«هي الأسعار كدا! بتزيد من فترة كبيرة وفي كل مكان... هتيجي تحاسبني أنا الغلبان!».
هكذا ردّ صاحب محل بقالة «ميني ماركت» في حي شبرا الشعبي، بشمال القاهرة، على أحد الزبائن الذي أبدى استياءه عند دفع الفاتورة، التي تعدت قيمتها 700 جنيه (نحو 15 دولاراً)، رغم قلة أصناف المنتجات الذي اشتراها.
ورفع عم سلامة صوته في الزبون قائلاً: «إيه النغمة اللي دايرة اليومين دول... تخفيض أسعار... تخفيض أسعار... دا حرب روسيا وأوكرانيا لسه (ما زالت) شغالة، والحرب اللي جنبنا (إسرائيل وغزة) بتزيد... والأزمات في العالم بتزيد مش بتقل... يبقى الأسعار هتقل إزاي؟!».
ورغم تأكيد البنك الدولي، أن أسعار السلع الأولية العالمية شهدت انخفاضاً بنحو 40 في المائة بين منتصف عام 2022 ومنتصف عام 2023، مما يستوجب معه انعكاس ذلك على أسعار الغذاء، فإن عم سلامة، الخمسيني، أكد من جانبه في مداخلته مع «الشرق الأوسط»، أن «الأسعار غير مستقرة من وقت كورونا (عام 2020) وحتى الآن، وبتزيد طبعاً... وممكن تزيد كمان طالما مفيش (لا يوجد) استقرار في المنطقة والعالم...».
وبالفعل، ومنذ منتصف عام 2023، وحتى الآن، ظل مؤشر البنك الدولي لأسعار السلع الأولية دون تغيير جوهري، وبافتراض عدم تصاعد التوترات الجيوسياسية، تشير توقعات البنك الدولي إلى انخفاض أسعار السلع الأولية عالمياً بواقع 3 في المائة في عام 2024، و4 في المائة في عام 2025.
غير أن البنك قال أواخر أبريل (نيسان) الماضي: «لن يكون لهذه الوتيرة من الانخفاض أثر كبير في كبح جماح التضخم، الذي يظل أعلى من مستهدفات البنوك المركزية في معظم البلدان. وسوف يُبقي ذلك أسعارَ السلع الأولية أعلى بنسبة 38 في المائة تقريباً مما كانت عليه في المتوسط خلال السنوات الخمس التي سبقت جائحة (كورونا)».
ومع توافق التوقعات لكل من البنك الدولي وعم سلامة، حافظ الأخير على نبرة صوته المرتفعة بطريقة ساخرة، قائلاً: «هي الأسعار كدا... شويتين فوق... وشوية فوق... وهتفضل فوق».
ويبدو بالفعل، أن بعض المستثمرين حول العالم، يتوقعون، مستقبلاً، عدمَ انحسار الضغوط السعرية سريعاً، ففي الاقتصادات الرئيسية، ارتفعت مجدداً توقعات التضخم للعام أو العامين المقبلين، مقارنة بالفرق بين القيمة الاسمية والقيمة المربوطة بالتضخم لعوائد السندات الحكومية. ذلك أنها لا تزال أعلى من هدف البنوك المركزية، البالغ 2 في المائة، كما هي الحال في فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، أو 3 في المائة، كما هي الحال في البرازيل والمكسيك.
يرى نبيل إسكندر، مستثمر كندي من أصول مصرية، أن معدلات التضخم بعيدة عن مستهدفاتها، في معظم دول العالم، حتى الولايات المتحدة، رغم ارتفاع معدلات الفائدة، وهو ما يعد «أكبر تحدٍ تواجهه حكومات العالم حالياً».
ويقول إسكندر لـ«الشرق الأوسط»، من كندا، إن «بقاء سعر الفائدة مرتفعاً هو في الحقيقة، أمر مثير للقلق»، مشيراً إلى «الفيدرالي الأميركي»، الذي استبعد مؤخراً تخفيض الفائدة، وهو ما ينعكس على «ارتفاع الأسعار وتكلفة التمويل على الشركات، مما يعيق نموها».
وعن تأكيدات البنك الدولي انخفاض الأسعار بنسبة 40 في المائة تقريباً، قال الدكتور محمد يوسف الخبير الاقتصادي، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إن «تحليلاً علمياً لذلك لا يرده إلى التشديد النقدي؛ حتى ولو أسهم هذا التشديد في الضغط على الطلب في بعض الاقتصادات عالمياً».
وقال يوسف من أبوظبي: «في الولايات المتحدة، صرنا الآن نرى مَن يؤكد أن الفائدة المرتفعة أصبحت هي المصدر الرئيسي للتضخم، وأن الرهان على قبول المستثمرين العالميين للسندات الأميركية غير المشروط أصبح محل شك كبير، ما يهدد بتآكل الحيلة الأميركية لتصدير التضخم للعالم... وعلى الشاطئ الآخر من المحيط الهادئ، اضطرت اليابان للتخلي عن الفائدة السلبية في محاولة لدعم قيمة الين بعد سيل من المضاربات الدولية التي سببها أيضاً التضخم الأميركي وما ارتبط به من تشديد نقدي، ونزلت به لمستويات العقد الياباني الضائع في تسعينات القرن العشرين».
وتساءل قائلاً: «إذا كانت هذه هي حال اقتصادات بحجم اقتصادَي الولايات المتحدة واليابان، فكيف تكون حال الاقتصادات المأزومة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؟!».
لذلك، لا يعتقد يوسف، بأن تعثر سلاسل الإمداد والشحن الدولي في البحر الأسود، خصوصاً في السلع الزراعية والغذائية والطاقة، منذ تفشي جائحة «كورونا»، السبب الوحيد أو الرئيسي في ارتفاع معدلات التضخم حول العالم، وقال: «التضخم الذي اشتعل في جسد الأسواق العالمية منذ ما يزيد على عامين، ووصل لمستويات قياسية وغير مسبوقة في الدول المتقدمة (زاد على 10 في المائة في بعض منها) والدول النامية (تجاوز 50 في المائة في عديد منها) على السواء، يفسر وجهاً واحداً من أزمة متعددة الوجوه».
التضخم حول العالم
ما زال التضخم يؤرق اقتصادات الدول حول العالم، رغم أسعار الفائدة المرتفعة في أغلب الدول، وباتت أسعار السلع مشكلة رئيسية للاقتصاد العالمي، ذلك لأنها تتسبب بتغيرات جوهرية في سعر صرف العملة في بعض الدول، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي في معظم الدول، مما يقلل من حجم الاستثمارات ومن ثم فرص التوظيف الجديدة.
ومع تراجع القوة الشرائية لدى المستهلكين، في معظم الدول حول العالم، باستثناء الولايات المتحدة الأميركية؛ بسبب قوة الدولار، فإن الحاجة إلى زيادة المعروض من السلع والخدمات تراجعت، وهو ما انعكس بالكاد على طلبيات المصانع والشركات من الخامات والمنتجات غير تامة الصنع، حتى هبط حجم الاستثمارات الجديدة، وبالتالي كمية المنتجات المتاحة في الأسواق، وهذا أدى بدوره إلى تراجع المعروض الذي رفع بدوره الأسعار من جديد.
غير أن الأسواق تشهد عادة زيادة في الطلب في بعض الأشهر من كل عام، وهو ما يسميها التجار «مواسم الشراء»، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع الأسعار بصورة مبالغ فيها، نسبةً وتناسباً مع تراجع المعروض.
تشير البيانات الصادرة حتى نهاية أبريل الماضي، إلى تسارع التضخم الأساسي في الأشهر الثلاثة الأخيرة مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة في عدد من الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة الرئيسية (فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والفلبين، وجنوب أفريقيا، والسويد، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة).
وفي هذا الصدد، يرى توبياس أدريان، المستشار المالي ومدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي، أن على البنوك المركزية مواصلة موقفها الحذر في المِيل الأخير نحو خفض التضخم.
وقال أدريان، في العدد الأخير من تقرير «الاستقرار المالي العالمي»، الصادر عن صندوق النقد الدولي، بعنوان: «المِيل الأخير: مواطن الضعف والمخاطر المالية»، إنه «بعد تراجع سريع في مختلف أنحاء العالم، تباعدت معدلات التضخم مؤخراً عبر البلدان».
ومما يزيد المخاوف في هذا الصدد، يرى البنك الدولي أن «استمرار التوترات الجيوسياسية على مدى العامين الماضيين، أدى إلى ارتفاع أسعار النفط وكثير من السلع الأولية الأخرى حتى مع تباطؤ النمو العالمي»، مشيراً إلى أسعار النفط التي تتراوح بين 85 و90 دولاراً، أي ما يزيد بنحو 34 دولاراً للبرميل عن متوسط فترة السنوات 2015 - 2019.
وحذر البنك من تداعيات تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، مما قد يؤدي إلى «دفع معدلات التضخم العالمي نحو الارتفاع». قدّر البنك هذا الارتفاع هنا بنحو نقطة مئوية في عام 2024، في حال حدوث اضطرابات حادة.
وأمام هذه الدائرة المفرغة، تمكن قراءة إفلاس بعض الشركات والبنوك الكبرى حول العالم، التي كان من أبرزها، بنك بحجم «كريدي سويس»، ثاني أكبر بنك في سويسرا، خلال مارس (آذار) من العام الماضي، وبنكا «سليكون فالي» و«سغنتشر» الأميركيان. غير أن تدخل السلطات الأميركية والسويسرية حال دون انتقال العدوى لعدد كبير من البنوك كان مهدداً بالوصول للنتيجة نفسها.
وفي أغسطس (آب) من العام الماضي، ظهرت الأزمة في الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فقد أعلنت مجموعة «إيفرغراند» الصينية العملاقة للتطوير العقاري، إفلاسها أيضاً، لكن السلطات تدخلت لتحُول دون انتقال العدوى لعديد من الشركات الأخرى.
ويمكن القول إن الحكومات أوقفت موجة إفلاسات، ومنعت بالفعل أزمة مالية قد تكون على غرار الأزمة التي شهدها العالم عام 2008، أو أكبر، لكن ما زال التضخم مرتفعاً، ويهدد معدلات نمو الاقتصاد العالمي.
وبعد هذه التحركات، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي بشكل طفيف لعام 2024 إلى 3.2 في المائة، وفقاً لأحدث تقرير لآفاق الاقتصاد العالمي نُشر منتصف أبريل الماضي.
هل نشهد دورة فائقة للسلع جديدة؟
المستويات المرتفعة والمستمرة في الأسعار، تدعم مؤيدي نظرية «الدورة الفائقة للسلع»، التي تفيد بأن الأسعار ستواصل الصعود لعقد كامل، (بدأت الارتفاع بفعل تداعيات كورونا في 2020 و2021)، جراء اضطراب سلسلة الإمدادات الناتجة عن توقف المصانع والشركات وقت الإجراءات الاحترازية لـ«كوفيد - 19»، واستمرت بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وهدأت وتيرتها نسبياً خلال النصف الأول من عام 2023، حتى بدأت حرب جديدة في الشرق الأوسط، (بين إسرائيل وقطاع غزة وما زالت مستمرة) طالت تداعياتها حركة التجارة في البحر الأحمر، وأثرت في الإمدادات من السلع والخدمات.
يقول محلل المخاطر بشركة «النيل للتأجير التمويلي»، زاهر خليف، لـ«الشرق الأوسط»، إن «تصاعد وتيرة الصراع في الشرق الأوسط قد يدفع التضخم للصعود من جديد... ووقته قد نشهد دورة فائقة للسلع جديدة». إذ تنتج المنطقة 35 في المائة من صادرات النفط، و14 في المائة من صادرات الغاز.
ووافقه في الرأي إسكندر، الذي أكد أن «أمام العالم فترة أخرى قبل أن تستقر الأسعار وتصل لمستهدفاتها»، مشيراً إلى «التطورات الجيوسياسية المتلاحقة»، التي تدفع باتجاه «ارتفاع معدلات التضخم، في صورة ارتفاع أسعار السلع، وتحديداً النفط والغاز، وأيضاً الذهب».
ومع الفرق بين طريقة استخدام السياسات النقدية حول العالم، يرى خليف، أن «الدول المتقدمة لديها القدرة على الوصول لمستهدفات التضخم بشكل أسرع من الاقتصادات النامية».
غير أن التداعيات السلبية طالت جميع اقتصادات العالم، «فقد اتخذت البنوك المركزية إجراءات للتشديد النقدي؛ للحد من التضخم، مما شكّل عبئاً إضافياً على الشركات، وبالتالي ارتفاع تكلفتها وكذلك تقليص الائتمان وتراجع إقدام الشركات على الدخول في استثمارات جديدة». وفق خليف.
تضخم الاقتصادات النامية والمتقدمة
يرى الدكتور محمد يوسف، أن رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم في الاقتصادات النامية كان يمثل «الحل السهل والمألوف رأسمالياً لمواجهة التضخم المستشري في اقتصادات تتباين فيما بينها تبايناً جوهرياً في مستويات التنمية، ودرجة نضوج الأسواق».
ساعد هذا، وفق يوسف، «بكل تأكيد على مزيد من التأزم في الأوضاع النقدية للدول، وكان حلاً كلاسيكياً لتصدير أزماتها للمستقبل، بمعدل فائدة ناهز 50 في المائة في بعض منها. فالدول التي شهدت بعض التراجع في معدلات التضخم مع تبنيها حلول التشديد النقدي، وفي ظل استمرارها على ذات المنوال في محركات نموها لا مناص من عودتها مرة أخرى لأزمة التضخم بصورة أكثر اتساعاً وإيلاماً».
وتوقع يوسف، هنا أن تعاني هذه الاقتصادات نتيجة تداعيات استمرار التشديد النقدي، على أن يكون ذلك «بمثابة سكب الزيت على النار في الاقتصادات النامية». وذلك في الأجل المتوسط.
أما على صعيد المستقبل القريب والمنظور للتضخم عالمياً؛ فيقول يوسف، إن اتجاهات التضخم ستكون مرهونة بأمور عدة ذات طبيعة متداخلة، حددها هنا في 3 محددات، أولها: «العرض والطلب في الأسواق المحلية. فمع ارتفاع مرونة الدول المتقدمة، خصوصاً في أوروبا، تجاه سلاسل التوريد للغذاء والطاقة، أصبحت أكثر قدرة على ترويض مسببات هذا التضخم؛ فحتى بفرض حدوث أزمة جيوسياسية جديدة، ستكون تداعياتها على التضخم أقل حدة مما حدث في بداية عام 2022».
والمحدد الثاني، فمع «افتراض استقرار المتغيرات الجيوسياسية، ومع قرب الانتخابات الأميركية، والاحتمالات المتزايدة للتهدئة في الشرق الأوسط، ستُترك أسعار الطاقة عالمياً حول نطاق محدود التأثير في التضخم عالمياً».
أما المحدد الثالث: «ازدهار التجارة الدولية وتحسّن أحوال الشحن الدولي، يمكن أن يدعما تهدئة الضغوط التضخمية؛ لكن ذلك لن يكتب له النجاح الكامل دون حدوث تهدئة وتراجع في مؤشرات التنافس الصيني - الغربي؛ ولعل زيارة الرئيس الصيني مؤخراً لأوروبا قد تمهّد الطريق لذلك».
ويعتقد يوسف، بناء على ذلك، بأن «احتمالات أن يواجه العالم دورة جديدة للتضخم تظل احتمالات ضعيفة، لا تدعمها اتجاهات الواقع الراهن، وأن الاقتصاد العالمي لن يعاني قريباً من ارتفاع مفرط بالأسعار».
التضخم المستورد
وبالعودة إلى عم سلامة من جديد، قال إن أحد حلول الأسعار المرتفعة، هو أن «تعتمد الدول على نفسها»، أي تبدي اهتماماً أكبر بالإنتاج، لتقلل الاستيراد، الذي يأتي معه التضخم المستورد، «كل ما نستورد بضاعة أكتر... الأسعار هترتفع... لأن الأسعار برا (في الخارج) عالية، وحط (ضع) عليها مصاريف النقل والجمارك والضرائب وهامش الأرباح... إذن لازم الدول اللي زينا (مثلنا) تنتج أكتر ما بتستورد عشان تحل المعادلة».
ويبدو أن هذا الحل يلقى اهتماماً من بعض الحكومات، إذ قالت وزيرة التخطيط المصرية الدكتور هالة السعيد، لـ«الشرق الأوسط»، إن نسبة التضخم المستورد في مصر خلال العام المالي الماضي، تتراوح بين 35 و40 في المائة من إجمالي التضخم البالغ وقتها نحو 35 في المائة. وأكدت: «نعمل على خفض هذه النسبة خلال العام الجديد من خلال تقليل الاستيراد وزيادة الإنتاج».