التضخم في عالم ما بعد الجائحة... هل تستعد المصارف المركزية لمزيد من القوة؟

أعلام الاتحاد الأوروبي أمام مقر المصرف المركزي في فرانكفورت (رويترز)
أعلام الاتحاد الأوروبي أمام مقر المصرف المركزي في فرانكفورت (رويترز)
TT

التضخم في عالم ما بعد الجائحة... هل تستعد المصارف المركزية لمزيد من القوة؟

أعلام الاتحاد الأوروبي أمام مقر المصرف المركزي في فرانكفورت (رويترز)
أعلام الاتحاد الأوروبي أمام مقر المصرف المركزي في فرانكفورت (رويترز)

قد يكون التذبذب السريع في معدلات التضخم دون تأثيرات مماثلة على الناتج الاقتصادي سمة بارزة لعالم ما بعد جائحة كوفيد-19، حيث تسعى سلاسل الإمداد الهشة لتلبية احتياجات الأسواق، ما قد يستدعي اعتماد سياسات مصرفية مركزية أكثر قوة ونشاطاً، وربما في كلا الاتجاهين.

لقد جاءت سرعة الارتفاع العالمي في معدلات التضخم بعد صدمتي جائحة كوفيد-19 وغزو أوكرانيا متساوية تقريباً مع الانخفاض الذي تلا ذلك. نتيجة لذلك، تسعى المصارف المركزية حالياً بسرعة إلى عكس سياسة رفع أسعار الفائدة الحادة التي اتبعتها لاحتواء الأسعار خلال عامي 2022 و2023، وفق «رويترز».

النتيجة المثيرة للاهتمام رغم هذه التقلبات هي إمكانية تحقيق «هبوط ناعم» للاقتصادات دون حدوث انكماش كبير في الناتج الإجمالي. والسؤال الجوهري لصانعي السياسات والشركات والأسواق المالية هو ما إذا كان هناك عودة إلى نقطة البداية مع تفادي أزمة نادرة.

وفي محاولة لفهم دروس هذه المرحلة، أعاد بنك التسويات الدولية (الذي يُطلق عليه غالباً بنك المصارف المركزية) رسم صورة لعالم قد تتكرر فيه صدمات العرض، ويكون التضخم فيه أكثر توتراً. ولكن في خطاب ألقته هذا الأسبوع في لندن، قدمت أندريا ميتشل، نائبة المدير العام لبنك التسويات الدولية، رؤية أكثر عمقاً تشير إلى أن المصارف المركزية لم يعد بإمكانها «تجاهل» الصدمات العرضية كعوامل تضخم مؤقتة كما كانت تفعل قبل الجائحة.

وركزت ميتشل على منحدرات العرض الأكثر انحداراً و«منحنى فيليبس» الأكثر حدة، الذي يرسم العلاقة بين البطالة والأجور، أو بشكل أوسع بين الناتج والأسعار. جوهر حجتها هو أن هذه المنحنيات الحادة تعني تحركات أكبر في الأسعار نتيجة أي تغيير بسيط في الناتج، وهو ما تجلى بوضوح عندما أدى نقص العمالة بعد الجائحة إلى زيادات كبيرة في الأجور بالشركات التي أرادت تسريع أنشطتها.

كما أن اضطرابات الإمدادات الخارجية، مثل صدمة أسعار الطاقة بعد غزو أوكرانيا، أدت إلى تأثيرات أكبر وأسرع على الأسعار العامة مقارنة بالصدمات القطاعية والسلعية السابقة. والسبب في ذلك هو أن التضخم كان بالفعل أعلى من مستويات الاستهداف للمصارف المركزية عندما وقعت تلك الصدمات.

توخي الحذر

اختتمت ميتشل بالقول إنه «يجب على المصارف المركزية توخي الحذر عند تقييم مدى قدرتها على تجاهل الصدمات العرضية». ويجب أن يؤثر هذا على استراتيجياتها نظراً لأن تلك الصدمات أصبحت أكثر تكراراً في عالم يتسم بتقليص العولمة، وتوترات جيوسياسية، وانخفاض القوى العاملة، وديون عامة مرتفعة، وتغيرات مناخية، وانتقال إلى الطاقة الخضراء.

ومن المحتمل أن يتطلب الأمر اتخاذ سياسات أكثر «قوة» ونشاطاً، بغض النظر عن تأثيرها على الطلب الأساسي، لضمان ألا تؤدي تقلبات التضخم على المدى القصير إلى زعزعة توقعات التضخم على المدى الطويل، والحفاظ على الثقة في استهداف نسبة 2 في المائة.

ومع ذلك، فإن ما قد يكون الأكثر إثارة هو القول بأن منحنيات العرض الحادة قد تعني أيضاً أن الأجور والأسعار قد تعود إلى المستويات المستهدفة بسرعة أكبر، مع تأثيرات طفيفة فقط على الناتج من أسعار الفائدة المرتفعة.

وأشارت ميتشل إلى أن «رفع أسعار الفائدة استجابةً للصدمات العرضية قد يكون له تأثير محدود على النشاط إذا كانت (منحنيات فيليبس) حادة». وأضافت: «حينها، قد يكون إبطاء الاقتصاد للحد من التضخم أقل تكلفة من حيث الناتج».

وأضافت: «قد يكون التوقع الحالي بالهبوط السلس جزئياً مفسراً بحقيقة أن الاقتصاد - وخاصة أسواق العمل - في حالة تجعل (منحنيات فيليبس) أكثر حدة مما كانت عليه في العقود التي سبقت الجائحة».

التضخم المنخفض

أما كيف يمكن أن ينطبق كل ذلك على الوضع الحالي، فهو ليس واضحاً تماماً، رغم أن موضوع الإمدادات المستمرة لا يزال حاضراً في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية.

لكن ربما يشير ذلك أيضاً إلى أن التطورات المرتبطة بالإمدادات التي قد تؤدي إلى انخفاض مفاجئ في التضخم تهدد الاستقرار السعري من الجانب الآخر، وينبغي أن تُعالج بالقوة نفسها من قبل المصارف المركزية.

ففي هذا الأسبوع فقط، أوضح صانع السياسات في المركزي الأوروبي ماريو سينتينو هذه النقطة بوضوح، مشيراً إلى أن المصرف الأوروبي في طريقه لتسريع تخفيف السياسة النقدية. وقال: «نواجه الآن خطراً جديداً: انخفاض التضخم عن المستوى المستهدف، مما قد يعيق النمو الاقتصادي».

وفي مواجهة انخفاض الأسعار الشهرية في الشهر الماضي وعودة التضخم السنوي إلى أقل من 1 في المائة، قال مارتن شليغل، رئيس البنك الوطني السويسري الجديد، إن البنك لا يستبعد إعادة أسعار الفائدة إلى المنطقة السلبية.

حتى أولئك الذين كانوا مترددين في بنك إنجلترا أشاروا أيضاً إلى إمكانية تسريع خفض الفائدة، حيث تحدث رئيس البنك أندرو بيلي عن «كوننا أكثر عدوانية قليلاً» في هذا الصدد.

وبالنسبة للمستثمرين، تشير جميع هذه السيناريوهات إلى بيئة معدلات فائدة أكثر تقلباً في كلا الاتجاهين، مما يجعل الأمور أكثر تعقيداً مما كانت عليه في عقد ما قبل الجائحة. ومع ذلك، يمكن أن تبقى هذه الأفق إيجابية للشركات والأرباح إذا تمكنت الاقتصادات الأوسع من التعامل مع الأسعار المتقلبة ومعدلات الاقتراض بشكل أفضل مما فعلته لعقود.


مقالات ذات صلة

كبير اقتصاديي بنك إنجلترا يدعو إلى الحذر عند خفض الفائدة

الاقتصاد منظر عام لبنك إنجلترا في لندن (رويترز)

كبير اقتصاديي بنك إنجلترا يدعو إلى الحذر عند خفض الفائدة

أكد كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا، هيو بيل، ضرورة أن يتخذ المصرف المركزي البريطاني خطوات تدريجية عند خفض أسعار الفائدة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد أوراق نقدية من فئة اليورو (رويترز)

ارتفاع عائدات السندات الأوروبية من أدنى مستوياتها في عدة أشهر

ارتفعت عائدات السندات الحكومية في منطقة اليورو قليلاً عن أدنى مستوياتها في عدة أشهر يوم الخميس، مع تقييم الأسواق لتوقعات تخفيض أسعار الفائدة من المصرف المركزي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد تؤكد دراسات اقتصادية أنه رغم تراجع التضخم فإن أسعار المواد الغذائية لا تزال تشكل ضغطاً كبيراً على المستهلكين (وسائل إعلام تركية)

«التضخم السنوي» في تركيا يتباطأ إلى مستوى غير كافٍ للتخلي عن السياسة المتشددة

تراجع معدل التضخم السنوي في تركيا لأقل من سعر الفائدة لأول مرة منذ عام 2021، مسجلاً 49.38 في المائة خلال سبتمبر (أيلول)، مقابل 51.97 في أغسطس (آب) الذي سبقه.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد أشخاص على «جسر الألفية» بينما تظهر المنطقة المالية لمدينة لندن خلفهم (رويترز)

تراجع زخم «الخدمات» بالمملكة المتحدة مع استمرار النمو خلال سبتمبر

فقدت شركات الخدمات البريطانية بعض زخمها، لكنها استمرت في النمو خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، وارتفعت الأسعار التي فرضتها بأبطأ وتيرة منذ نحو 4 سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد مبنى «المصرف المركزي الأوروبي» خلف أعلام «الاتحاد» في فرنكفورت (رويترز)

انكماش الأعمال بمنطقة اليورو وسط تخفيف الضغوط التضخمية

تراجع نشاط الأعمال بمنطقة اليورو إلى الانكماش في الشهر الماضي، رغم أن هذا التراجع لم يكن حاداً كما كان متوقعاً في البداية.

«الشرق الأوسط» (عواصم)

السكر يقود قفزة شاملة بأسعار الغذاء العالمي في سبتمبر

عمال يرصُّون أجولة من السكر لشحنها في ميناء بولاية غوجارات الهندية (رويترز)
عمال يرصُّون أجولة من السكر لشحنها في ميناء بولاية غوجارات الهندية (رويترز)
TT

السكر يقود قفزة شاملة بأسعار الغذاء العالمي في سبتمبر

عمال يرصُّون أجولة من السكر لشحنها في ميناء بولاية غوجارات الهندية (رويترز)
عمال يرصُّون أجولة من السكر لشحنها في ميناء بولاية غوجارات الهندية (رويترز)

أظهرت بيانات صدرت الجمعة أن مؤشر أسعار الغذاء العالمية لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة قفز في سبتمبر (أيلول) الماضي، مسجلاً أكبر زيادة له في 18 شهراً بدعم من ارتفاع أسعار السكر.

وارتفع مؤشر أسعار الغذاء لتتبع أسعار السلع الزراعية الأكثر تداولاً حول العالم، إلى 124.4 نقطة في الشهر الماضي، من 120.7 في أغسطس (آب)، وهو أعلى مستوى منذ يوليو (تموز) 2023، وبزيادة 2.1 في المائة على أساس سنوي.

وذكرت «الفاو» أن مؤشر السكر ارتفع 10.4 في المائة على أساس شهري نتيجة لتراجع توقعات المحاصيل في البرازيل، ومخاوف من أن قرار الهند إلغاء القيود على استخدام قصب السكر في إنتاج الإيثانول قد يؤثر على توافر الصادرات في البلاد.

وارتفع مؤشر أسعار الحبوب ثلاثة في المائة بدعم من زيادة أسعار تصدير القمح والذرة. وارتفعت أسعار القمح العالمية بسبب المخاوف بشأن الظروف الرطبة المفرطة في كندا والاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن هذا الارتفاع تم تعويضه جزئياً من خلال الإمدادات ذات الأسعار التنافسية من منطقة البحر الأسود. كما ارتفعت أسعار الذرة العالمية، متأثرة بانخفاض مستويات المياه على طرق النقل الرئيسية على طول نهر ماديرا في البرازيل ونهر المسيسيبي في الولايات المتحدة.

وعلى النقيض من ذلك، انخفض مؤشر أسعار الأرز لمنظمة الأغذية والزراعة بنسبة 0.7 في المائة؛ ما يعكس جزئياً أنشطة التداول الهادئة بشكل عام.

وصعدت أسعار الزيوت النباتية 4.6 في المائة على أساس شهري، مع زيادة أسعار جميع أنواع الزيوت، ومن بينها زيت النخيل، والصويا، وعباد الشمس وبذور اللفت. وكان ارتفاع أسعار زيت النخيل العالمية بسبب الإنتاج الأقل من المتوقع في الدول المنتجة الرئيسية في جنوب شرقي آسيا، في حين كان انتعاش أسعار زيت الصويا يرجع في المقام الأول إلى عمليات السحق الأقل من المتوقع في الولايات المتحدة.

وزادت أسعار منتجات الألبان 3.8 في المائة في سبتمبر مع ارتفاع أسعار مسحوق الحليب كامل الدسم ومنزوع الدسم والزبدة والجبن، في حين صعدت أسعار اللحوم 0.4 في المائة، ويرجع ذلك أساساً إلى ارتفاع أسعار لحوم الدواجن بسبب الطلب القوي على الواردات من منتجات البرازيل. وظلت أسعار لحوم الأبقار والخنازير العالمية مستقرة، في حين انخفضت أسعار لحوم الأغنام قليلاً عن مستويات أغسطس.

وفي تقرير منفصل، رفعت «الفاو» بشكل طفيف توقعاتها لإنتاج الحبوب العالمي للعام الحالي إلى 2.853 مليار طن، من 2.851 مليار طن سابقاً. وقالت المنظمة إن الزيادة جاءت نتيجة لتحسين توقعات إنتاج الأرز والقمح، والتي كانت أعلى من الانخفاض الطفيف في إنتاج الحبوب الصلدة عالمياً.

ومن المتوقع أن يزداد استخدام الحبوب عالمياً بمقدار 12.4 مليون طن في 2024 - 2025 إلى 2.853 مليار طن. وفي المقابل، خفضت المنظمة توقعاتها لمخزونات الحبوب العالمية عند نهاية موسم 2025 بمقدار 1.7 مليون طن إلى 888.1 مليون طن.

ومن المتوقع الآن أن تبلغ التجارة الدولية في الحبوب 488.1 مليون طن، وهو ما يمثل انكماشاً بنسبة 2.7 في المائة عن مستوى 2023 - 2024. ومع ذلك، يُرى أن زيادة الواردات من أفريقيا والشرق الأدنى يمكن أن تقود التعافي في تجارة الأرز الدولية في عام 2025.