أطفال ناجون من التجنيد الحوثي: كانوا يغروننا بالمال والسلاح

ضحايا قُصَّر يعاد تأهيلهم يروون لـ {الشرق الأوسط} تفاصيل أيام عصيبة واجهوها في جبهات القتال

أطفال في {مركز وثاق} الذي يعمل تحت إشراف {مركز الملك سلمان للإغاثة}
أطفال في {مركز وثاق} الذي يعمل تحت إشراف {مركز الملك سلمان للإغاثة}
TT

أطفال ناجون من التجنيد الحوثي: كانوا يغروننا بالمال والسلاح

أطفال في {مركز وثاق} الذي يعمل تحت إشراف {مركز الملك سلمان للإغاثة}
أطفال في {مركز وثاق} الذي يعمل تحت إشراف {مركز الملك سلمان للإغاثة}

وجد الحوثيون في بعض أطفال اليمن أرضاً صالحة لبذر تعاليمهم التي تدعو إلى الإقصاء والقتل، خصوصاً مع انتشار الفقر والجهل في القرى النائية، فعمدوا إلى إغرائهم تارة بالمال وأخرى بالمخدرات، وتمكنوا من تجنيد عدد كبير من الأطفال الذين لم يجدوا ما يحلمون به وسط أزيز النار ودخان المعارك. لم تعد عملية تجنيد الأطفال من ميليشيات الحوثي تسير في الخفاء كما كانت سابقاً، إذ طالب وزير الشباب في حكومة الانقلاب الحوثي حسن زيد، علانية، بإغلاق المدارس لمدة عام وتوجيه الطلبة إلى جبهات القتال.
وقال نجيب السعدي رئيس «مؤسسة وثاق للتوجه المدني» (منظمة يمنية تعمل على تأهيل الأطفال المجندين والمتأثرين بالحرب بتمويل وإشراف مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية) لـ«الشرق الأوسط»: «تم توثيق 2561 حالة تجنيد خلال عام 2017؛ لكن العدد الحقيقي أكبر من هذا بكثير، فالتقديرات تقول إن عدد المجندين الأطفال في صفوف الحوثي أكثر من 12000 طفل».
في «مؤسسة وثاق للتوجه المدني» تحدث أطفال نجوا من جحيم التجنيد الحوثي عن أيام الخوف والعذاب والغدر التي واجهوها في جبهات القتال، وكيف استطاعوا الهرب من الميليشيات التي استغلت الوضع الاقتصادي الصعب لأسرهم، ووعدتهم بمنحهم رواتب لا تتجاوز 50 دولاراً في الشهر؛ إضافة إلى معونات غذائية لأسر الأطفال مقابل أخذ أطفالهم للتجنيد.

خوف من كل شيء
بينما كان عدي (13 عاماً) يقضي وقته بمزرعة في بلدته حبور ظليمة التابعة لمحافظة عمران، مع خمسة من أصدقائه، اقترب منهم شخص، تظاهر بأنه يجري اتصالاً، وفهموا منه أن من يذهب إلى الحوثيين يجد راتباً شهرياً وسلاحاً، فأعجبوا بالفكرة، ووافقوا على الذهاب معه إلى أحد المعسكرات التي بقوا فيها أسبوعاً. كان الفتى خائفاً، وزاد خوفه بعد أن تم نقله إلى الجبهة مع كثير من الأطفال الذين كانوا يحملون الماء والغذاء للمقاتلين، ولم يفد بكاؤهم، وكان كل ما عليهم هو تنفيذ الأوامر فقط.
وقال عدي لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أخاف من كل شيء؛ خصوصاً من المسلحين الكبار. وفي إحدى لحظات الاشتباك أصيب أطفال بجانبي، وكانوا يذهبون لإسعافهم، وسرعان ما يأتون بغيرهم، وبعد أن بقينا على هذه الحال شهراً كاملاً، حظيت بسلاح آلي من المسلحين، ورغم فرحي بذلك فإن خوفي وترقبي بأني سألاقي مصير أقراني ممن أصيبوا أو قتلوا، غلب فرحتي». ولفت إلى أنه لم يكن يشعر بحاجته للنوم؛ بل تظل عيناه مفتوحتين، محتضناً أغراضه وكأنه يتشبث بها. وفي إحدى الليالي سقطت بجانبه قذيفة أصابته بشظايا، كما أصابت زميله النائم بجواره، وبعد إسعافهم إلى المشفى عادوا إلى منازلهم، وفي الطريق باع سلاحه الذي تم إعطاؤه إياه، وتحت ذريعة استعادة السلاح جاءت إلى منزله عناصر من الميليشيات يطلبون منه العودة للقتال أو السلاح.
حاول الطفل التخفي والهروب؛ لكنه لم يستطع، وألقي القبض عليه وأودع السجن أسبوعاً، وبعد محاولات من عمه تم إخراجه على أن يعود إلى الجبهة، إلا أنه لم ينفذ الأمر؛ لأنه لم يعد يملك السلاح، فخاف من العقاب، وعاش أياماً مشرداً في المزارع لا يستطيع العودة إلى منزل أسرته، وبعد ذلك اقتادوا عمه بدلاً عنه إلى السجن، ولم ينج منهم إلا بعد أشهر.
ورغم نجاح عدي في الهرب إلى مدينة مأرب، فإن ماضيه تسبب في شروده الذهني وضعف تحصيله العلمي بدرجة كبيرة. وأكد أن الدورة التأهيلية النفسية والاجتماعية التي خضع لها ساعدته على التخلص من القلق والخوف والأفكار التي اكتسبها في جبهات القتال، وعززت لديه الشعور بالأمان.

إغراء المال والسلاح
استأذن ناصر محمد جشيش، الذي لا يتجاوز سنه 14 عاماً، أباه لقضاء جلسة سمر في بيت أحد جيرانهم بإحدى قرى محافظة عمران؛ لكن الجلسة أدت إلى غيابه أشهراً، بعد أن أغراه جاره بالمال والسلاح، إذ التحق بأحد المشرفين مع الحوثيين، الذي زين له الأمر بأنه سيكون مرافقاً له، ولكن في الأخير انتهى به المطاف إلى كونه حارس أمن ومتدرباً في محكمة المديرية في مديرية بيحان التابعة لمحافظة شبوة. خضع ناصر في صنعاء لدورة لمدة 15 يوماً، وتم تدريبه على استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي كان يحلم بها، ويريد أن يعود بها إلى قريته ليفاخر أقرانه، كثقافة مكتسبة في منطقتهم الريفية.
وفي مغرب أحد أيام شهر رمضان الماضي، كان ناصر في مهمة جلب الماء من إحدى المحال المحاذية للمحكمة، فحدث انفجار جرى بعده مسرعاً، ليشاهد دماء وأشلاء متناثرة عند بوابة المحكمة نتيجة انفجار سيارة مفخخة، قتل فيها 9 ممن يعرفهم، أحدهم كان يمنع ذهابه للجبهات مقاتلاً.
وتحت التهديد كانت انطلاقته الأولى إلى إحدى الجبهات المستعرة، وفيها تعرض لكثير من الانتهاكات، وكان أكثر ما يخشاه الضرب المبرح والتهديد بالقتل. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «في إحدى المرات تم إطلاق النار على قدم زميلي، وبقي ينزف أمامي. كنت أبكي وأتمنى أن أموت أو أني قُتلت مع أصحابي في حادثة التفجير».
وفي إحدى الليالي كانت مهمته تعبئة الذخيرة للمقاتلين، فرفض التحرك، ليتلقى صفعة على وجهه، ونتيجة للخوف من العقاب والسجن وجد نفسه في المعركة، ومن شدة خوفه كان يتأخر في ملء الذخيرة، ما سبب له مزيداً من الصفعات والركلات في سائر جسده الصغير، وفي الصباح عمل أحد أقربائه على إعادته إلى موقعه السابق في المحكمة. واستمر الحال به على ذلك شهراً، حتى قال الانقلابيون له ولزملائه إنهم سيذهبون بهم لحفل تخرجهم من الدورة، وأعطوهم ذخيرة حية وقذائف «آر بي جي»، وطلبوا منهم التقدم إلى موقع معين، وقيل لهم إن ذلك من أجل التصوير، وبعد لحظات من الهجوم بدأ القتلى يتساقطون من حولهم، عرف حينها ناصر بأنه في معركة حقيقية، نجا منها بأعجوبة بعد أن انسحب ليصل إلى مبنى المحكمة. وعندما طلب منه مقاتل من محافظة أخرى أن يرافق جثة قتيل إلى صنعاء، وجد ناصر فرصته للهرب من جحيم الحرب والمعاناة.
وصل إلى المستشفى العسكري في العاصمة، لتصل مجموعة من قريته عملت على نقل القتيل إلى مسقط رأسه، سافر معهم ناصر إلى قريته، قام والده بعد ذلك بتهريبه إلى مأرب للالتحاق بأخيه الأكبر. حين بلغ القرية كان معقداً من كل شيء، حتى المدرسة التي رفض مجرد التفكير فيها، وكان يقول إنه لا يريد الاستمرار في الحياة؛ لكن الحال تبدلت الآن؛ إذ وصل ناصر إلى مركز التأهيل النفسي والاجتماعي، وفي «مؤسسة وثاق» شعر بأن نفسه عادت إليه، وأصبح يفكر في العودة للمدرسة على حد قوله.

تفجير مساجد ونهب ممتلكات
انضم صادق مبكراً إلى الحوثيين، وهو في سن العاشرة، نتيجة الإغراء بالمال، والتحق بدورات في مدينة صعدة، وفي أماكن نائية بعيدة عن العمران، وما زال يحفظ كثيراً من تفاصيلها التي تحث على الكراهية والقتل، والإيمان بفكر الرأي الواحد. ترك صادق التعليم مبكراً (في الصف الثالث الابتدائي)، وأصبح مدمناً لنبتة القات، والتدخين، وأيضاً تعاطي الشمة، وهو نوع من التبغ.
بدايته المبكرة مع الحوثيين أثرت على حياته وحياة أسرته، تم استخدامه مع آخرين في تنفيذ مهام كثيرة، منها تفجير جوامع، ونهب ممتلكات، وشارك في كثير من الحروب التي خاضتها جماعة الحوثيين، بدءاً من عمران، والاستيلاء عليها بعد أن تم قتل القيادي في الجيش اليمني العميد حميد القشيبي. وأشار صادق إلى أنه كان ينتشي حين يفعل ذلك مع الجموع، ولا يدري هل هو إيمان بأفكارهم، أم كان بلا شعور؛ لأنه يتم إعطاؤهم أنواعاً مختلفة من الحبوب والأدوية التي تخرجهم عن شعورهم، وتجعلهم ينسون كل شيء، لا يفكرون إلا بالجبهات وخدمة قياداتهم.
كان يحفر الخنادق الطويلة مع مجموعة من الأطفال، خصوصاً في محافظة الجوف، التي جاء إليها مع الجماعة المسلحة، وبعد أن عاد إلى قريته لأيام، لم يجد أباه في البيت، لأنه كان انتقل إلى مدينة مأرب، في صفوف الحكومة الشرعية. ويقول صادق لـ«الشرق الأوسط»: «كنت متحمساً لأفكار الحوثيين، غضبت من ذهاب أبي الذي أطلقوا عليه لقب (الداعشي)، وهو المصطلح الذي يطلقه الحوثيون على كل من يخالفهم أو يقاتلهم».
وزادت حماسة الطفل مع الجماعة المسلحة، فاتصل بوالده مكيلاً له السباب. يعترف الآن بأنه يخجل حين يتذكر ذلك؛ لكنه كان بغير وعي، ولا يدرك تصرفاته، ويزداد خجله حينها لردود أبيه الحنونة وأنه خائف عليه، وعلى بقية إخوته، لذا لا بد أن يلتحقوا به. ومع الوقت تبين لصادق أن الحوثيين مجرمون، على حد قوله، فقرر الابتعاد عنهم، وحين سمع والده بمركز إعادة تأهيل الأطفال المجندين والمتأثرين بالحرب في اليمن، عمل جاهداً على إلحاقه به، وإخضاعه لدورة تأهيلية نفسية واجتماعية.


مقالات ذات صلة

الحكومة اليمنية ترحب ببيان السعودية إزاء التطورات الأخيرة في حضرموت والمهرة

الخليج منظر عام للعاصمة اليمنية المؤقتة عدن (رويترز)

الحكومة اليمنية ترحب ببيان السعودية إزاء التطورات الأخيرة في حضرموت والمهرة

رحّبت الحكومة اليمنية بالبيان الصادر، الخميس، عن وزارة الخارجية السعودية، وما تضمّنه من موقف إزاء التطورات الأخيرة في محافظتي حضرموت والمهرة.

«الشرق الأوسط» (عدن)
الخليج السعودية تحث «الانتقالي» اليمني على الانسحاب من حضرموت والمهرة «بشكل عاجل»

السعودية تحث «الانتقالي» اليمني على الانسحاب من حضرموت والمهرة «بشكل عاجل»

شددت الخارجية على أن «الجهود لا تزال متواصلة لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه»، معربة عن أمل المملكة في تغليب المصلحة العامة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج جانب من المشاركين في مشاورات مسقط بشأن المحتجزين والأسرى اليمنيين (إكس)

السعودية تُرحب بـ«اتفاق مسقط» لتبادل الأسرى والمحتجزين في اليمن

رحبت السعودية بالاتفاق الذي وُقّع عليه في مسقط لتبادل الأسرى والمحتجزين في اليمن، وعدته خطوةً مهمةً تُسهم في تخفيف المعاناة الإنسانية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج أسرى يلوِّحون بأيديهم لدى وصولهم إلى مطار صنعاء في عملية تبادل سابقة (أرشيفية- رويترز)

أطراف النزاع في اليمن يتفقون على تبادل 2900 محتجز

أكد مكتب المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، أن أطراف النزاع في اليمن اختتمت، الثلاثاء، اجتماعاً استمر 11 يوماً في سلطنة عمان.

«الشرق الأوسط» (مسقط)
العالم العربي الجماعة الحوثية أظهرت تحدياً لمختلف القوى الدولية رغم ما تعرضت له من هجمات (أ.ب)

عقوبات قاصرة... الحوثيون يُعيدون رسم خريطة التهديد

رغم تجديد العقوبات الدولية عليهم، يُعزز الحوثيون قدراتهم العسكرية ويحولون التهديد المحلي إلى خطر إقليمي على الملاحة والأمن الدوليين مع تحالفاتهم العابرة للحدود.

وضاح الجليل (عدن)

الحوثي: أي وجود إسرائيلي في أرض الصومال يُعتبر «هدفاً عسكرياً»

عناصر حوثيون يستمعون إلى زعيمهم عبد الملك الحوثي بقاعة في صنعاء عبر البث التلفزيوني (أ.ف.ب)
عناصر حوثيون يستمعون إلى زعيمهم عبد الملك الحوثي بقاعة في صنعاء عبر البث التلفزيوني (أ.ف.ب)
TT

الحوثي: أي وجود إسرائيلي في أرض الصومال يُعتبر «هدفاً عسكرياً»

عناصر حوثيون يستمعون إلى زعيمهم عبد الملك الحوثي بقاعة في صنعاء عبر البث التلفزيوني (أ.ف.ب)
عناصر حوثيون يستمعون إلى زعيمهم عبد الملك الحوثي بقاعة في صنعاء عبر البث التلفزيوني (أ.ف.ب)

حذّر زعيم جماعة «الحوثي» عبد الملك الحوثي، يوم الأحد، من أن أي وجود إسرائيلي في أرض الصومال سيكون «هدفاً عسكرياً»، في آخر إدانة للتحرّك الإسرائيلي للاعتراف بالإقليم الانفصالي.

وقال الحوثي، في بيان، إن جماعته تعتبر «أي وجود إسرائيلي في إقليم أرض الصومال هدفا عسكرياً لقواتنا المسلحة، باعتباره عدواناً على الصومال وعلى اليمن، وتهديداً لأمن المنطقة»، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية.

واعترفت إسرائيل، الجمعة، رسمياً، بـ«أرض الصومال» دولة مستقلة، في قرار لم يسبقها إليه أحد منذ إعلان الأخيرة انفصالها عن الصومال عام 1991.

وتقع أرض الصومال التي تبلغ مساحتها 175 ألف كيلومتر مربع، في الطرف الشمالي الغربي من الصومال. وأعلنت استقلالها من جانب واحد، في عام 1991، بينما كانت جمهورية الصومال تتخبّط في الفوضى عقب سقوط النظام العسكري للحاكم سياد بري. ولأرض الصومال عملتها الخاصة وجيشها وجهاز شرطة تابع لها.


«الانتقالي» على حافة الاختبار... هل يحفظ مكاسبه أو يتهيأ للاصطدام الكبير؟

مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)
مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)
TT

«الانتقالي» على حافة الاختبار... هل يحفظ مكاسبه أو يتهيأ للاصطدام الكبير؟

مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)
مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)

تشهد المناطق الشرقية من اليمن، وتحديداً في حضرموت، مرحلة حساسة من إعادة ضبط التوازنات داخل معسكر «الشرعية»، على وقع التصعيد العسكري الأحادي الذي نفذه المجلس الانتقالي الجنوبي، وما يقابله من رفض إقليمي ودولي؛ إذ قال مراقبون إنه لا يمكن السماح بفرض أمر واقع عن طريق القوة المسلحة مهما كانت المزاعم أو المبررات.

وبحسب المراقبين، فإن ما يجري ليس تفصيلاً محلياً عابراً، يمكن التغاضي عنه سواء من قبل «الشرعية» اليمنية أو من قبل الداعمين لها، بل اختبار سياسي وأمني متعدد الأبعاد، تتقاطع فيه حسابات الداخل الجنوبي نفسه، ومسار الحرب مع الحوثيين، وخيارات السلام الإقليمي.

وحتى الآن، يظهر سلوك المجلس الانتقالي أقرب إلى المناورة تحت الضغط منه إلى التحدي المباشر. فاللغة المستخدمة في بياناته الأخيرة - التي تمزج بين التبرير السياسي والتحركات العسكرية، وبين الحديث عن «التنسيق» و«تفهّم الهواجس» - تعكس إدراكاً متزايداً بأن مساحة المناورة تضيق بسرعة. لكن لا بد من التقاط القرار الصائب.

كما يشار إلى أن تحذيرات السعودية التي تقود «تحالف دعم الشرعية» في اليمن لم تكن عابرة أو قابلة للتأويل، بل جاءت متزامنة ومتدرجة، وانتقلت من مستوى التنبيه السياسي إلى الردع التحذيري الميداني من خلال ضربة جوية في حضرموت.

عناصر من المجلس الانتقالي الجنوبي يرفعون صورة زعيمهم عيدروس الزبيدي (إ.ب.أ)

هذا التحول في اللهجة يعني عملياً أن هناك قراراً واضحاً بمنع انتقال حضرموت والمهرة إلى مسرح صراع داخلي، أو إلى ساحة لفرض مشاريع جزئية بالقوة.

وربما يدرك المجلس الانتقالي وناصحوه معاً، أن تجاهل هذه الرسائل يضعه في مواجهة مباشرة مع الطرف الإقليمي الأثقل وزناً في الملف اليمني، وهو السعودية قائدة «تحالف دعم الشرعية»، وهو صدام لا يملك المجلس أدوات تحمّله، لا سياسياً ولا عسكرياً.

لذلك، يُنصح «الانتقالي» من قبل مراقبين للشأن اليمني بأن يتعامل مع التحذيرات بجدية، وعدم الركون إلى تكتيك الإبطاء، هذا إذا كان يبحث عن مخارج تحفظ له الحد الأدنى من المكاسب التي راكمها خلال السنوات الماضية، وإلا فلن يكون أمامه سوى الانصياع المتوقع بالقوة، وهو إن حدث سيعني لأنصاره هزيمة مدوية لا يمكن استيعابها.

ورطة غير محسوبة

وفق مراقبين للشأن اليمني، فقد أوقع «الانتقالي» نفسه في ورطة غير محسوبة؛ إذ جرى تسويق التحركات الأخيرة بوصفها «حماية للقضية الجنوبية» و«استجابة لمطالب شعبية»، ولقطع طرق التهريب وإمدادات الحوثيين ومحاربة التنظيمات الإرهابية، وفق زعمه، إلا أن الأوان لم يفت كما بينته الرسالة السعودية بوضوح عبر وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان؛ إذ بالإمكان الخروج من الورطة بأقل الخسائر، من خلال مغادرة قواته الوافدة إلى حضرموت والمهرة بشكل عاجل.

من ناحية ثانية، تشير المعطيات إلى أن المجلس الانتقالي لا يملك القدرة على تثبيت وجوده في حضرموت والمهرة، في ظل مجموعة عوامل ضاغطة، أبرزها وجود رفض محلي واسع، بخاصة في حضرموت، حيث تتمتع المكونات الاجتماعية والقبلية بحساسية عالية تجاه أي وجود مسلح وافد.

عناصر من قوات المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن (إ.ب.أ)

إلى جانب ذلك، يفتقد المجلس - الذي يهيمن على قراره قيادات من مناطق بعينها - غياب الغطاء الإقليمي الذي يشكل شرطاً أساسياً لأي تغيير أمني في مناطق حساسة، وكذا في ظل موقف دولي واضح يرفض أي تغيير للواقع بالقوة، ويؤكد دعم وحدة المؤسسات الرسمية.

لذلك، يبدو السيناريو الأفضل والأسهل - كما يقترحه محللون - هو انسحاب منظم، تحت أسماء فنية مثل «إعادة انتشار»، أو «ترتيبات أمنية»، أو بأي طريقة تسمح للمجلس بالخروج من المأزق بأقل الخسائر السياسية الممكنة.

أما إذا قرر المجلس الانتقالي تجاهل الإشارات والاستمرار في التصعيد، فإن تكلفة ذلك - طبقاً للمراقبين - ستكون مرتفعة ومتعددة المستويات؛ فعلى المستوى السياسي سيخسر المجلس ما تبقى من صورة الشراكة في السلطة الشرعية، وسيتحول تدريجياً - في الخطاب الإقليمي والدولي - من فاعل سياسي ضمن «مجلس القيادة الرئاسي» والحكومة اليمنية إلى عنصر مُعطِّل للاستقرار، وقد يصل الأمر إلى فرض عقوبات دولية على قادته.

أما عسكرياً، فالرسالة السعودية واضحة بعد بيان «تحالف دعم الشرعية»؛ إذ لن يُسمح بفرض أمر واقع بالقوة في شرق اليمن، وأي تصعيد إضافي قد يُقابل بردع مباشر، ما يعني خسائر ميدانية مؤسفة لا يملك المجلس القدرة على تعويضها أو تبريرها.

وعلى المستوى الشعبي، فإن حضرموت والمهرة ليستا بيئة حاضنة للمجلس الانتقالي، واستمرار التصعيد سيُعمّق الهوة بينه وبين قطاعات واسعة من الجنوبيين، ويحوّل القضية الجنوبية من مظلة جامعة إلى مشروع انقسامي، بل إن أخطر الخسائر - كما يقرأها المحللون - تكمن في تشويه جوهر القضية الجنوبية، عبر ربطها بالعسكرة والانتهاكات وفرض الوقائع بالقوة، بدل ترسيخها كقضية سياسية عادلة قابلة للحل ضمن مسار تفاوضي، كما هو الأمر في الطرح الذي تتبناه القوى اليمنية المنضوية تحت «الشرعية»، والذي تدعمه السعودية.

عبء الانتهاكات

من جانب آخر، تمثل الانتهاكات الموثقة في حضرموت نقطة تحوّل خطرة في مسار التصعيد. فعمليات المداهمة، والاعتقالات التعسفية، والإخفاء القسري، وفرض الحصار على مناطق مأهولة... لا تُقرأ فقط كإجراءات أمنية، بل كنمط قمعي ممنهج، يضع المجلس الانتقالي في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي الإنساني.

وبحسب تقارير حقوقية موثوقة، شملت الانتهاكات في الأيام الأخيرة اقتحام منازل مدنيين، واحتجازاً تعسفياً، وإخفاء قسرياً، وحصاراً عسكرياً لمناطق قبائل «الحموم»، ومنع تنقل المرضى، ونهب ممتلكات عامة وخاصة... وهذه الممارسات لا تُضعف موقف المجلس أخلاقياً فحسب، بل تُحوّل ملفه إلى عبء قانوني وسياسي قابل للاستخدام دولياً، وتفتح الباب أمام مساءلة مستقبلية قد لا تسقط بالتقادم.

المجلس الانتقالي الجنوبي صعّد عسكرياً في حضرموت والمهرة بشكل أحادي (إ.ب.أ)

من كل ذلك، يمكن القول إن ما يجري اليوم هو اختبار نضج سياسي للمجلس الانتقالي الجنوبي، فإما أن يلتقط الرسالة الواضحة محلياً وسعودياً ودولياً، ويعود إلى المسار السياسي، ويحدّ من الخسائر، وإما أن يواصل التصعيد، ويدفع أثماناً سياسية وعسكرية وقانونية قد يصعب تعويضها، وفق تقديرات المراقبين.

وطبقاً لتقديرات المرحلة وما يراه المشفقون على مستقبل المجلس الانتقالي الجنوبي، فإن اللحظة الراهنة لا تحتمل المغامرة، ومن يخطئ قراءتها سيدفع الثمن وحده.


الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» يُوسع أهداف «الشباب»... فهل تتعاون مع مقديشو؟

عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)
عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)
TT

الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» يُوسع أهداف «الشباب»... فهل تتعاون مع مقديشو؟

عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)
عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)

وسع الاعتراف الإسرائيلي بـ«جمهورية أرض الصومال» من أهداف حركة «الشباب» الإرهابية، بإعلان استعدادها لـ«حرب تل أبيب في هرجيسكا»، وسط تساؤلات حول إمكانية تعاون الحركة مع حكومة مقديشو في المستقبل.

وأكد خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» أن «خطوة إسرائيل سوف تعطي ذرائع لـ(الشباب) عبر إعادة النشاط واكتساب بيئة حاضنة ومتطوعين جُدد». لكن الخبراء استبعدوا أي «تعاون بين الحركة الإرهابية والحكومة الصومالية».

ويكثف الجيش الصومالي منذ أكثر من عام عملياته العسكرية ضد عناصر «الشباب»، ونجح خلال الأشهر الأخيرة في استعادة السيطرة على مناطق عدة كانت تحت سيطرة الحركة، خصوصاً في وسط البلاد... وتؤكد وزارة الدفاع الصومالية أن «العمليات ضد الإرهابيين سوف تستمر حتى يتم القضاء عليهم بشكل كامل في جميع محافظات البلاد».

الخبير العسكري، رئيس «المؤسسة العربية للتنمية والدراسات الاستراتيجية»، العميد سمير راغب، يرى أن الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» سوف يوسع أهداف حركة «الشباب»؛ ورغم أن هذه التنظيمات لا تضع إسرائيل هدفاً أول؛ لكن فكرة وجود إسرائيلي حتى عبر «اعتراف» أو تجارة تكون جاذبة لمثل هذه التنظيمات، من أجل اكتساب بيئة حاضنة، ومتطوعين جٌدد، لذا فالحركة تعلن توسيع النشاط ضد إسرائيل.

وأضاف أن حركة «الشباب» موجودة في إقليم «بونتلاند» الملاصق لـ«صوماليلاند» وموجودة في جنوب الصومال بكثافة، وفكرة الانتقال إلى «أرض الصومال» قد تبدو محتملة في ظل وجود سيولة حدودية، فمن الممكن أن تنتقل عناصر الحركة. ولم يستبعد راغب أن «تمنح هذه التطورات فرصة للحركة للتنقل عبر دول أخرى من خلال توسيع العمليات، لأنها فرصة لها».

تصاعد الدخان بالقرب من مجمع قصر الرئاسة بالصومال عقب انفجارات في مقديشو يوم 4 أكتوبر الماضي (رويترز)

الجانب الدعائي

خبير الأمن الإقليمي، رئيس مركز «السلام للدراسات الاستراتيجية»، الدكتور أكرم حسام، قال إن «الاعتراف الإسرائيلي سوف يعطى ذرائع أو حجج لـ(الشباب) التي تواجه في الفترة الأخيرة ضغوطاً كبيرة، خصوصاً من قِبَل القوات الدولية التي تم تشكيلها لمواجهة الحركة». وشرح: «بالفعل الحركة تعرضت لتقويض كبير لدورها خلال الفترة الأخيرة، وانحصرت عملياتها في نطاقات محدودة خلال العامين الماضيين»، لافتاً إلى أن «خطوة إسرائيل سوف تدفع الحركة لإعادة تنشيط دورها في منطقة القرن الأفريقي».

ملمح آخر تحدث عنه حسام بأن «اعتراف إسرائيل بـ(أرض الصومال) سوف يعطي مساحة للحركة في الجانب الدعائي الخاص بمسألة التجنيد، ولمّ الصفوف مرة أخرى، وتوحيد الجهود ووضع أهداف جديدة تبدو براقة لبعض العناصر المتطرفة المتمركزة في منطقة القرن الأفريقي أو القريبة منها».

وفي تقدير حسام فإن «تهديد الحركة بإعلان استعدادها لـ(الحرب) ضد إسرائيل في الإقليم الانفصالي (أرض الصومال) قد يواجه صعوبة كبيرة لتنفيذ هذه التهديدات»، لكن سيبقى الأثر في الجانب الدعائي فقط والسياسي والبحث عن أنصار وداعمين جدد».

وتعهّدت «الشباب» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» بمواجهة أي محاولة من جانب إسرائيل «للمطالبة بأجزاء من أرض الصومال أو استخدامها»، وقالت في إفادة، السبت، «لن نقبل بذلك، وسنحاربه». وحسب «الشباب» فإن اعتراف إسرائيل بـ«جمهورية أرض الصومال» أظهر أنّها «قررت التوسع إلى أجزاء من الأراضي الصومالية».

ضباط شرطة صوماليون يسيرون على طول حاجز وسط الطريق خلال دوريتهم بمقديشو في نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

تعاون مستبعد

حول التعاون المستقبلي بين حكومة مقديشو و«الشباب». استبعد راغب أن «يحدث أي تعاون بشكل صريح بين الحركة ودولة الصومال، لأنه لو حدث فإن ذلك يدين الصومال، ولن تخرج مقديشو إطلاقاً وتعلن أنها تتعاون مع الحركة»؛ لكنه لم يستبعد أن يكون هناك عمل سري صومالي عبر خلايا تعمل داخل إقليم «أرض الصومال» ترفع شعارات حركة «الشباب» أو تنظيم «داعش» أو أي تنظيم آخر.

أيضاً حسام استبعد هذا الخيار بكل الأحوال، بقوله: «لن يكون هناك تعاون بين حركة إرهابية والحكومة الشرعية في الصومال»، لأننا هنا نتحدث عن مسار دولة تعمل من أجل التصدي للإجراء الإسرائيلي في «أرض الصومال». ويرى أن «تركيز الحكومة الصومالية حالياً وفي المستقبل سوف ينصب على الجهد الدبلوماسي لعدم توافر إمكانات أخرى لمواجهة هذا الأمر».

وقال حتى فيما يتعلق بمسألة «الخيارات الصلبة أو العنيفة» التي يمكن أن يتخذها الصومال تجاه «الإقليم الانفصالي» غير المعترف به، هذا أمر مستبعد، نتيجة للتحالفات الحالية التي تحظى بها «أرض الصومال» مع عديد من الدول والأطراف الداعمة، ولا ننسى الآن أن إسرائيل موجودة على الخط، وهناك محاولات لجر أميركا للوجود في «أرض الصومال» من خلال منح بعض القواعد العسكرية كما تم الحديث عنه من قبل، وحديث الرئيس الأميركي دونالد ترمب، «لم يقطع بأنه لن يعترف بـ(أرض الصومال)، وأبقى المجال مفتوحاً للاعتراف مستقبلاً».

ويشار إلى أن الوضع الأمني في الصومال قد تدهور بشكل ملحوظ عام 2025. وأعلنت «الشباب» في مارس (آذار) الماضي مسؤوليتها عن انفجار قنبلة كادت أن تصيب الموكب الرئاسي. ومطلع أبريل (نيسان) الماضي أطلقت قذائف سقطت قرب مطار مقديشو. كما استهدف هجوم انتحاري في يوليو (تموز) الماضي أكاديمية عسكرية تقع جنوب العاصمة الصومالية.

وبداية أغسطس (آب) الماضي، شنت بعثة الدعم وإرساء الاستقرار التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال «هجوماً كبيراً» لاستعادة السيطرة على مدينة باريري في منطقة باس شابيل التي تبعد مائة كيلومتر غرب العاصمة الصومالية. وكانت باريري تضم قاعدة عسكرية كبيرة، وسقطت في أيدي «الشباب» من دون معارك في مارس الماضي، بعد انسحاب الجيش منها، وذلك إثر تدمير عناصر الحركة جسراً حيوياً لإيصال الإمدادات العسكرية.

شاب يحمل علم «أرض الصومال» أمام النصب التذكاري لـ«حرب هرجيسا» (أ.ف.ب)

مستقبل «الشباب»

عن مستقبل نشاط «الشباب». أكد سمير راغب أن «الحركة سوف تستمر في نشاطها، لأن الفكرة القائمة عليها الحركة أن تُحدث فوضى وتأثيرات في أي نظام سياسي تؤدي إلى ضعفه أو سقوطه، لأنها تريد أن تحكم»، وبالتالي «هي لن ترفع راية الوطنية بالحديث عن محاربة إسرائيل، لكن لديها فكرة دائمة في البحث عن (ضوء) فيُمكن أن تخفف في منطقة وتزيد في منطقة أخرى.

وحسب أكرم حسام فإنه «لا داع للربط بين مستقبل نشاط الحركة واعتراف إسرائيل بـ(أرض الصومال)، لأن الحركة لها دعائم للبقاء خلال الفترة الحالية والمستقبلية». وتابع: «كل طموحات الحركة تتركز حالياً في دولة الصومال، ولديها حواضن محلية قائمة على العشائر أو القبائل، ولديها مصادر تمويل تستطيع من خلالها ضمان القدرات المالية، والدليل على ذلك أنه رغم الحملة الدولية على (الشباب)»؛ فإن الحركة «تستطيع التعايش مع هذا الضغط من خلال الاحتماء بهذه الحواضن العشائرية».

وأفاد تقرير لـ«وكالة الأنباء الصومالية» (صونا) في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بأن «الفرقة الـ43 للجيش الوطني وقوات الكوماندوز الخاصة نفذت عمليات عسكرية مخططة في البلدات التابعة لمنطقة جمامي بمحافظة جوبا السفلى». وطبقاً للوكالة «تكبدت عناصر الحركة حينها خسائر فادحة جرّاء العمليات العسكرية الجارية؛ حيث تم طردها من تلك المناطق التي كانت تتحصن فيها». وذكرت «الوكالة» أن «العمليات العسكرية البرية ترافقت مع غارات جوية شنّها الجيش الوطني، وأسفرت عن تدمير أوكار الإرهابيين».