توجه العراقيون إلى صناديق الاقتراع لاختيار برلمانهم السادس، يوم الثلاثاء، في انتخابات تتجاوز أهميتها الإطار السياسي لترسم مصير الاقتصاد الوطني العالق عند مفترق طرق حرج.
ففي الوقت الذي يسود فيه استقرار داخلي نسبي، تُظهر تقارير المؤسسات المالية الدولية أن العراق يواجه تحديات هيكلية عميقة. وتجد الحكومة المقبلة التي ستنبثق عن هذا الاستحقاق، نفسها أمام مهمة عاجلة وحاسمة: إطلاق إصلاحات مالية شاملة للحد من تزايد خطر الدين العام وتباطؤ النمو غير النفطي، في مواجهة مؤشرات متصاعدة للهشاشة الاقتصادية.
قبيل الانتخابات، تعهد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بإجراء إصلاحات كبرى في حال فوزه بولاية ثانية، مشيراً إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب «عمليات جراحية» لخفض عجز الموازنة وزيادة الإيرادات غير النفطية.

واعترف السوداني بأنه أضاف نحو 700 ألف وظيفة إلى الجدول العام خلال السنوات الثلاث الماضية، وذلك في محاولة «لكسب بعض الوقت» وتجنب تكرار الاضطرابات الشعبية التي حدثت في 2019. وقد أدى هذا التوسع إلى تضخم عدد موظفي الدولة إلى 4 ملايين شخص، مع اعتماد ما يقرب من 90 في المائة من الإنفاق العام على الرواتب والمعاشات والمساعدات الاجتماعية، وفق «بلومبرغ».
وأكد رئيس الوزراء عزمه على تغيير هذا المسار من خلال إعادة توجيه الشباب، الذين يمثلون نحو 60 في المائة من السكان، نحو القطاع الخاص عبر تبسيط اللوائح لجذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات حيوية مثل الصناعة والسياحة والزراعة، كما تحدث عن منح شركات النفط والغاز الأميركية شروطاً «تفضيلية» لتطوير قطاع الهيدروكربونات.
عبء النفط والإنفاق
تُعدّ الاستدامة المالية هي التحدي الأبرز الذي يواجه العراق، وهو نتاج الاعتماد المفرط على النفط وسياسات الإنفاق غير المستدامة:
- الاعتماد المفرط: حتى عام 2025، لا تزال إيرادات الحكومة العراقية تأتي بشكل ساحق من النفط، حيث تشكل أكثر من 90 في المائة من إجمالي الدخل. هذا الواقع يجعل البلاد عرضة للغاية لصدمات الأسعار العالمية وقرارات مجموعة «أوبك بلس».
- فاتورة الأجور «المقدسة»: بدلاً من التنويع، وسعت الحكومة فاتورة الأجور والمعاشات العامة، التي شكلت أكثر من 60 في المائة من الموازنة الفيدرالية لعام 2024. وتُعد هذه النفقات «مقدسة» في العراق، ما يجعل خفضها صعباً للغاية سياسياً. وأدت ضخامة فاتورة الأجور الحكومية وتراجع إيرادات النفط إلى خلق عجز مالي كبير في عامي 2024 و 2025.
- تآكل الاحتياطيات وإهمال الاستثمار: تعتمد الحكومة تاريخياً على السحب من الاحتياطيات الأجنبية لإدارة النقص المالي، ما يضعف الاستقرار على المدى الطويل... كما يتم خفض الإنفاق الرأسمالي والتنموي، الضروري للتنويع الاقتصادي، لإعطاء الأولوية للرواتب.

ونتيجة لذلك، ارتفع سعر النفط اللازم لتوازن الموازنة بشكل مقلق، ليصل إلى نحو 84 دولاراً للبرميل في عام 2024، مقارنة بـ54 دولاراً في 2020، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. ومع انخفاض سعر خام برنت إلى أقل من 70 دولاراً للبرميل في 2025، يواجه العراق ضائقة مالية قد تهدد دفع أجور الموظفين والمتقاعدين، كما حدث في 2020.
ومع توقعات الصندوق بتراجع متوسط سعر برميل النفط إلى ما دون 66 دولاراً في 2025، فإن التوقعات تشير إلى اتساع العجز المالي وارتفاع الدين الحكومي الإجمالي إلى 62.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026 ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية.
تباطؤ القطاع غير النفطي وتحديات النمو
عانى القطاع غير النفطي، وهو مفتاح تنويع الاقتصاد، من تباطؤ حاد، حيث انخفض نموه من 13.8 في المائة في 2023 إلى 2.5 في المائة في 2024، متأثراً بتقلص الاستثمار العام والقيود التمويلية. ويُتوقع أن تستمر هذه القيود في الضغط على النشاط الاقتصادي.
وتتفاقم المشكلة بسبب الهشاشات الهيكلية المتأصلة، مثل الفساد المستشري، وضعف الحوكمة، وأزمة الكهرباء المزمنة، التي تشكل عائقاً كبيراً أمام الإنتاجية وتطور القطاع الخاص. كما أن القطاع المصرفي لا يزال يعاني من ضعف، حيث يتطلب خطة شاملة لإعادة هيكلة البنوك الحكومية ومعالجة القروض المتعثرة.
أجندة الإصلاحات الضرورية على المدى القصير والمتوسط
من الواضح أن الحكومة المقبلة أمامها أجندة إصلاحات لا يمكن تأجيلها. على المدى القصير جداً، يجب على السلطات مراجعة خطط الإنفاق لعام 2025 وتجميد أو تأجيل جميع النفقات غير الضرورية لاحتواء مخاطر السيولة. وعلى المدى المتوسط، فإن تحقيق الاستقرار في الدين يتطلب تعديلاً مالياً إضافياً يتراوح بين 1 و 1.5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي سنوياً.
تتركز الإصلاحات المقترحة حول مسارين:
- الإيرادات: تعزيز إدارة الضرائب والرسوم الجمركية، وإصلاح ضريبة الدخل (مثل الحد من الإعفاءات)، وإمكانية إدخال ضريبة مبيعات عامة.
- الإنفاق: إصلاح شامل لفاتورة الأجور عبر الحد من التوظيف الحكومي الإلزامي، وإصلاح نظام التقاعد (مثل رفع سن التقاعد)، وتحسين استهداف شبكات الأمان الاجتماعي.
ويهدف تنفيذ هذه الإصلاحات إلى توفير حيز مالي لحماية الإنفاق الرأسمالي الحيوي، خاصة في قطاعات البنية التحتية للنقل والطاقة، التي تعد ضرورية لتنويع الاقتصاد.

موازنة 2026
كذلك، فإن تشكيل الحكومة الجديدة سيواجه اختباراً فورياً يتمثل في ضرورة تمرير موازنة 2026 في ظل توقعات بأسعار نفط أقل من سعر التعادل. وفيما بدأت بعض الشركات الدولية الكبرى مثل «إكسون موبيل» بالعودة، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر لا يزال يراوح مكانه، حيث تُحجم دول الخليج والمستثمرون الأجانب عن التوسع الكامل بسبب النفوذ الإقليمي والشكاوى المتكررة من تدخل المقاولين المرتبطين بجهات مسلحة في المشاريع.
ويؤكد الخبراء أن الاستقرار الحقيقي يتطلب أكثر من «واجهة استقرار مؤقتة»، بل يتطلب إصلاحات حقيقية في الحوكمة ومكافحة الفساد لتوفير بيئة جاذبة للاستثمار الخاص الذي يحتاج إليه العراق بشدة.
خلاصة القول أن التحدي الذي يواجه الحكومة العراقية الجديدة يتجاوز التوافق السياسي إلى مهمة اقتصادية وجودية: فإما أن يبدأ العراق فوراً مسار «الجراحة الإصلاحية» الصعبة لتقليل اعتماده الخطير على النفط، وتخفيف عبء فاتورة الأجور الضخمة، أو أن يبقى عرضة لصدمات السوق العالمية التي تهدد قدرته على الوفاء بالتزاماته تجاه مواطنيه. وفي ظل توقعات بارتفاع الدين وضرورة تمرير موازنة 2026 في بيئة نفطية غير مستقرة، فإن المرحلة المقبلة تتطلب إرادة سياسية غير مسبوقة لتحويل تعهدات الإصلاح إلى واقع يضمن الاستقرار الاقتصادي الطويل الأمد للعراقيين.
