هل تنجح حملة «إزاحة الدولار» عن إدارة الاقتصاد العالمي؟

قمة «بريكس» في جوهانسبورغ تبحث تسريع استخدام العملات المحلية

صورة التقطت في 9 فبراير 2023 لعملة روبل روسية وأوراق نقدية بالدولار الأميركي في موسكو (أ.ف.ب)
صورة التقطت في 9 فبراير 2023 لعملة روبل روسية وأوراق نقدية بالدولار الأميركي في موسكو (أ.ف.ب)
TT

هل تنجح حملة «إزاحة الدولار» عن إدارة الاقتصاد العالمي؟

صورة التقطت في 9 فبراير 2023 لعملة روبل روسية وأوراق نقدية بالدولار الأميركي في موسكو (أ.ف.ب)
صورة التقطت في 9 فبراير 2023 لعملة روبل روسية وأوراق نقدية بالدولار الأميركي في موسكو (أ.ف.ب)

منذ عقود طويلة، يتربع الدولار الأميركي على عرش العملات العالمية حتى بات الاقتصاديون يطلقون عليه لقباً فاخراً، وهو «عملة الاحتياطي العالمي» كونه أهم وسيلة للتبادل التجاري العالمي والملاذ الآمن للاحتياطات الأجنبية للمؤسسات المالية والشركات في جميع أنحاء العالم.

بيد أن قوىً جيوسياسية عديدة تعمل منذ فترة على إضعاف المركز الأول للدولار في التسلسل الهرمي للعملات، وتقود حملة لـ«إلغاء الدولرة» (De-Dollarization) من أجل الحد من هيمنة العملة الخضراء على الاقتصاد العالمي. وهو دور يحتفظ به الدولار منذ أن حل محل الجنيه البريطاني كأكبر عملة احتياطية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية بفعل اتفاقية «بريتون وودز» التي حوّلته إلى عملة احتياطات دولية.

هذه الحملة تعززت بعد العقوبات الأميركية التي تم فرضها على روسيا رداً على حربها على أوكرانيا، وفي ظل التصعيد المستمر بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما دفع دولاً عدة إلى اتخاذ تدابير وخطوات تستهدف تقليل اعتمادها على الدولار. في وقت انتقدت بكين صراحة هيمنة الدولار ووصفته بأنه «المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار وعدم اليقين في الاقتصاد العالمي»، وألقت باللوم مباشرة على رفع سعر الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي في التسبب في اضطرابات في السوق المالية الدولية وانخفاض كبير في قيمة العملات الأخرى.

في عام 2000، كان الدولار يمثل حوالي 73 في المائة من إجمالي احتياطات النقد الأجنبي العالمي، لكن هذه النسبة تقلصت اليوم إلى حوالي 59 في المائة. وعلى الرغم من أن الكثير من التجارة الدولية والعديد من المعاملات السلعية لا تزال تسوّى بالدولار، فإن دولاً كبيرة، بما فيها البرازيل والأرجنتين، أبرمت اتفاقيات ثنائية مع الصين لاستخدام عملة اليوان وعملاتها المحلية للتسوية التجارية.

قمة «بريكس»

ومن المتوقع على نطاق واسع أن تبحث قمة مجموعة «بريكس» في الرابع والعشرين من الشهر الحالي في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا، تعميق استخدام العملات المحلية في التجارة بين الدول الأعضاء في التكتل الذي يضم كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وذلك في محاولة للحد من هيمنة الدولار.

وقد أبلغ كبير دبلوماسيي جنوب أفريقيا والمسؤول عن العلاقات مع «بريكس»، أنيل سوكلال، «بلومبرغ» يوم الثلاثاء، أن قمة «بريكس» ستناقش تعميق استخدام العملات المحلية في التجارة بين الدول الأعضاء، مضيفاً أن مسألة «التداول بالعملات المحلية على جدول الأعمال بقوة». لكنه أوضح أنه «لا يوجد بند إزاحة الدولرة على جدول أعمال بريكس... بريكس لا تدعو إلى إلغاء الدولرة. سيظل الدولار عملة عالمية رئيسية - وهذه حقيقة واقعة».

وأضاف «إن المحادثات ستركز على قضايا، من بينها إنشاء نظام مدفوعات مشترك، في حين من المرجح تشكيل لجنة فنية لبدء النظر في عملة مشتركة محتملة».

ويكتسب تكتل «بريكس» أهمية في التعاملات التجارية العالمية باعتبار أن أعضاءه يمثلون أكثر من 42 في المائة من سكان العالم و23 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و18 في المائة من التجارة. وهذا يعني أن إنشاء أي عملة مشتركة قد يساهم بشكل كبير في تقويض سيطرة العملة الخضراء على الاقتصاد العالمي.

هل يمكن «إلغاء الدولار»؟

ينقسم الخبراء في الولايات المتحدة بشدة حول آفاق حملة «إلغاء الدولار» ومستقبل عملة «بريكس». فبينما تعتقد وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين أن الدولار سيظل مهميناً لأن معظم الدول ليس لديها بديل، يرى جوزيف سوليفان، الخبير الاقتصادي السابق في مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض خلال إدارة دونالد ترمب، أنّ العملة التي تبحث فيها «بريكس» قد تنهي هيمنة الدولار. فدول «بريكس»، بحسب سوليفان، يمكنها في البداية تمويل كامل فواتير الاستيراد الخاصة بهم بعملاتها. علماً أن هذه الدول قد حققت مثلاً في عام 2022 فائضاً تجارياً بقيمة 387 مليار دولار، يمكنها أن تسددها عندها بعملاتها الخاصة.

من جهتهما، يقول بريان ب. بروكس وتشارلز دبليو كالوميريس من مكتب مراقب العملة في الولايات المتحدة، في مقال رأي نشر منذ أيام في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، إن «السياسة الأميركية لم تعزز الثقة العالمية بالدولار... تجميد الأصول على حيازات الدولار في المصرف المركزي الروسي الذي فرض بعد غزو روسيا لأوكرانيا، في حين أنه مفهوم سياسياً، لكنه صدم المستثمرين ومحافظي المصارف المركزية، الذين أدركوا للمرة الأولى أن الدولار قد لا يكون المخزن الآمن للقيمة التي كان عليها من قبل». ويضيفان «إن عالماً منزوع الدولار من شأنه أن يضر بالولايات المتحدة. إذ تقلل وضعية احتياطي الدولار من تكاليف الاقتراض الأميركية، وهو أمر بالغ الأهمية في عصر وصل فيه الاقتراض والإنفاق الحكومي إلى مستوى قياسي ولا يزال يرتفع. كما أن وضعية الاحتياطي تحمي الحكومة الأميركية والمصارف وعامة الناس من مخاطر الصرف الأجنبي».

ليس هناك تحدٍ خطير في أي وقت قريب

وترى «مورغان ستانلي» أن التهديدات من إزاحة الدولار عن المشهد الاقتصادي العالمي مبالغ فيها، وإن كانت ترى في الوقت نفسه أن المنافسة المتزايدة من العملات الأخرى قد تؤدي إلى الإضرار بالطلب على الدولار الأميركي.

وترى «مورغان ستانلي» أنه من غير المرجح أن يواجه الدور الحالي للدولار الأميركي في الاقتصاد العالمي تحدياً خطيراً في أي وقت قريب، لأربعة أسباب رئيسية هي:

- يظل الدولار الأميركي «وسيط التبادل» المهيمن في العالم، أو وسيلة شراء وبيع السلع. في مارس (آذار)، على سبيل المثال، ذكرت جمعية الاتصالات المالية بين المصارف في جميع أنحاء العالم (سويفت) أن الدولار الأميركي كان العملة الأكثر استخداماً في نظام الدفع العالمي، وهو ما يمثل 41.7 في المائة من المدفوعات، يليه اليورو. وبالمقارنة، تم استخدام الرنمينبي الصيني في 2.4 في المائة من مدفوعات «سويفت»، على الرغم من أن الصين تمثل نسبة أكبر نسبياً من التجارة العالمية.

- يظل الدولار أيضاً «وحدة الحساب» الأساسية على مستوى العالم، مما يعني أنه بمثابة الطريقة القياسية التي يقيس بها الشركاء التجاريون القيمة السوقية للسلع والخدمات التي يتم تبادلها. وفقاً للاحتياطي الفيدرالي، من 1999 إلى 2019، شكّل الدولار الأميركي 96 في المائة من الفواتير التجارية في الأميركتين، و74 في المائة في منطقة آسيا والمحيط الهادي و79 في المائة في بقية العالم. وكان الاستثناء الوحيد في أوروبا، حيث اليورو هو العملة الأساسية للفواتير، نظراً للتداول المتكرر بين شركاء الاتحاد الأوروبي.

- يُنظر إلى الدولار الأميركي على نطاق واسع على أنه «مخزن للقيمة» أو ملاذ آمن. في جزء كبير منه بسبب هذا الاستقرار بالنسبة للعملات الأخرى، يمثل الدولار ما يقرب من 60 في المائة من الاحتياطات الأجنبية (أي العملات التي تحتفظ بها المصارف المركزية للمساعدة في إدارة النظام النقدي وسعر الصرف في بلادهم). وفي حين انخفضت حصة الدولار الأميركي من احتياطيات المصرف المركزي بمرور الوقت، إلا أنها لا تزال تقزّم أسهم جميع المنافسين. علاوة على ذلك، وفقاً لمعهد «بروكينغز»، فإن أكثر من 65 دولة تربط عملتها بالدولار الأميركي.

- لا يوجد حالياً بديل قابل للتطبيق. وقد نوقشت العملات الأخرى كمنافسين محتملين للدولار الأميركي، ولكن لا شيء يقترب من تشكيل تهديد موثوق به - على الأقل، ليس بعد - وفقاً لـ«مورغان ستانلي».

ومن حيث الترتيب، فإن اليورو هو ثاني أكبر عملة احتياطية في العالم، لكنه يمثل 21 في المائة من الاحتياطات الأجنبية مقابل ما يقرب من 60 في المائة للدولار. ووفقاً للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، فإن العوامل الرئيسية التي تحول دون استخدام اليورو على نطاق أوسع هي عدم كفاية الإمدادات من الأصول عالية الجودة المقوّمة باليورو، التي يمكن للمستثمرين الدوليين والمصارف المركزية استخدامها كمخزن للقيمة، بالإضافة إلى أنه لا توجد أصول «آمنة» مدعومة من الحكومة على مستوى منطقة اليورو.

وبالنسبة إلى «مورغان ستانلي»، فإن الرنمينبي الصيني يمثل جزءاً صغيراً جداً من احتياطات النقد الأجنبي، كما أن سيطرة صانعي السياسة الصينيين على سعر الصرف تجعل من غير المرجح أن تكتسب قوة دفع سريعة.

أما الذهب، فهو مكلف للتحرك، مما يجعله أقل من مثالي كوسيلة للتبادل أو وحدة الحساب.

وترى «مورغان» أن عملة «بريكس» لا تزال افتراضية للغاية، وأن دول «بريكس» قد تجد صعوبة في التنسيق عبر المصارف المركزية وقد تثبت في النهاية أنها غير مستعدة لتبادل اعتمادها على الدولار الأميركي بعملة متقلبة محتملة قد تكافح من أجل تحقيق تبنٍ أوسع.

وبالنظر إلى هذه الظروف، سيكون من الصعب الابتعاد عن النظام المتمحور حول الدولار. من الممكن تماماً أن تظهر عملات احتياطية رئيسية متعددة، استناداً إلى علاقات تجارية - على سبيل المثال، اليورو في أوروبا، والرنمينبي في آسيا والدولار الأميركي في الأميركتين - ولكن من المحتمل أن يستغرق الأمر عقوداً لتحل محل الأسبقية العالمية للدولار... تختم «مورغان ستانلي».


مقالات ذات صلة

تعهدات ترمب بفرض تعريفات جمركية تدفع الدولار للارتفاع

الاقتصاد أوراق نقدية بقيمة 100 دولار أميركي (رويترز)

تعهدات ترمب بفرض تعريفات جمركية تدفع الدولار للارتفاع

ارتفع الدولار الأميركي بعد أن أعلن الرئيس المنتخب دونالد ترمب عن خطط لفرض تعريفات جمركية على المنتجات القادمة إلى الولايات المتحدة من المكسيك وكندا.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
الاقتصاد أبراج وشركات وبنوك على نيل القاهرة (تصوير: عبد الفتاح فرج)

تقرير أممي يحذّر من تضخم الدين العام في المنطقة العربية

حذّر تقرير أممي من زيادة نسبة خدمة الدين الخارجي في البلدان العربية، بعد أن تضخّم الدين العام المستحق من عام 2010 إلى 2023، بمقدار 880 مليار دولار في المنطقة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الاقتصاد أوراق نقدية من فئة 100 دولار أميركي (رويترز)

الدولار الأميركي ينخفض بعد ترشيح ترمب بيسنت وزيراً للخزانة

انخفض الدولار الأميركي، يوم الاثنين، بعد أن رشح الرئيس المنتخب دونالد ترمب، سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة، مما أوقف الارتفاع الحاد للعملة بعد الانتخابات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد أوراق نقدية من الدولار الأميركي (رويترز)

الدولار يواصل تراجعه إلى أدنى مستوى في أسبوع

تراجع الدولار الأميركي إلى أدنى مستوى في أسبوع مقابل العملات الرئيسية، يوم الأربعاء، حيث يسعى لتمديد انخفاضه، لليوم الثالث على التوالي، بعد بلوغه ذروة أسبوعية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الاقتصاد رجل يشاهد شاشة إلكترونية تعرض أسعار الأسهم خارج أحد البنوك في طوكيو (رويترز)

الأسهم الآسيوية ترتفع والدولار يتراجع مع ترقب تعيينات ترمب

ارتفعت الأسهم الآسيوية يوم الثلاثاء، بينما تراجعت عوائد السندات الأميركية والدولار عن أعلى مستوياتهما في عدة أشهر.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)

صفقات «جسري» السعودية تتخطى 9.3 مليار دولار

جانب من العاصمة السعودية الرياض (واس)
جانب من العاصمة السعودية الرياض (واس)
TT

صفقات «جسري» السعودية تتخطى 9.3 مليار دولار

جانب من العاصمة السعودية الرياض (واس)
جانب من العاصمة السعودية الرياض (واس)

أعلنت السعودية توقيع 9 صفقات استثمارية بقيمة تزيد على 35 مليار ريال (9.3 مليار دولار)، ضمن «المبادرة الوطنية لسلاسل الإمداد العالمية (جسري)»، لتعزيز الوصول إلى المواد الأساسية والتصنيع المحلي، بالإضافة إلى تمكين الاستدامة والمشاركة السعودية في سلاسل الإمداد العالمية.

ووفق بيان من «المبادرة»، اطلعت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، فإن المشروعات البارزة التي أُعلن عنها تشمل: مرافق صهر وتكرير، وإنتاج قضبان النحاس مع «فيدانتا»، ومشروعات التيتانيوم مع «مجموعة صناعات المعادن المتطورة المحدودة (إيه إم آي سي)» و«شركة التصنيع الوطنية»، ومرافق معالجة العناصر الأرضية النادرة مع «هاستينغز».

وتشمل الاتفاقيات البارزة الأخرى مصانع الألمنيوم نصف المصنعة مع «البحر الأحمر للألمنيوم»، إلى جانب مصنع درفلة رقائق الألمنيوم مع شركة «تحويل».

بالإضافة إلى ذلك، أُعلن عن استثمارات لصهر الزنك مع شركة «موكسيكو عجلان وإخوانه للتعدين»، ومصهر للمعادن الأساسية لمجموعة «بلاتينيوم» مع «عجلان وإخوانه»، إلى جانب مصهر للزنك، واستخراج كربونات الليثيوم، ومصفاة النحاس مع «مجموعة زيجين».

وهناك استثمار رئيسي آخر بشأن منشأة تصنيع حديثة مع «جلاسبوينت»، في خطوة أولى لبناء أكبر مشروع حراري شمسي صناعي في العالم.

يذكر أن «جسري» برنامج وطني أُطلق في عام 2022 بوصفه جزءاً من «استراتيجية الاستثمار الوطنية» في السعودية، بهدف طموح يتمثل في تعزيز مرونة سلاسل التوريد العالمية، من خلال الاستفادة من المزايا التنافسية للمملكة، بما فيها الطاقة الخضراء الوفيرة والموفرة من حيث التكلفة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي.

ويهدف «البرنامج» إلى جذب استثمارات عالمية موجهة للتصدير بقيمة 150 مليار ريال بحلول عام 2030.

وخلال العام الماضي، تعاون «البرنامج» مع كثير من أصحاب المصلحة المحليين والعالميين لمتابعة أكثر من 95 صفقة بقيمة تزيد على 190 مليار ريال سعودي، تغطي أكثر من 25 سلسلة قيمة.