بات واضحاً الآن أن فيلم «أتوميك بلوند» شكل خيبة أمل بالنسبة لممثلته ومنتجته تشارليز ثيرون. هي كانت قد بنت عليه آمالاً كبيرة منذ أن لفت السيناريو الذي كتبه كيرت جونستاد في مطلع سنة 2012، نظرها.
«وجدت في السيناريو شخصية لم أمثلها من قبل»، كما قالت في حديث منشور وهذه الشخصية كانت شخصية البريطانية الجاسوسة التي أرسلت إلى برلين في الستينات (عز سخونة الحرب الباردة)، للتنقيب عن مقتل عميل بريطاني آخر، ربما كان يعمل لصالح الشرق والغرب معاً، من دون أن يعلم بذلك قسم الاستخبارات البريطانية المعروف بـM16.
الفيلم فيه ما يجذب جمهور اليوم: تشويق سائد من مشهد لآخر ومعارك يدوية ماهرة (كسرت ثيرن سنين من أسنانها الأمامية خلال تأدية أحد المشاهد) ومطاردة سيارات برع المخرج ديفيد ليتش (أول فيلم فعلي له بعد أن 20 فيلم كممثل) والمونتيرة السويدية إليزابث رونالستودير في معالجتها.
على الرغم من ذلك، الجمهور الذي هبّ حماساً لـ«ووندر وومان» قبل أسابيع قليلة، لم يستجب جيداً ولم ينجز الفيلم أميركياً أكثر من 35 مليون دولار حتى الآن. هذا أقل بمئات الملايين ممّا أنجزه فيلم الأكشن السابق لتشارليز ثيرون «ماد ماكس: طريق الغضب» (2015) الذي كان، حسب كلامها أيضاً «تمارين بدنية تمهيدية لهذا الفيلم الجديد». لكن لا ننسى أنّ ميزانية «ماد ماكس» ذاك بلغت 150 مليون دولار، بينما ميزانية «أتوميك بلوند» رست على 30 مليون دولار غير مصاريف الدعاية والإعلان.
أقل من المأمول
لكن «أتوميك بلوند» لم يفسد الأجواء الأنثوية في سينما اليوم تماماً، ولو أنّ سقوطه يشير إلى موجة المرأة في بطولات غير أنثوية، كما كان الحال في «ووندر وومان» و«لوسي» مع سكارلت جوهانسن من قبل، ربما وصلت إلى عِزّها والآن هي في حالة جمود.
يؤكد ذلك الوضع فيلم جديد آخر عنوانه «خطف» من بطولة هالي بيري وإخراج آخر لا تقف وراءه نجاحات سابقة هو لويس بريتو. فيلم هال بيري لا يخلو من المطاردات بدوره، بل قائم بأسره عليها. بيري تطارد السيارة التي خطف راكبها ولدها بسيارتها، وعندما تتعطل تلك تطارد السيارة على قدميها. ستستعيد ابنها، يقول المشاهد في نفسه، لكن كيف.
هذا السؤال لم يجر قدم كثيرين فانزلق الفيلم أول دخوله العروض إلى مراتب متأخرة في العروض. كذلك لم يبث له النقاد قدراً كبيراً من التأييد. أعجب ركس ريد في «ذا نيويورك أوبزرفر» وبيتر دبروج في «فاراياتي» وجوستين لاو في «ذا هوليوود ريبورتر»، ثلثا المقالات التي راجعناها للتأكد من رد فعل النقاد عليه كانت إما متعاطفة على نحو محدود أو غير متعاطفة مطلقاً.
ولا ننسى في هذه الأثناء فشلاً نسائياً آخر ولو على صعيد الإيرادات فقط: فيلم كاثرين بيغلو الممتاز (والطويل في 143 دقيقة) «دترويت»، أنجز أقل من المأمول بكثير وحل في المركز الثامن حين دخل سباق الأفلام بإيراد بلغ 7 ملايين دولار فقط. الفيلم هو فعل شهادة المخرجة حول العنصرية التي تقسم المجتمع الأميركي منذ الأزل إلى قسمين أحدهما من الملوّنين الأفارقة والثاني من البيض. الفريق الأول لديه مؤيدون بيض، وفي الفريق الثاني رجال قانون سود.
«دترويت» لا يبحث عن حل لكنّه بدوره يعود إلى الستينات عندما أجهز رجال الأمن على ثلاثة أبرياء سود بعد غارة بحث عن قناص في فندق صغير في مدينة «دترويت».
إنها حادثة واقعية لكنّ الجمهور أبى أن يشغل وقته بها.
الاختلاف بين هذا الفيلم والأفلام الأخرى التي تندمج في هذه الموجة أنّ بيغل هي من يقف وراء الكاميرا وليس أمامها وأنّ البطولة موزعة على عدد من الرجال، يتقدمهم جون بوييغا، والمرأة في أدوار مساندة وثانوية. لكنّ خيبة الأمل هي ذاتها نظراً لما تحتله بيغلو من مكانة محببة في نفوس كثيرين من أهل السينما ونقادها.
من ناحية أخرى، المرأة المهدِدة في «أتوميك بلوند» و«خطف» تصبح مهدَدة في باقي الأفلام الجديدة التي تنطلق من يوم الجمعة من الأسبوع الحالي وما وراءه.
عائلة مفككة
في «مخلوق أنابل» لديفيد ساندبيرغ، الذي يتبع سلسلة من أفلام الرعب حول الدمية المسكونة بروح شيطانية تزمع قتل كل من في أفلامها، بطلته هي المرأة التي أخفقت في الإنجاب بعد موت طفلتها (ستيفاني سيغمان) فتبنّت عدداً من البنات اليتامى ونقلهم إلى منزل العائلة الكبير. في ذلك المنزل الذي يقع، بطبيعة الحال في منعزل عن باقي جيرانه، هناك غرفة موصدة وفيها دمية لفتاة كانت قادرة على الحركة ذات مرّة. إحداهن تفتح الباب والدمية تعاود القتل المباح.
بعد فشل «المخدوعات» لصوفيا كوبولا المبني على عدد من الإناث في الأدوار الرئيسية، فإن «مخلوق أنابل» لا يعد بالكثير، خصوصاً وأنه يقوم على توليفة معهودة لا مكان فيها لاستكشاف جديد. لكن إذا ما نجح على نحو ملحوظ (وهو احتمال ضئيل) فإن ذلك سيعود إلى خلو الأسبوع من أفلام رعب تلبي حاجة الراغبين في هذا النوع.
أفضل منه، كموضوع على الأقل، «الحصن الزجاجي» (The Glass Castle) للمخرج دستِن دانيال كريتن المقتبس عن رواية بيوغرافية وضعتها جانيت وولز سنة 2007، وتم شراء حقوقها في مطلع 2012 وبوشر بتصوير الفيلم في مطلع يونيو (حزيران) سنة 2015. خلال هذه الفترة عرضت شركة ليونزغايت المنتجة الدور على جنيفر لورنس، من بين أخريات، وهذه قبلت أولاً ثم اعتذرت عن عدم القيام بالدور بعد تأخر التصوير. انتقل العرض إلى بري لارسن (التي فازت بأوسكار أفضل تمثيل نسائي عن «غرفة» قبل عامين)، وهذه هي الممثلة التي تضطلع بالبطولة الآن.
العائلة كبيرة هنا أيضاً (زوج وزوجته وأربع بنات)، لكن لا رعب هنا بل سرد لوضع اجتماعي يحاول إيقاف سقفه من الانهيار. الأم (ناوومي ووتس) كانت مشروعاً واعداً لفنانة قبل أن تصاب بإحباط شديد والأب (وودي هارلسون بشعر رأس هذه المرّة) يشرب وأن لا يغيب عن وعيه أنّه أراد ذات يوم أن يكون الأب الصالح الذي يبعث بناته على تجاوز الفقر الذي تعيشه العائلة. كلاهما (الأم والأب) محبطان وعلى جانيت (لارسن) أن تخترق هذا الوضع لتبرهن أنّها تستطيع أن تقوى عليه عوضا أن تسقط تحت براثنه.
على ذلك، الفيلم يعمد إلى «فلاش باك» طويل من مطلعه لكي تسرد لارسن، من دون تعليق، خلفيتها الاجتماعية حين كانت لا تزال في مطلع شبابها. هذا المنوال مطروق مئات المرّات ولا يتبنى هنا جديداً يضيفه. الحكاية ذاتها ليست ذات مصدر مهم لا من حيث الواقع ولا من حيث أحداثها. يتناهى على أثير مفتعل من الأحداث حتى وإن لم يكن كذلك في المادة الأصلية.
رمز البراءة
في موازاة هذه الأفلام الحية (وغير المشبعة) هناك ثلاثة أفلام كرتونية تتقدمها شخصيات أنثوية:
«وثبة» وهو إنتاج فرنسي / كندي اشترته شركة واينستين المعروفة ويعزف على ألحان السعادة بعد الشقاء. بطلته تحب رقص الباليه وتتحدّى بذلك ابنة صاحبة المعهد لكن كليهما سيحققان الفوز في النهائي وعلى ألحان أغنية من تلك التي تتوقعها من أسطوانات ديزني.
الثاني، وهو الأفضل، فانتازي في عالم خيالي يقف على حافة الدنيا ويتواصل مع القمر وعنوانه «مون: حارسة القمر» (Mune: Guardian of the Moon): هي أقرب إلى حورية تعيش في الغابة (وليس في الماء) وتصبح حارسة القمر بالصدفة. الشرير في الفيلم يحاول استغلالها لكي يصبح حارس الشمس، الكوكب الأقوى.
الفيلم الثالث هو «في ذلك الركن من العالم»، وفيه ذلك النوع الياباني الخالص من الخيال المرسوم. لسنوات طويلة ابتدع الفنانون اليابانيون رسوماً تحمل الخيال وثراء اللون واختلاف المضامين وتحاكي عالماً لم تتقنه أفلام الأنيميشن الأميركية. «في هذا الركن من العالم» لسوناو كاتابوشي تأكيد على أنّ لا هوليوود ولا السينما الفرنسية (تضخ حالياً أفلام أنيميشن أكثر ممّا فعلت في أي من العقود السابقة) والأوروبية الأخرى، تستطيع أن تجاريها في تلك العناصر ورقة المعالجة البصرية وعمق المضمون في الوقت ذاته.
بطلته فتاة صغيرة تهوى الرسم وتعيش في قرية تستطيع منها رؤية مدينة هيروشيما. الأحداث تقع مباشرة قبل الهجوم الأميركي على تلك المدينة ثم مباشرة بعده. نتابع حياة الفتاة الصغيرة سوزو في كنف عائلة طيبة تحافظ على التقاليد الاجتماعية المتوارثة. سوزو تحب الرسم منذ أن كانت صغيرة في منتصف الثلاثينات وبعد عشر سنوات، عندما كانت الحرب مشتعلة بين اليابان والولايات المتحدة وصولاً إلى إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما (وناغازاكي) وهي تحافظ على هذه الهواية. هناك مشهد رائع تتابع فيه الفتاة الطيران الأميركي وهو ينفذ إحدى غاراته والمدافع اليابانية التي تتصدّى لها لتنفجر قنابلها في الفضاء. سوزو ترى المشهد المروع مثل لوحة تقوم برسمها وعوض الفقاعات المتفجرة ترمي بألوانها على اللوحة البديعة التي بين يديها. مثل سواه من أفلام يابانية تناولت الكارثة، لا يكترث «ذلك الركن من العالم» لموقف سياسي بل لطرح إنساني بحت. إلى ذلك يتميّز بما تتميّز به الكثير من الأفلام اليابانية المماثلة فالحياة لا تسير بإيقاعات مثيرة ومتوترة كالتي تمنحنا إياها الكثير من الإنتاجات الغربية في هذا النوع من الفن، بل هي واقعية قدر الإمكان محسوسة وملموسة والعاطفة تحتل موقع الصدارة.
من ناحية أخرى، يقف هذا الفيلم وحيداً بين المعالجات التي توفرها السينمات الغربية عن المرأة. فهي ليست بطلة أفلام أكشن ولا هي ضحية في أفلام أكشن أخرى، بل هي إنسانة ذات براءة متجلية. وما سقط في الفجوة بين أفلام البطولات النسائية الأميركية أو سواها، هو الرمز المجسد في شخص الأنثى. بطلاتنا المعهودات قاتلات يجدن استخدام السلاح وينضحن بالقوة الداخلية كما القتالية. المعيار الخفي الذي لم يعد مطروقاً، إلا في أفلام قليلة من بينها هذا الفيلم الياباني، هو ما ترمز إليه الأنثى من براءة. إنها، في هذا العرف، الإنسان.