجود أطقم موسعة ومؤهلة في جميع الفئات العمرية، تضم لاعبين سابقين خاضوا تجارب احترافية كبيرة، ساعد في تكوين لغة فنية موحدة ومنهج تدريبي ثابت يسهل انتقال اللاعبين بين المراحل.
كما تحدث زينابي عن الروح الجماعية داخل المنتخب المغربي، قائلاً إن اللاعبين يعملون معاً كفريق واحد ويضعون مصلحة المنتخب فوق كل اعتبار، وهناك مزيج من الخبرة والشباب يمنح المنتخب توازناً مثالياً داخل وخارج الملعب. هذه الروح انعكست بوضوح في كأس العالم الأخيرة، وكانت أحد أبرز عوامل النجاح.

وعن دور الإعلام والجماهير، قال زينابي إن الضغط الإعلامي والتوقعات الشعبية كان لهما أثر إيجابي كبير، موضحاً أن الجماهير المغربية طالبت بالنجاح منذ سنوات، وهذه التطلعات خلقت حافزاً إضافياً لدى اللاعبين لتقديم أفضل ما لديهم. لقد شعروا دائماً أن خلفهم دعماً جماهيرياً وإعلامياً هائلاً. وأشار كذلك إلى أن تطور الفئات العمرية مثل منتخبي تحت 17 وتحت 20 عاماً ساهم في ضمان استمرارية النجاح وبناء قاعدة متينة للمستقبل.
وحول الاعتماد على الأجهزة الفنية الوطنية، أوضح المدرب الحاصل على رخصة «يويفا برو» أن المدرب الوطني يمتلك فهماً عميقاً للثقافة الكروية والذهنية المغربية، مثل وليد الركراكي الذي يعرف كيف يتعامل مع اللاعب المحلي والمحترف بالخارج. هذا الفهم جعل العلاقة بينه وبين اللاعبين قائمة على الثقة والاحترام، وساهم في تعزيز الانتماء والمسؤولية داخل المجموعة. حين يرى اللاعب أن قائد المشروع مغربي مثله، يشعر بمسؤولية أكبر تجاه القميص الوطني.
وأضاف أن نجاح الركراكي، ومن قبله حسين عموتة، فتح الباب أمام جيل جديد من المدربين المغاربة الذين يمتلكون الطموح والخبرة، مما ساهم في نمو منظومة التدريب محلياً. كما أن المدرب الوطني لا يحتاج إلى وقت طويل للتأقلم مع بيئة العمل المحلية، بخلاف المدرب الأجنبي الذي قد يستغرق وقتاً أطول لفهم طبيعة المنافسات.

وفي سياق الحديث عن وجود لاعبين مغاربة يمثلون منتخبات مثل إسبانيا والولايات المتحدة، قال زينابي إن هذه الظاهرة تحمل أبعاداً اجتماعية وثقافية ورياضية متعددة، فالمغرب من أكثر البلدان المصدرة للمهاجرين إلى أوروبا وأميركا، ومع وجود جيلين أو ثلاثة من أبناء الجالية في الخارج، أصبح من الطبيعي أن يحمل بعضهم جنسيات مزدوجة. بعض اللاعبين يختارون تمثيل البلد الذي نشأوا فيه، خاصة إذا شعروا بفرص أكبر أو باهتمام مبكر من الاتحاد المحلي.
وأضاف أن وجود لاعبين من أصول مغربية في منتخبات كبرى مثل لامين يامال مع إسبانيا، أو يونس موسى مع الولايات المتحدة سابقاً، يثبت أن المغرب ينتج خامات كروية مميزة حتى خارج حدوده، وهو ما يعكس الطابع العالمي للهوية الكروية المغربية. وأوضح أن الاتحاد المغربي بدأ التحرك مبكراً لاكتشاف وربط هؤلاء اللاعبين المزدوجي الجنسية بالمنتخب الوطني قبل أن تستقطبهم منتخبات أخرى.
وأكد زينابي أن أكثر من 65 في المائة من لاعبي المنتخب المغربي في كأس العالم 2022 كانوا من مواليد أوروبا، مثل أشرف حكيمي (إسبانيا)، وسفيان أمرابط وحكيم زياش ونصير مزراوي (هولندا)، وسفيان بوفال (فرنسا)، وجميعهم ترعرعوا في أكاديميات أوروبية محترفة. الغالبية تحترف في الدوريات الكبرى، مما منح المنتخب مزيجاً فريداً من الانضباط التكتيكي والخبرة الدولية والمرونة التكتيكية.
واعتبر أن اللاعبين المتكونين في أوروبا جلبوا معهم عقلية احترافية عالية على مستوى التحضير الذهني والانضباط التكتيكي والنظام الغذائي، إضافة إلى تنوع المدارس التدريبية التي انتموا إليها. ومع ذلك، واجهت الكرة المغربية بعض التحديات، مثل صعوبة اندماج بعض اللاعبين مزدوجي الجنسية في البيئة المحلية، وخطر الاعتماد المفرط على المحترفين في الخارج الذي قد يحد من تطور المواهب في الدوري المحلي.

وقال إن وجود مغاربة في منتخبات أخرى يبرز قيمة الموهبة المغربية عالمياً، لكنه أيضاً ناقوس خطر، وهو ما دفع الاتحاد للتحرك مبكراً لتثبيت انتماء هذه المواهب. النجاح المغربي هو نتيجة دمج ذكي بين الثقافة المحلية والخبرة الأوروبية، وهو نموذج ناجح يمكن أن تستفيد منه المنتخبات العربية إذا تبنّت أسساً مشابهة.
واختتم زينابي حديثه مؤكداً أن المدرسة التدريبية المغربية أصبحت اليوم من أبرز المدارس العربية والأفريقية بفضل قدرتها على دمج الحداثة الأوروبية مع الخصوصية الثقافية المغربية، قائلاً إن المدرسة المغربية ليست مجرد مجموعة من الأفكار التكتيكية، بل منظومة شاملة تجمع بين التكوين العلمي، والانضباط، واللياقة البدنية العالية، والتكتيك المرن، وتطوير اللاعبين في جميع الفئات العمرية. هذه المقومات جعلت من المغرب قوة كروية متكاملة، قادرة على المنافسة الدائمة والبقاء في صدارة المشهد القاري.

