هل الديون الأميركية والصينية يجب أن تزيد؟

أزمة الدين العام في البلدين وجهان لعملة واحدة

علما الولايات المتحدة الأميركية والصين (رويترز)
علما الولايات المتحدة الأميركية والصين (رويترز)
TT

هل الديون الأميركية والصينية يجب أن تزيد؟

علما الولايات المتحدة الأميركية والصين (رويترز)
علما الولايات المتحدة الأميركية والصين (رويترز)

في وقت سابق من العام الحالي، شهدت واشنطن جدلاً حاداً حول ضرورة وضع سقف ملزم للدين العام الأميركي. وافترض هذا الجدل، سواء بشكل ضمني، وأحياناً بشكل صريح، أن تزايد الدين العام يعكس إسراف الحكومة، وأنه في حال تحلى صناع السياسة بقدر قليل من الاقتصاد في الإنفاق أو بالمسؤولية، فسيتوقف عبء الدين العام عن الارتفاع. وبهذا المنطق يستهدف سقف الدين العام فرض نوع من الانضباط المالي الملزم على أعضاء الكونغرس.

والمفارقة هي أن الجدل الدائر في أكبر اقتصاد في العالم، يدور أيضاً في الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بسبب تضخم الدين الحكومي الصيني خلال السنوات العشر أو الـ15 الماضية. وسط محاولات من الجهات التنظيمية والرقابية الصينية للحد من الديون المخفية للحكومات المحلية، والممارسات الاحتيالية للاقتراض.

ويتوقع اقتصاديون في الصين أنه بمجرد فرض ضوابط على اقتراض الحكومات المحلية والمؤسسات المملوكة للدولة، لن يصبح ارتفاع الدين العام مشكلة في الصين.

لكن ميشيل بيتس، أستاذ المالية في كلية إدارة الأعمال بجامعة بكين الصينية والمتخصص في المالية الصينية، يقول في تحليل نشره موقع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن هذه الفكرة في الحالتين «مشوشة». فارتفاع الدين العام في كل من الولايات المتحدة والصين أمر هيكلي وضروري بسبب الطريقة التي يعمل بها الاقتصادان.

وفي حين من الممكن أن يكون جزء من زيادة الديون في الدولتين نتيجة الإسراف والسلوك غير المسؤول وربما الاحتيال، فإن هذا ليس السبب في الجزء الأكبر من الزيادة. فحتى مع وجود قواعد صارمة وحتى يتم إجراء تغييرات جذرية في الاقتصادين، فإنه «إما يتم السماح بزيادة الدين العام وإما أن يتباطأ الاقتصاد إلى مستويات غير مقبولة سياسياً، وهي المستويات التي تقود إلى ارتفاع معدلات البطالة».

بمعنى آخر، فإن الدين المرتفع يدخل في الهياكل الحالية للاقتصادين الأميركي والصيني، مع أسباب متشابهة لزيادة الدين، وصور متماثلة للطرق التي تحدث بها الزيادة في الدين. وفي الولايات المتحدة يعد ارتفاع الدين الطريقة التي يحقق بها الاقتصاد التوازن مع تأثير الظروف بما في ذلك المستوى المرتفع من تفاوت الدخول والعجز التجاري الكبير الذي يقلص تلقائياً الطلب المتاح على الشركات الأميركية.

والأمر نفسه ينطبق على الصين، ولكن لأسباب مختلفة بشكل طفيف. الصين تعاني من شكلين من تشوهات الدخول، التي تحد من الطلب بالنسبة للشركات الصينية؛ الشكل الأول هو الأكثر حضوراً في المناقشات يتعلق بتفاوت الدخل، فالأغنياء الصينيون، مثل الأغنياء الأميركيين، يحصلون على حصة هائلة من الدخل.

أما التشوه الثاني وهو الأكثر أهمية، يتمثل في انخفاض حصة الأسر الصينية من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، حيث يحصلون على نحو 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، مقابل 80 في المائة تقريباً في الولايات المتحدة. هذه الحصة من إجمالي الناتج المحلي لها نفس تأثير التفاوت في الدخول.

وهذا التفاوت في الدخول، واستحواذ نسبة بسيطة من المواطنين على الجزء الأكبر من الدخل القومي، يخلق مشكلة للاقتصاد لأنه يؤدي إلى ضعف الإنفاق الاستهلاكي، دون زيادة في الإنفاق الاستثماري، وبالتالي يتراجع الطلب، فتقرر الشركات خفض الإنتاج وتسريح العمالة الذي يرتبط بتراجع جديد في الطلب.

ولمنع حدوث مثل هذا السيناريو في الولايات المتحدة يلجأ صناع السياسة إلى طريقتين أساسيتين؛ الأولى يقوم بها مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأميركي لمنع تباطؤ الاقتصاد وارتفاع معدل البطالة، من خلال تخفيف السياسة النقدية وتشجيع المستهلكين على الاقتراض لتمويل إنفاقهم الاستهلاكي. في هذه الحالة يتم تعويض انخفاض حصة المستهلكين من إجمالي الناتج المحلي، بزيادة حصتهم من الاقتراض، وبالتالي ترتفع ديون المستهلكين.

أما الطريقة الثانية، فهي قيام الحكومة الأميركية نفسها باقتراض الأموال وإنفاقها بشكل مباشر أو غير مباشر لكي تعوض التراجع في الطلب الناتج عن انخفاض الاستهلاك.

وفي الصين، تتعامل الحكومة مع الطلب الضعيف بطريقة مختلفة. ففي حين شجع بنك الشعب (المركزي) الصيني على الاقتراض الاستهلاكي خلال السنوات القليلة الماضية، كما يفعل مجلس الاحتياط في الولايات المتحدة، ارتفع الدين الاستهلاكي سريعاً، حتى وصل إلى مستويات جعلت البنك المركزي يتراجع عن تشجيع الاقتراض.

ونظراً لأن القطاع الخاص في الصين لا يريد أو لا يستطيع أن يكون جسراً لسد الفجوة من خلال زيادة الاستثمار في ظل ضعف الطلب الذي يواجهه، أجبرت الحكومة الشركات المملوكة للدولة والحكومات المحلية على اقتراض مبالغ كبيرة لتمويل الإنفاق على مشروعات البنية التحتية والعقارات والمشروعات المملوكة للحكومة.

لذلك، فارتفاع الدين في الصين هو صورة لارتفاع الدين في الولايات المتحدة. في كلتا الحالتين، تؤدي التشوهات في توزيع الدخل إلى تزايد الضغوط على الاستهلاك المحلي لينخفض، وعلى المدخرات لتتزايد. وفي الولايات المتحدة تمت مواجهة مشكلة تراجع الطلب من خلال السماح بزيادة الديون الاستهلاكية أو العجز المالي لتمويل الاستهلاك وتقليل المدخرات المستقبلية.

أما في الصين، فيتم حل المشكلة الناتجة عن الطلب المنخفض من خلال تشجيع الاستثمار الحكومي غير المنتج، وبالتالي تقابل زيادة المدخرات زيادة في الاستثمار، لكنه استثمار غير مستدام وغير مجدٍ من الناحية الاقتصادية.

وفي كلتا الحالتين الأميركية والصينية يجب أن تزداد أعباء الديون حتى يمكن التكيف مع عواقب التشوه في توزيع الدخول على الإنفاق الاستهلاكي المحلي.


مقالات ذات صلة

قبل ولاية ترمب... بايدن يحظر التنقيب عن النفط والغاز في مناطق شاسعة

الاقتصاد قارب صغير أمام منصة النفط والغاز البحرية «إستير» بالمحيط الهادئ في كاليفورنيا (أ.ف.ب)

قبل ولاية ترمب... بايدن يحظر التنقيب عن النفط والغاز في مناطق شاسعة

سيحظر الرئيس الأميركي جو بايدن تطوير النفط والغاز البحري الجديد على طول معظم السواحل الأميركية، وهو قرار قد يجد الرئيس المنتخب دونالد ترمب صعوبة في التراجع عنه.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد روبوتات مستقلة تقوم بتجميع سيارة «إس يو في» بمصنع «بي إم دبليو» في ساوث كارولاينا (رويترز)

انتعاش قطاع التصنيع الأميركي في ديسمبر رغم تحديات الأسعار

اقترب قطاع التصنيع في الولايات المتحدة من التعافي في ديسمبر؛ إذ شهد انتعاشاً في الإنتاج وزيادة في الطلبات الجديدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد بورصة نيويورك في المنطقة المالية في مانهاتن (رويترز)

من الرسوم الجمركية إلى التضخم: ما الذي ينتظر الاقتصاد الأميركي في 2025؟

يدخل الاقتصاد الأميركي عام 2025 في حالة مستقرة وجيدة نسبياً؛ حيث شهدت البلاد انخفاضاً ملحوظاً في معدلات التضخم التي كانت قد أثَّرت على القوة الشرائية للمستهلكين

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد بورصة نيويورك خلال أول يوم تداول من العام الجديد في 2 يناير 2025 (أ.ف.ب)

تحديات جديدة تواجه صناديق الاستثمار المتداولة في الولايات المتحدة

تستعد صناديق الاستثمار المتداولة في الولايات المتحدة لمواجهة تحديات جديدة قد تؤثر في استمرار نموها الهائل في عام 2025.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد لافتة خارج بورصة نيويورك تشير إلى تقاطع شارعي وول ستريت وبرود ستريت (أ.ب)

بداية متواضعة للأسواق الأميركية في 2025 مع تفاؤل حذر

بدأت مؤشرات الأسهم الأميركية عام 2025 بتحركات متواضعة الخميس وارتفع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 0.3 % في التعاملات المبكرة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

تباطؤ نمو نشاط الأعمال في بريطانيا مع تسريح الموظفين بأسرع وتيرة منذ 4 سنوات

يمشي الركاب أثناء مرور الحافلات خلال ساعة الذروة الصباحية بالقرب من بنك إنجلترا بالحي المالي في مدينة لندن (رويترز)
يمشي الركاب أثناء مرور الحافلات خلال ساعة الذروة الصباحية بالقرب من بنك إنجلترا بالحي المالي في مدينة لندن (رويترز)
TT

تباطؤ نمو نشاط الأعمال في بريطانيا مع تسريح الموظفين بأسرع وتيرة منذ 4 سنوات

يمشي الركاب أثناء مرور الحافلات خلال ساعة الذروة الصباحية بالقرب من بنك إنجلترا بالحي المالي في مدينة لندن (رويترز)
يمشي الركاب أثناء مرور الحافلات خلال ساعة الذروة الصباحية بالقرب من بنك إنجلترا بالحي المالي في مدينة لندن (رويترز)

شهد نمو نشاط الأعمال في المملكة المتحدة تباطؤاً ملحوظاً في ديسمبر (كانون الأول) 2024، حيث خفض أصحاب العمل أعداد الموظفين بأسرع وتيرة منذ ما يقارب أربع سنوات، وذلك في ظل تدهور معنويات الشركات بعد إعلان موازنة الحكومة.

وانخفضت القراءة النهائية لمؤشر مديري المشتريات المركب من «ستاندرد آند بورز» في المملكة المتحدة إلى 50.4 في ديسمبر، مقارنة بـ50.5 في نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو أدنى مستوى منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ومع ذلك، ظل المؤشر أعلى بقليل من مستوى 50 الذي يفصل بين النمو والانكماش، نزولاً من القراءة الأولية البالغة 50.5، وفق «رويترز».

ويُضاف هذا المسح إلى سلسلة من المؤشرات الاقتصادية الضعيفة التي شهدتها المملكة المتحدة منذ إعلان وزيرة المالية، ريتشل ريفز، لموازنتها في 30 أكتوبر 2024، والتي فرضت زيادات ضريبية كبيرة على الشركات لتمويل الإنفاق العام والاستثمار. وكان الاقتصاد البريطاني قد شهد ركوداً في الأشهر الثلاثة حتى سبتمبر (أيلول) 2024، وفي الوقت نفسه قدّر بنك إنجلترا أن النمو سيظل ثابتاً في الربع الرابع من 2024، وهو التوقع الذي يعززه مؤشر مديري المشتريات الأخير، مع التوقعات بنمو قدره 1.5 في المائة في عام 2025.

وفي هذا السياق، قال تيم مور، مدير الاقتصاد في «ستاندرد آند بورز غلوبال ماركت إنتلجنس»: «استمر تأثير الركود على تفاؤل الأعمال في ديسمبر، مع بقاء توقعات نمو الناتج للعام المقبل عند أدنى مستوى لها في 23 شهراً».

كما أظهرت البيانات أن الشركات خفضت وظائفها بأسرع وتيرة منذ يناير (كانون الثاني) 2021، عندما كانت إجراءات الإغلاق بسبب جائحة «كوفيد - 19» سارية. وذكرت «ستاندرد آند بورز غلوبال» أن الشركات التي خفضت عدد موظفيها في ديسمبر عزت ذلك إلى ارتفاع التكاليف، لا سيما الزيادة المرتقبة في مساهمات التأمين الاجتماعي لأصحاب العمل، التي ستدخل حيز التنفيذ في أبريل (نيسان) 2025 بموجب الموازنة.

وعلى الرغم من الانتقادات الحادة من مجموعات الأعمال بشأن الموازنة، يعتقد كثير من الخبراء الاقتصاديين أن زيادة الإنفاق الحكومي ستعزز الاقتصاد بشكل مؤقت خلال عام 2025. وأضاف مور: «أفاد ما يقرب من واحد من كل أربعة من المشاركين في الاستطلاع بتراجع إجمالي في أرقام الرواتب، وهذه هي أسرع وتيرة لفقدان الوظائف منذ أكثر من 15 عاماً باستثناء الوباء».

كما خفضت «ستاندرد آند بورز» مؤشر مديري المشتريات للخدمات في ديسمبر إلى 51.1 من 51.4، في حين تم تعديل مؤشر مديري المشتريات التصنيعي إلى أدنى مستوى له في 11 شهراً، حيث سجل 47.0 في ديسمبر مقابل 47.3 في القراءة الأولية.

وفي سياق متصل، أظهر مسح تجاري أن ثقة الشركات البريطانية تراجعت إلى أدنى مستوى لها منذ «الموازنة المصغرة» التي قدمتها رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس في سبتمبر 2022، وذلك بعد الزيادات الضريبية الكبيرة غير المتوقعة في موازنة حكومة حزب «العمال» الجديدة.

وأفادت غرف التجارة البريطانية، التي تجري أكبر مسح للقطاع الخاص في المملكة المتحدة، بأن الثقة في المبيعات على مدار الاثني عشر شهراً المقبلة هي الأدنى منذ أواخر 2022. وقالت شيفون هافيلاند، المديرة العامة لغرف التجارة البريطانية: «الانعكاسات المقلقة للموازنة واضحة في بيانات المسح لدينا، حيث تراجعت ثقة الشركات بسبب الضغوط الناجمة عن ارتفاع التكاليف والضرائب».

وفي 30 أكتوبر 2024، أعلنت وزيرة المالية ريتشل ريفز عن زيادات ضريبية بقيمة 40 مليار جنيه إسترليني (50 مليار دولار)، وهو أكبر مبلغ في أي موازنة منذ عام 1993، والجزء الأكبر من هذا المبلغ يأتي من خلال زيادة رسوم الضمان الاجتماعي التي يدفعها أصحاب العمل.

وأشارت غرف التجارة البريطانية إلى أن 55 في المائة من الشركات تخطط لرفع الأسعار مقارنة بـ39 في المائة في الربع السابق، بينما تعتزم 24 في المائة من الشركات تقليص الاستثمارات مقارنة بـ18 في المائة في السابق. ومن المتوقع أن تصدر الغرفة بيانات استطلاع حول توقعات التوظيف في 14 يناير 2025.

وشمل المسح الذي أجرته غرف التجارة البريطانية 4800 شركة، أغلبها يعمل بها أقل من 250 موظفاً، في الفترة من 11 نوفمبر إلى 9 ديسمبر 2024.