قلما سمع اللبنانيون صرخة من القلب كتلك التي صدرت عن الرئيس الفرنسي في كلمته الافتتاحية صباح أمس، لاجتماع «مجموعة الدعم الدولية» للبنان في مقر وزارة الخارجية الفرنسية. إيمانويل ماكرون الذي كان أول من دعا للاجتماع، ولعب الدور الأول في ملف استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وعودته اللاحقة عنها، لم يبخل بالثناء على لبنان: لبنان بالنسبة إليه هو «البلد - النموذج للتعددية واحترام الأقليات وتعايش الأديان». كما أنه «ليس فقط صديقاً لفرنسا بل إنه بلد تقرر فيه التوازنات الإقليمية».
لذا، فإن الأسرة الدولية «ستكون جاهزة للوقوف إلى جانب لبنان في الاستحقاقات الدولية القادمة» لأنه يحمل رسالة السلام والتسامح العالمية، إنه «البلد الرمز، الشقيق والبلد الاستراتيجي الذي نرفع راية الدفاع عنه». وحض ماكرون اللبنانيين على الاستمرار في تجسيد «النظام الديمقراطي والتعايش والتسامح لأنه ضروري للمنطقة».
من الناحية السياسية، أكد الرئيس الفرنسي أن «استقرار لبنان ليس مهماً فقط للبنان، بل هو مهم لكافة المنطقة التي تهزها النزاعات العديدة، ولذا فإن حماية لبنان من أزماتها تتطلب أن يحترم الفرقاء اللبنانيون واللاعبون الإقليميون المبدأ الهام جداً، وهو النأي وعدم التدخل». وفي إشارة واضحة لحزب الله ودوره في نزاعات المنطقة، أكد ماكرون أن «الأحداث الأخيرة أثبتت أن انخراط الميليشيات اللبنانية في المواجهات التي تدمي الشرق الأوسط لا يمكن أن تتواصل من غير تعريض لبنان بكافة مكوناته لأخطارها الجانبية». منذ أول كلمة وحتى آخر خطاب، سيطر مفهوم النأي المزدوج على اجتماع باريس، كما جاء التشديد على تنفيذ مضمون البيان الصادر عن مجلس الوزراء اللبناني أول الأسبوع المنتهي بمثابة لازمة تكررت على كل شفة ولسان. وفي المؤتمر الصحافي الذي أعقب أعمال الاجتماع، سعى الحريري لطمأنة المشككين حول قدرة اللبنانيين على الالتزام بهذا المبدأ الذي أقر قبل خمس سنوات، لكنه بقي حبراً على ورق. وقال الحريري، في غياب ما يمكن اعتباره ضمانات جدية للعمل بهذا المبدأ، إن «الجميع ينتظر تنفيذ قرار النأي وكافة مكونات الحكومة اللبنانية تريد تطبيقه». وأضاف رئيس الوزراء اللبناني أنه يشدد على تطبيق القرار «قولاً وفعلاً لأن مصلحة لبنان تقتضي ذلك ولأن أي خرق سيضع لبنان في دائرة الخطر»، مؤكداً أنه شخصياً «سيكون بالغ الجدية» في متابعة الالتزامات التي اتخذت في هذا الموضوع.
حقيقة الأمر أن الحريري ليس وحده من سيتابع عن قرب تنفيذ الالتزامات. إذ جاء في البيان النهائي الصادر عن الاجتماع أن مجموعة الدعم «ستتابع عن كثب تنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس الوزراء الخاصة بموضوع النأي، والتي أقرتها كافة الأطراف اللبنانية». كذلك دعت «المجموعة» إلى «ضرورة تنفيذ القرارين الدوليين رقم 1559 و1701 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي عام 2004 وعام 2006». كذلك، فإن الرئيس الفرنسي شدد على تمسك باريس بـ«التنفيذ الكامل» لمضمون بيان مجلس الوزراء اللبناني، منبهاً لـ«التهديدات الخطيرة التي تطأ بثقلها على استقرار لبنان، والتي تجعل مساندة الأسرة الدولية القوية والحازمة لا مفر منها». ولمزيد من الوضوح في التعبير، أشار ماكرون، إضافة إلى التزام الأطراف اللبنانية، إلى أن عدم التدخل في نزاعات المنطقة والتمسك بسيادة لبنان ووحدته وسلامة أراضيه يجب أن يحترمها الجميع بدءاً بالقوى الإقليمية». وبرأيه، فإنه «لا يتعين أن يكون لبنان ضحية الخلافات الإقليمية»، منبهاً من التهديدات المترتبة على قرار الرئيس الأميركي بشأن مستقبل القدس لجهة إدخال عامل جديد لزعزعة الاستقرار في المنطقة كلها.
كانت باريس تريد أن يكون اجتماع الأمس، الذي وصف بأنه وزاري، قادراً على اجتذاب أكبر عدد من وزراء الدول التي دعيت «مجموعة الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وإيطاليا وألمانيا ومصر، إضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية....»، بيد أن ريكس تليرسون، وزير الخارجية الأميركي، كان الوحيد الذي حضر، فيما غاب الآخرون، وانتدبوا من يمثلهم. ومثل روسيا والصين سفيراهما في باريس.
وما حصل أن تليرسون استمع إلى الكلمات الافتتاحية، ثم ألقى كلمته، وخرج من قاعة الاجتماعات، ولم يعد إليها، وعقد لقاءً جانبياً مع سعد الحريري الذي وصفته أوساطه بأنه كان «جيداً» دون إعطاء مزيد من التفاصيل. وما تجدر الإشارة إليه، وبحسب مصادر حضرت الاجتماع، فإن تليرسون ومساعد وزير الخارجية البريطاني كانا الوحيدين اللذين طلبا بشكل مباشر نزع سلاح «حزب الله»، وكلاهما وصف هذا السلاح بأنه «غير شرعي». أما الآخرون فقد لمحوا إلى هذا الأمر من خلال الدعوة إلى تطبيق القرارات الدولية التي يتضمن أحدها نزع السلاح المذكور. ويبدو أن التوجه الثاني كانت له الغلبة في تحرير الإعلان النهائي، حيث جاء على ضرورة تطبيق واحترام القرارات الدولية. وأشار تليرسون في كلمته إلى أن واشنطن لم تتوقف أبداً عن دعم الجيش اللبناني الذي «يواجه التهديدات الإرهابية».
وفي البيان الختامي، حث المجتمعون الحكومة اللبنانية على «استعادة المناقشات من أجل التوصل إلى إجماع حول الاستراتيجية الدفاعية» للبنان التي يعتبرها اللبنانيون أساسية من أجل إيجاد مخرج لسلاح حزب الله. وبما أن الجيش اللبناني سيكون عماد هذه الاستراتيجية، و«الورقة الشرعية الوحيدة»، فإن المجتمعين دعوا الأسرة الدولية إلى الاستمرار في تقيد المساعدة والمساندة له، لأن المؤسسات الأمنية اللبنانية هي «أساسية من أجل تثبيت سيادة لبنان ووحدته». في السياق الأمني، جددت «المجموعة» الدعم لقوة اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان، وحثتها على التعاون بشكل أفضل مع القوات المسلحة اللبنانية من أجل «تسريع انتشارها الدائم والفاعل في الجنوب وفي المياه الإقليمية استجابة للقرار 2373 عام 2017». ولم يشر البيان مباشرة إلى إسرائيل أو إلى الشكاوى اللبنانية من اختراقها شبه الدائم للأجواء والمياه اللبنانية. أما الترجمة العملية لدعم الجيش فإنها ستبرز خلال المؤتمر المخصص لدعم القوات المسلحة اللبنانية الذي ستستضيفه العاصمة الإيطالية تحت مسمى «روما 2». ومن المنتظر أن يعقد أوائل العام 2018. وكان ماكرون قد أكد أن الجميع «يريدون تلافي نزاع جديد» بين إسرائيل و«حزب الله» عبر التنفيذ الكامل للقرار 1701.
التحضير للانتخابات
ما الذي كسبه لبنان من الاجتماع؟ إلى جانب ما سبق، فإن لبنان كسب دعماً سياسياً، ليس فقط فيما جاء على لسان ماكرون، وإنما جماعياً في البيان الختامي الذي يؤكد على «تمسك المشاركين باستقرار وأمن وسيادة لبنان ومساندتهم لجهود السلطات اللبنانية لترميم العمل الطبيعي للمؤسسات وتحضير الانتخابات المقبلة وفق المعايير الدولية». وحض البيان «دول ومنظمات المنطقة على العمل من أجل المحافظة على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي للبنان وصون سيادته ووحدة أراضيه». لكن الحريري حصد أيضاً دعماً شخصياً، إذ رحبت «المجموعة» بعودته عن استقالته، واعتبرته «شريكاً أساسياً من أجل المحافظة على وحدة واستقرار لبنان». وبحسب الحريري، فإن دور حكومته بعد إغلاق ملف الاستقالة هو أن «تكرس نفسها لمهمة الحفاظ على أفضل العلاقات مع الدول العربية ومع المجتمع الدولي على أساس احترام القرارات الدولية». وفي هذا السياق، قال الحريري في رد على سؤال صحافي أن «لا أزمة في العلاقات مع المملكة العربية السعودية»، واصفاً إياها بـ«المميزة». والتزم رئيس الوزراء اللبناني «شخصياً» بـ«متابعة العمل لتدعيم مؤسسات الدولة والإصلاح الاقتصادي والتشريعي الذي يدعم دولة القانون، ويضمن مزيداً من الشفافية ومكافحة أفضل للفساد».
إذا كانت الوعود والالتزامات المحسوسة قد غابت عن الاجتماع، فإن مصادر دبلوماسية فرنسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط» اعتبرته «أمراً طبيعياً لأننا لسنا في إطار مؤتمر مانحين بل في إطار مؤتمر سياسي». رغم ذلك، فإن لبنان لم يخرج خالي الوفاض. فالرئيس ماكرون اعتبر أن أحد التحديات التي يواجهها لبنان، إضافة إلى التحدي الأمني، هو التحدي الاقتصادي. من هنا تأتي أهمية التأكيد على التزام باريس ودعم «المجموعة» بعقد مؤتمر «باريس 4» كما وصفه لو دريان في العاصمة الفرنسية في شهر مارس (آذار) المقبل. ويريد لبنان أن يكون مؤتمراً لدعم الاستثمارات والتركيز على البنى التحتية كما شرح ذلك الرئيس الحريري. ويرى ماكرون، كما الحريري والمتدخلين الآخرين، أن هناك حاجة لمساعدة لبنان. ووفق رئيس الوزراء، فإن لبنان «يسدد الفاتورة عن العالم أجمع» في هذه المسألة. ولذا، فإن الاجتماع الذي ستستضيفه بروكسل بداية العام سيركز على لبنان بعد أن ركز سابقاً على تركيا والأردن. ورأى ماكرون أن أزمة النازحين السوريين مستمرة «بسبب غياب الحل السياسي واستدامة النزاع». كما أنه ربط عودتهم إلى سوريا بـ«عملية الانتقال السياسي» وبـ«احترام القوانين الدولية والإنسانية التي تتمسك بها فرنسا». وفي هذا الخصوص، جاء في إعلان باريس أن المجموعة «تذكر بضرورة عودة النازحين عندما تتيح الظروف ذلك، بحيث تكون العودة آمنة، بكرامة وغير إلزامية، وبتسهيل من الأمم المتحدة، ووفق القانون الدولي والمبادئ الإنسانية، بما في ذلك احترام مبدأ الامتناع عن الترحيل». ولكل هذه الأسباب، فإنه من «الضروري» دعم الدولة اللبنانية لمواجهة الأعباء المترتبة عليها بسبب وجود 1.5 مليون نازح سوري على أراضيها. وعمدت باريس مؤخراً إلى تعيين السفير بيار دوكين مسؤولاً عن ملف تنظيم المؤتمر الاقتصادي الموعود للبنان. لكن مصادر دبلوماسية فرنسية أشارت أول من أمس إلى أن السير بهذه الطريق «يفترض حصول الانتخابات وقيام حكومة تتمتع بدعم أكثرية نيابية وبالتزامات واضحة لبنانية ببرنامج اقتصادي له صدقية». وجاء إعلان باريس دافعاً في هذا الاتجاه إذ دعا الحكومة اللبنانية إلى «تسريع العمل» ببرنامج الإصلاحات الاقتصادية، وشدد على «الشفافية» والديمقراطية، في إشارة مغلفة إلى ملف الفساد وتشعباته. ودعا البيان الفاعلين الإقليميين والدوليين والقطاع الخاص إلى دعم لبنان، معتبراً أن مؤتمر الوعود الخاص بدعم الاستثمار سيساعد على إطلاق النمو الاقتصادي، وتوفير فرص عمل وتجديد البنى التحتية.