لا يختلف اثنان أن هناك ثورة نسوية ناعمة تتغلغل في صميم صناعة الترف منذ سنوات وتزيد قوة يوماً عن يوم. فقد اخترقت شابي نوري عالم الساعات الفاخرة الذكوري وأصبحت أول امرأة تتولى منصب رئيس تنفيذي في دار «بياجيه»، ومنذ عام تقريباً، شهدنا دخول الإيطالية ماريا غراتزيا تشيوري «ديور» في بادرة غير مسبوقة. فالدار الفرنسية التي قادها مصممون رجال منذ وفاة مؤسسها كريستيان ديور فتحت أبوابها لأول مرة في تاريخها لمصممة. طبعاً هناك أسماء كثيرة أخرى تسجل حضورها في مجالات الإبداع والمال والأعمال وتغير خريطة الموضة خصوصاً والترف عموماً، لكن لا يمكن تجاهل المرأة العادية، أو بالأحرى الزبونة. فهذه الأخيرة أكدت أنها هي الأخرى لها دور مهم في رسم هذه الخريطة. فإنجازاتها ونجاحاتها في مجالات مختلفة منحتها استقلالية مادية باتت تحرك السوق وتنعشها. ما يزيد من قوتها أن ساحة الموضة تحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى. فهي ساحة تزخر حالياً بالأسماء التي تتوالد كل عام وتتنافس فيما بينها من أجل اقتطاع نصيبها من السوق، الأمر الذي يجعل إرضاء هذه المرأة من الأولويات، أحياناً على حساب النظرة الشخصية للإبداع والفنية والثقافية. وهذا ما نلاحظه منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، حيث بدأ وجه الموضة العالمية يتغير بشكل واضح لا يترك أدنى شك بأنه اكتسب طابعاً عربياً إلى حد ما.
البعض يقول إن هذه الحركة بدأت خيوطها تتشكل قبل 2008، وإن كارل لاغرفيلد، مصمم دار «شانيل» كان سباقاً إليها عندما قدم تشكيلة «محتشمة» مقارنة بما كانت تشهده ساحة الموضة قبله. كان ذلك بعد مرور فترة وجيزة على أحداث 11 سبتمبر (أيلول). عندما سُئل عن سبب توجهه الجديد آنذاك صرح بأن المصمم لا يمكن أن يعيش بمنأى عن الحياة السياسية والاجتماعية المحيطة به، مضيفاً أن الموضة يجب أن تعبر عن عصرها، فيما فسره البعض بأنه يقصد تنامي أهمية المنطقة العربية. بعد صدمة المفاجأة الأولية كانت المفاجأة التالية ترحيب المرأة بما قدمه. فهذه الأخيرة اكتشفت كم كانت مخطئة باعتقادها أن كشف مفاتن جسدها هو الوجه الوحيد للأناقة والجمال، فهناك أوجه مختلفة يمكن أن تختار منها ما يناسبها. ما شجعها أكثر أن كثيراً من النجمات الشابات تبنين هذه الموجة في مناسبات السجاد الأحمر، مفضلات تصاميم تغطي كامل الجسم على الفساتين المثيرة ومؤكدات أن للغموض سحره أيضاً.
وهكذا بدأت المنطقة العربية تشهد منذ ذلك العهد جاذبية تتجلى في تودد مباشر لنيل رضا زبونته. فالجواهر زادت ابتكاراً واخضراراً بعد انتباه الصاغة إلى عشق المرأة العربية للزمرد، بينما اكتسبت الأزياء حشمة. فقد زادت الياقات ارتفاعاً والأكمام طولاً، كما ألغى كثير من المصممين الأجانب الفتحات العالية في صورة لا تترك أي مجال للشك أن المرأة العربية كانت في بال المصممين لتسويقها. ما عزز هذا الرأي إقبالهم على التطريزات أيضاً.
وهكذا سيتم تسجيل العقد الثاني من الألفية الثالثة في كتب الموضة على أنه وقتها، كما كانت الستينات وقت المرأة النحيفة التي كانت تتوق للتحرر من القيود الاجتماعية بتبنيها الفستان القصير والتصاميم الصبيانية، والثمانينات الفترة التي شهدت انتعاش الأكتاف الصارمة التي تبدو كأنها دروع تحميها من نظرات الرجال بعد دخولها معاقل احتكروها لعقود، إلى جانب المبالغة في الزخرفات والبريق. وعندما جاءت التسعينات كانت المرأة بدأت تمل من هذه المبالغات وتحتاج إلى مضاد لها، وهكذا ترتبط هذه الفترة بالألوان الترابية والتصاميم البسيطة. في كل هذه الفترات، كانت المرأة الأميركية خصوصاً والغربية عموماً هي الهدف والأمل. فقد كانت تفهم الموضة وتقدرها، برأي المصممين، وكانت تُعبر عن تقديرها بعدم ترددها في صرف مبالغ طائلة للحصول عليها. بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، اضطرت هؤلاء الزبونات إلى «فرملة» رغباتهن وتقنين شرائهن للـ«هوت كوتير» وكل ما غلا ثمنه، الأمر الذي جعل البحث عن أسواق جديدة ضرورة بالنسبة لصناع الترف حتى لا تبور بضاعتهم. واكتشفوا سريعاً أن المستقبل في يد الأسواق النامية، لا سيما المنطقة العربية التي لا تزال المرأة فيها تتوق لكل ما هو فريد بغض النظر عن سعره. وهكذا حصل ما لم يكن يخطر على بال أحد منذ عقد من الزمن تقريباً؛ فقد غير المصممون دفة الاتجاه بتبنيهم لغتها.
فالعود الذي كان يعتبره الغرب نفاذاً وغير مقبول، لا في النهار أو في المساء، أصبح عنصراً أساسياً في عطور معظم، إن لم نقل كل العطارين، أملاً في كسب ود الزبون الشرق الأوسطي. أما الأزياء فحدث بلا حرج، وليس أدل على هذا تشكيلات «فالنتينو» و«شانيل» و«غوتشي» الأخيرة. في البداية كان تسويق هذه التصاميم مُموهاً تحت شعار أنها موجهة لامرأة عاملة وسيدة أعمال لم تعد تحتاج إلى استغلال أنوثتها في أماكن العمل بعد أن أثبتت كفاءتها وذاتها، بيد أن الحقيقة التي لا يغفلها أي متابع لأحوال السوق أن إمكانيات المرأة العربية إضافة إلى حبها للترف والتميز، هي المحرك الأساسي للتوجهات الجديدة. فهذه المرأة لا تبخل على نفسها، سواءً تعلق الأمر بحقيبة يد من جلود نادرة وتصميم فريد، أو بقطعة «هوت كوتير» فنية. وهذا عز الطلب بالنسبة لصناع الموضة، بدليل أنهم بدأوا يتوجهون إليها بشكل «حرفي»، كما حدث مع الثنائي «دولتشي أند غابانا» اللذين طرحا منذ أكثر من عام عباءات لا تحمل جديداً سوى أنها بتوقيعهما. هناك أيضاً الفعاليات المتنوعة التي تشهدها المنطقة منذ فترة، من عرض الكروز لـ«شانيل» الذي أقامته في دبي إلى «فوغ نايتس» السنوية، وصدور نسخة عربية من مجلة «فوغ» أخيراً، فيما كان مفاجأة للكل. المفاجأة بسبب تصريحات سابقة لناشرها جوناثان نيوهاس بأنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يُصدرها في المنطقة العربية نظراً لمحاذيرها الكثيرة واختلاف ثقافتها عما تعنيه الموضة الغربية. وبالفعل، فإن الموضة كما كانت عليه سابقاً، إذا تذكرنا المدرسة «الفيرساشية» في عهد الراحل جياني فيرساتشي والـ«غوتشية» في عهد توم فورد، كانت في غاية الإثارة الحسية، الأمر الذي كان يجعل تصويرها ونشرها صعباً من دون إدخال رتوشات تتمثل في تغطيات غرافيكية ساذجة، كان المصممون لا يرفضونها فحسب، بل يستهجنون ويسخرون منها. طبعاً تغيرت النظرة حالياً، فهم يتقبلون فكرة إجراء رتوشات على صور تصاميمهم في المجلات العربية ما دامت ستصل إلى زبونتهم. بل ذهبوا حالياً إلى أبعد من ذلك بتوفير تصاميم لا تحتاج إلى أي تغطيات في معظمها. وفي أسوأ الحالات يقدمونها على شكل طبقات متعددة بحجة أنهم يطمحون لمخاطبة امرأة عالمية تسافر بين القارات، إلا أنها بالنتيجة تصب في خانة المحتشم الملائم للبيئة العربية.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذه الموضة خاصة بالسوق العربية أو تقتصر عليها، فقد برهنت أرقام المبيعات أنها لمست وتراً حساساً بداخل امرأة عالمية، ولم تبقَ محصورة في منطقة معينة. فحتى المرأة الأميركية التي كانت تلبس فساتين من دون أكتاف وبياقات مفتوحة للغاية أو قصيرة جداً، لوحظ أنها تفضل حالياً الأكمام والقمصان ذات الياقات التي تُربط حول الرقبة على شكل فيونكات. أما صغيرات السن اللاتي كن يعشقن فساتين «بالمان» المثيرة، كونها تكشف أكثر مما تستر، فأصبحن يُقبلن على فساتين تغطي الركبة وكنزات وقمصان بأكمام طويلة من مصممات شابات من مثيلات إميليا ويكستيد أو روكساندا إلينشيك وغيرهما. «بالمان» تطرح حالياً تصاميم تصب في خانة المحتشم، من خلال قطع منفصلة حتى لا تفقد مكانتها من جهة وحتى تواكب تغيرات السوق من جهة ثانية.
غني عن القول إن إقبال الأسواق العالمية على التصاميم الحالية لا يعود إلى كونها محتشمة، بل لأنها مُتنوعة وتُعبر إلى حد ما عن تقبل اختلاف الآخر. لكن الأهم من هذا أنها تُعبر عن عصر النساء وأسلوبهن الخاص، فقد توصلن إلى قناعة أن كشف المستور ليس مرادفاً للأنوثة ولا التحرر أو التمرد على المتعارف عليه. ربما كان الأمر كذلك في الستينات عندما كانت الأزياء طويلة وغير عملية تقيد حركتهن، لكنها الآن بأطوالها تعبر عن الاستقلالية والتحرر من النظرة الذكورية التي كانت تفرض عليهن أسلوباً تقليدياً للأنوثة. المعنى هنا أن زبونة اليوم لم تعد تتعامل مع الموضة من وجهة نظر الرجل لنيل إعجابه بقدر ما تتعامل معها من وجهة نظر مستقلة وواثقة. فهي الآن تتبوأ مناصب عالية كسيدة أعمال وكوزيرة وكرئيسة وزراء وتعرف أن صوتها مسموع على كل المستويات. وفي عالم الموضة بالتحديد له رنة الذهب، فلِم لا تستغله لإرضاء نفسها أولاً وأخيراً؟ ثم لا ننسى أن الأزياء كانت منذ عشرينات القرن الماضي ولا تزال وسيلة للتعبير عن ميولها وثورتها على القيود والمتعارف عليه.
ثورة تريد أن تنأى فيها عن الكليشيهات والأفكار المتآكلة لمفهوم الأنوثة، ولا تستهدف من ورائها رضا الرجل أو مباركته، كما كان عليه الحال سابقاً. فيبي فيلو مصممة دار «سيلين»، التي اشتهرت بأسلوب عصري يحترم المرأة، عقلاً وشكلاً، لم تُخفِ أن «صور النساء وهن في غاية الأناقة والجمال، بشكل يعتمد على الإثارة الحسية، كانت تُظهرهن كدمى»، الأمر الذي تقول إنه أثر عليها ودفعها لتجنب هذا الأسلوب منذ بدايتها والبحث عن مضاد له. ترجمتها تجسدت في تصاميم واسعة تلف الجسم بنعومة وسخاء عوض تحديد تضاريسه. المصمم مايكل كورس يوافقها الرأي بقوله إن «المرأة تكتسب جمالاً وجاذبية أكبر عندما ترتدي ما يريحها ويُشعرها بالثقة، وليس ما هو مفروض عليها». مصممات مثل أليس تامرلي وستيلا ماكارتني وفيكتوريا بيكام وإميليا ويكستيد وسارة بيرتون وأخريات لقطن هذا الخيط منذ فترة كونهن ينتمين لنادي المرأة، وبالتالي يفهمنها، لكن سرعان ما انضم إليهن مصممون آخرون، مثل جيامباتيستا فالي وأليساندرو ميشال مصمم دار «غوتشي» وميوتشا برادا وبيير باولو بيكيولي مصمم «فالنتينو» وهايدر أكرمان، وآخرين. كل هؤلاء زادوا من أطوال تصاميمهم، بنسب متباينة تظهر فيها المرأة في بعض العروض كأنها محجبة إذا أضفنا غطاء للرأس. نظرة سريعة أيضاً إلى ما يجري في شوارع الموضة وما تلتقطه عدسات الباباراتزي خلال أسابيع الموضة وتنشره المجلات البراقة في باب «ستريت ستايل» تؤكد هذه الحقيقة. فالمدونات والمؤثرات تشجع على المظهر الخاص، وإن كان هذا المظهر يخاصم الأناقة الكلاسيكية من وجهة نظر الأمهات أحياناً، سواء تعلق الأمر بتضارب الألوان وضجيج النقشات أو تصادم القطع المنفصلة مع بعضها بعضاً فيما يطلق عليه أسلوب «الطبقات المتعددة» الذي يغطي كامل الجسم ويُخفي معالم أنوثته.
ثورة المرأة على كشف المستور تولد موضة تناسب البيئة العربية
الياقات زادت ارتفاعاً والأكمام والفساتين طولاً لكسب ودها
ثورة المرأة على كشف المستور تولد موضة تناسب البيئة العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة