من المعلومة إلى المعرفة... رحلة بيوت التفكير

الذراع الرئيسية في البلدان المتطورة هي المراكز البحثية

«بروكنغز» من أكبر مراكز البحث الأميركي
«بروكنغز» من أكبر مراكز البحث الأميركي
TT

من المعلومة إلى المعرفة... رحلة بيوت التفكير

«بروكنغز» من أكبر مراكز البحث الأميركي
«بروكنغز» من أكبر مراكز البحث الأميركي

كثيراً ما يوصف عصرنا بأنه عصر المعلومات، وهو بالتأكيد كذلك. الإنترنت والاتصالات بأنواعها، من إعلامية إلى هاتفية إلى شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، كل ذلك خلق أوضاعاً غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وأتاح للجميع قدراً هائلاً من المعلومات التي يمكن الوصول إليها وتخزينها وتبويبها وإعادة إرسالها، إلى غير ذلك من سبل إدارتها والإفادة منها.
لكن التعرف على هذه الحقيقة الواضحة، والإعلان عنها باستمرار، كثيراً ما يؤدي إلى نسيان ثلاثة أمور أساسية: الأول، أن نصيب الشعوب أو الدول والأفراد من المعلومات المتاحة ليس متساوياً. والثاني، أن مستوى دقة أو صحة أو جودة تلك المعلومات ليس مضموناً، أي أن الغث فيها قد يكون أكثر من السمين. أما الثالث، وليس الأقل أهمية، فهو أن المعلومة لا تعني المعرفة، وأن ثمة اختلافاً بين تراكم المعلومات وبناء المعرفة. وأود أن أفصل قليلاً في هذه الملاحظات تمهيداً للدخول في الموضوع الأساسي.
عدم التساوي في المعلومات حقيقة ماثلة، فنصيب الفرد من المعلومة يشبه نصيبه من أشياء أخرى كثيرة، وفي طليعتها العلم أو المستوى العلمي. وقدرة الإنسان على التحصيل والانتقاء والتحليل تختلف تبعاً لإمكانياته الذاتية المتحصلة نتيجة لما تلقاه من تعليم، أو ما اكتسبه من خبرات. والشعوب الأكثر تعليماً، أو بالأحرى الأفضل تعليماً، تحقق نصيباً من المعلومات المتاحة أكبر بكثير من شعوب تشيع فيها الأمية. والأمية ليست اليوم محصورة في القراءة والكتابة كما هو معروف، وإنما هي أيضاً أمية الحاسب والقدرة على الإفادة من شبكات التواصل وقنوات الإعلام.
القدرة المشار إليها على تحصيل المعلومة تتصل مباشرة بالأمر الثاني الذي أشرت إليه، وهو المتعلق بدقة أو صحة المعلومة. فتبعاً لقدرات الإنسان، وبالتالي المجتمع، تكون القدرة على فرز المعلومات واختبارها والإفادة منها. وكلما ارتفع المستوى، ازدادت القدرة النقدية في التعامل مع سيل المعلومات المتدفق من كل مكان، لهذا يرتفع معدل التصديق لما يرد على شبكات التواصل الاجتماعي لدى الفئات الأقل تعليماً، ويقل لدى الفئات الأفضل تعليماً، لكن الجميع في حقيقة الأمر يواجه صعوبة الفرز نتيجة لعوامل كثيرة، منها كثرة المعلومات وما تحمله من إغراءات القبول نتيجة لغياب البديل أو ضعفه أو صعوبة الوصول إليه. وقد وجدت الإشاعات والمعرفة الوهمية في تلك الشبكات تربة خصبة وغير مسبوقة في سرعة التوصيل، بحيث تنتشر وتصعب مقاومتها أحياناً.
أما الأمر الثالث الذي أشرت إليه، أي أن المعلومة غير المعرفة، فهو الأجدر بالتوقف عنده لصلته بموضوع هذا الحديث. فثمة تراتبية لما يمكن أن يحصله الإنسان من علم: تبدأ تلك التراتبية بالمعلومة، أي بالوقائع، أو ما نسميه حقائق أساسية. وفوق أو بعد المعلومة، تأتي المعرفة. المعلومة هي الأرضية الأساسية التي يحتاجها الجميع ولا يتصور العيش من دونها، لكن بينما تقنع أغلبية الناس بالمعلومات المتوفرة لديها، تسعى فئة أقل إلى تطوير المعلومات لتصبح بناء متسقاً ينظم المعلومات على أسس عقلانية أو فكرية أو عقدية. المعرفة هي المعلومات، وقد تطورت إلى أنساق وأبنية وتكوينات متصلة تتشابه حيناً، وتتعارض حيناً، والحاكم فيها هو سعي الإنسان للصعود من الشتات إلى الوحدة، من التشظي إلى التماسك.
لو نظرنا إلى المعلومات المتعلقة بالسياسة، وهي الأكثر تأثيراً، لوجدنا أنها تمثل تراكماً ضخماً يشترك فيه كثير من الناس. الكثيرون يتابعون الأخبار، والكثيرون أيضاً لديهم معلومات أساسية حول المشهد السياسي المعاصر، بدوله وشعوبه، وأنواع الأنظمة السياسية والاقتصادية، وما يتفرع عن ذلك ويؤثر فيه من أحزاب وصراعات ومصالح... إلخ. كل هذه معلومات تؤسس للتعامل مع الأوضاع السياسية في العالم، لكنها مجتمعة لا تشكل معرفة سياسية إلا حين تخضع للتحليل والربط والاستنتاج. المعلومات منتشرة وهائلة ومتاحة للجميع، ولكن المعرفة ليست كذلك. عصرنا عصر معلومات للأكثرية لكنه عصر معرفة للأقلية.
المعلومات السياسية تتحول إلى معرفة عبر منهجيات وآليات، أو عبر أدوات تحليل تحولها إلى معرفة سياسية. ولنأخذ الولايات المتحدة مثالاً، وهي البلد الأكثر حضوراً وتأثيراً في العالم دون منازع: ماذا يعلم الكثيرون عنها؟ أقول «يعلمون» وليس «يعرفون» للحفاظ على التمييز الذي أشرت إليه. المعلومات حول ذلك البلد كثيرة، حتى على مستوى الإنسان البسيط؛ الكثيرون يعلمون أن ترمب من الحزب الجمهوري، لكن سياسة الجمهوريين والأسس التي قامت عليها ليست معلومات وإنما معرفة ليس من السهل على الكثيرين الوصول إليها، هذا إن اهتموا بها. قد تهمهم بقدر ما تؤثر في حياتهم. ويشمل هذا كثيراً من الأميركيين أنفسهم. فالإنسان في حياته اليومية مشغول بالآني والسريع وما يمسه مباشرة. لذلك نلاحظ أن النقاش الذي يدور بين كثير من الناس في الوطن العربي والإسلامي حول الرئيس الأميركي ترمب لا يكاد يتجاوز موقفه من العرب والمسلمين، ومن إيران وإسرائيل، أي أن الأكثرية مشغولة بما يؤثر في حياتها مباشرة، سواء أكان وعداً أم وعيداً، وما يصل إليهم حول ذلك هو معلومات متناثرة، تصريح هنا وقرار هناك، وهذا كله مشروع بل وضروري، لكن الذي يغيب غالباً هو خلفيات ذلك، فهي في الغالب مجهولة بل هي مجال خصب للتخمين ولنظريات المؤامرة التي توفر «معرفة» سريعة وجاهزة ولكنها وهمية في معظم الأحيان، أي ليست معرفة حقيقية.
كيف تصنع المعرفة السياسية، بل كيف تصنع المعرفة بالكلية؟ بتعبير آخر: كيف تتطور المعلومات إلى معرفة؟ هنا مربط الفرس. لا شك أن الفرد مصدر مهم لتلك المعرفة، الفرد المفكر أو المتخصص أو الذي يملك القدرة على البحث والتحليل تأسيساً على قاعدة علمية أو معرفية. لكن الفرد وحده غالباً لا يكفي؛ هناك دائماً حاجة إلى مؤسسات تنتج المعرفة، وينتج الفرد من خلالها. والمؤسسات هنا نوعان: مؤسسات جامعية، أي الجامعات والكليات المتخصصة، ومراكز الأبحاث أو ما يعرف بـ«الثنك تانكز». والجامعات حين تنتج المعرفة في البلاد المتطورة، فإن ذراعها الرئيسية هي المراكز البحثية على اختلافها. لكن من المراكز البحثية ما يكون مستقلاً، بل إن أشهر تلك المراكز وأكثرها فاعلية هي المستقلة منها، سواء عن الجامعات أو عن الحكومات. لكن لكي يكون المركز البحثي فاعلاً، لا بد له من جهات تعتمد على نتاجه من الأبحاث التي تؤسس لسياسات أو لخطط أو لغير ذلك. ولو عدنا إلى الولايات المتحدة التي ضربت بها مثلاً قبل قليل، فسيتبين أنها الدولة الأولى والأقوى في عدد وأهمية مراكز البحث أو «الثنك تانكز».
على الرغم من اهتمام دول كثيرة بمراكز البحث كمصانع للمعرفة، فإن الولايات المتحدة تظل الأقوى في هذا المجال، كما هي في مجالات كثيرة أخرى. فحسب بعض الإحصائيات، هناك ما يقارب المائتي مركز بحثي (ثنك تانك) في الولايات المتحدة، من أشهرها وأكثرها تأثيراً «بروكنغز» و«كارنيغي ميلون». وهذه مراكز مستقلة عن الحكومة لكنها متصلة بها، من حيث إن تلك المراكز مصادر للمعرفة التي تسترشد بها الحكومة في وضع سياساتها ورسم خططها. ويصدق ذلك بالطبع على دول أخرى، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها. ويلفت النظر هنا عدد مراكز الـ«ثنك تانكز» في إسرائيل، حيث تبلغ نحو الثلاثين، وهو عدد ضخم بالنسبة لدولة قليلة السكان ضئيلة المساحة محدودة في ثقلها الاقتصادي، إذ إنها تفوق في البحث دولاً كثيرة أكبر وأضخم اقتصاداً، وأكثر تأثيراً في السياسة العالمية، بل إنه يمكن القول إنه بالقياس لعدد السكان، تعد إسرائيل بين الأكثر عناية بهذا اللون من المراكز البحثية. وكما هو الحال دائماً، العبرة ليست بالعدد، وإنما بالمستوى وقوة التأثير.
أما إن تساءلنا عن البلاد العربية، فسنجد أنفسنا أمام قصة أخرى تحتاج إلى متابعة مستقلة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!