«الطيور» (1963) قبضة هيتشكوك تتحكم بمصائر أبطاله

سنوات السينما

رود تايلور وتيبي هدرن في «الطيور» لألفرد هيتشكوك
رود تايلور وتيبي هدرن في «الطيور» لألفرد هيتشكوك
TT

«الطيور» (1963) قبضة هيتشكوك تتحكم بمصائر أبطاله

رود تايلور وتيبي هدرن في «الطيور» لألفرد هيتشكوك
رود تايلور وتيبي هدرن في «الطيور» لألفرد هيتشكوك

* كثيرا ما افتتح المخرج الرائع ألفرد هيتشكوك أفلامه بلقطات من فوق. تسبح لقطته في الفضاء قبل أن تصل إلى نافذة فندق حقير في «سايكو» (1960) وفي «فزع» (1972) تحط الكاميرا على مجموعة من الناس بينها رجل يقف عند أحد الجسور يخطب بينهم. في «ڤرتيغو» (1958) هو على سطح بيوت سان فرانسيسكو. والنهايات في بعض أفلامه تقع أيضاً في مرتفعات: في «مخرب» (1942) ذلك المشهد الحابس للأنفاس للشرير (نورمان لويد) وهو يتدلى من قمّـة تمثال الحرية الأميركي قبل أن يتمزق كم السترة وينسل منها واقعاً إلى الأرض البعيدة.
مشهد مماثل إلى حد مع نهاية «شمال، شمالي غرب» (1959) حين يحاصر الأشرار غاري غرانت وإيڤا ماري سانت عند سفوح جبل راشمور حيث تماثيل رؤساء الجمهورية الصامتة. أي زلة قدم سينتهي أحدهما، أو كلاهما، في قعر الوادي.
في فيلم هيتشكوك «الطيور»، اختلاف مثير: الكاميرا منصبّـة من علو غير مرتفع كثيراً على رجال ونساء يمشون في أحد شوارع ضاحية ساحلية من ضواحي مدينة سان فرانسيسكو. الناس بدورها تنظر إلى أعلى. لا إلى الكاميرا، فهي ككل شيء آخر في سينما الفنان الرائع، أداة وليست رمزاً، بل إلى السماء حيث، نكتشف بعد قليل، تطير مجموعة من الغربان فوق رؤوسهم.
ميلاني (تيبي هدرن)، التي وصلت للتو من قلب المدينة في زيارة، تنظر إلى فوق أيضاً. لكن في حين أنّ نظرة السكان المحليين هي أقرب إلى استطلاع أحوال الطقس، فإنّ نظرتها تحمل بعض التساؤل. في هذا الشأن هي المتفرج الذي لا يريد أن يصدق أنّ هذا الطيران المنخفض للطيور لا يشكّل تهديداً. الذي، بدأ من عنوان الفيلم وحالة الفضول التي انتابته ودفعته لمعرفة ما الذي ستقوم به تلك الطيور ومتى، وهو ينتظر بدء هذا التهديد.
بعد ذلك، نرى ميلاني تدخل محلاً لبيع الطيور. نشاهد في المحل طيوراً جميلة في أقفاصها. لماذا تدخل دكان طيور وليس دكان زهور؟ الناقد الراحل روبين وود كان على حق عندما كتب سنة 1965، محللاً ومقارناً بين طيور الأقفاص والطيور المتجولة في سماء المدن. قال إن الطيور في الخارج تمثّل الواقع بشروره الدائمة. الطيور في الأقفاص تمنح البشر الشعور بأنّهم سالمين. «الداخل هو العالم الآمن (والمصطنع) الذي يعتبره الناس واقعاً»، كما كتب.
لكن الفيلم هو أكثر بكثير من مجرد فيلم حول طيور تثور لسبب غير معروف وتنقض على البشر في وحشية قاتلة. إلى جانب مشاهد الهجمات الكاسحة وذعر الناس وهروبهم، كما سقوط بعضهم ضحايا الطيور الكاسرة، وبل في كيان ذلك التشويق المحكم والمتعدد، هناك حكاية قبضة أخرى تتحكم في المصائر. هذه تبدأ بتعارف بين ميلاني والمحامي الشاب ميتش (رود تايلور) تتحوّل إلى إعجاب كبير ولو على نحو تدريجي. لكنّ ميتش ليس وحيداً في قراراته حتى تلك الساعة، بل تهيمن أمه على مصيره. وفي الفصل الأخير هناك محاكاة مجازية رائعة بين هيمنة البشر على البشر وبين هيمنة الطيور عليها.
فقط هيتشكوك كان يستطيع أن يقدّم فيلم رعب كهذا من دون تقديم تبرير شاف للسبب الذي من أجله تحوّلت هذه الطيور التي تعيش في مدننا كل يوم إلى حيوانات متوحشة. هيتشكوك يدرك كيف يتجاوز السبب عن طريق عدم طرحه أساساً. طبعاً، يتداول الناس في الفيلم افتراضات، لكن المخرج يعرف كيف يرفع من سقف الغموض ويخفض من سقف وضرورة التبريرات.
الفيلم مقتبس من رواية للكاتبة دافني دو موريير وكان هيتشكوك اقتبس من أعمالها أيضاً «جامايكا إن» و«ربيكا» (1939 و1940 على التوالي). وكاتب السيناريو ليس سوى كاتب السيناريو إيڤان هنتر الذي اقتبست السينما 20 فيلما من أعماله من بينها أعمال وضعها في روايات منشورة تحت اسمه الآخر إد ماكبين.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.