عودة هوليوود إلى حكايات الغابة متمثلة بالفيلم الضخم الحالي «كونغ: جزيرة الجماجم»، تنهل من معين كبير من نوع من أفلام المغامرات قائم بذاته اسمه «أفلام الغابة». تلك التي تنص على انتقال شخصيات وأحداث من البيئة المدنية إلى حيث لا قانون يحميها سوى قانون السلاح.
وسواء أكان منبع الخطر المدهم هو وحوش ضارية أو زواحف قارضة أو مواطنون يرفضون اقتراب الشخصيات الآتية من عالم المدينة لمواقع حياتهم، فإن النتيجة دائماً تكمن في مواجهة يؤمها الآتون من الحضارة ضد الأناس والوحوش المهاجمة. هؤلاء مزوّدون بالبنادق والذخيرة، والوحوش بالأنياب والمواطنون الأصليون بالسهام والرماح. ليس غريباً إذن انتصار الرجل الوافد (الذي عادة ما يكون أبيض البشرة) حتى وإن كان الوحش بطول عشرة أدوار واسمه كينغ كونغ.
حكاية «ترايدر هورن»
أفريقيا الأولى لا بد أنها كانت لغزاً ساحراً. أيامها، وقبل انتشار «هوليداي إن» و«ماكدونالدز» و«ستاربكس» في أنحائها، كانت مجاهل فعلية. السينما، في مطلع القرن الماضي، لم تكن قد عرفت سبر غور الفضاء الفسيح، لكنها بدأت بولوج العالم البديل لذلك الفضاء، وهو عالم الأدغال الأفريقية. وهي إذا لم تكن أفريقية فهندية (في عدد محدود من الأفلام) أو أمازونية. لكن أفريقيا استأثرت بالاهتمام والكثير من الاستوديوهات صوّرت مغامراتها في تلك القارة عبر التوجه إلى الأراضي المحيطة بها وزرعها بأنواع الأشجار الغريبة والاستعانة بديكور من الصخور والمياه إذ لم يكن عليها التوجه إلى أفريقيا، بل لتأتي أفريقيا إلينا فهذا أرخص كلفة وأضمن سلامة.
ما كان على هذه الأفلام الاستعانة به هو صور أرشيفية لأفريقيا وعادة ما كان فيلم الأدغال في ذلك الحين يبدأ بمشاهد أرشيفية عن حيوانات أفريقيا موفراً للمشاهدين المستمتعين فرصة مشاهدة أسود تصطاد أو تماسيح تسبح في النهر أو حيوان الخرتيت وهو يستحم في الماء. الأفاعي الكبيرة والضباع والفهود السوداء، عادة ما يُستعان بها لجذب اهتمام المشاهدين والإحساس بأن هذا البطل لا يمضي إجازة في أفريقيا، بل هو في مهمّة تتطلب معايشة الخطر للدفاع عن النفس ضد هذه الوحوش المفترسة.
«ترادور هورن»، المأخوذ عن رواية وضعتها إيثلريدا لويس، كان أول فيلم روائي يتم تصويره فعلياً في القارة الأفريقية وذلك سنة 1931 وعندما انتهى تصويره رفعت بطلته إدوينا بوث قضية على شركة مترو غولدوين ماير كونها عادت مريضة فبادلتها هوليوود بتغييبها عن المشاريع وتوقف حالها سنة 1932 بفيلم مغامرات آخر عنوانه «واقعة في فخ في تيا جوانا». كذلك وفي العام نفسه قامت بالبطولة النسائية لفيلم «آخر الموهيكانز» الذي دارت أحداثه في الجنوب الأميركي والذي - مثل «ترايدر هورن» - تمتع بعدد من النسخ اللاحقة آخرها نسخة مايكل مان سنة 1992
هذا لا يجب أن يعني أن «ترايدر هورن» كان أول فيلم أدغال بالمطلق لأن هوليوود عاينت هذه المواضيع في أفلام ومسلسلات سينمائية منذ العشرينات. لدينا، على سبيل المثال فقط، «آلهة الأدغال» لجيمس كونواي مع ممثلة منسية اسمها إلينور فيلد. حكاية ذلك الفيلم نموذجية لمفهوم العلاقة بين البيض الوافدين، ولو بالصدفة، وبين السود القاطنين. فبطلته فتاة بيضاء جميلة اعتلت بالون هواء اتجه بها، من دون إرادتها، إلى قلب الغابة الأفريقية حيث سقطت بين براثن قبيلة من آكلي لحوم البشر. عوض أن تنتهي بين أنيابها أيضاً وجدت نفسها وقد أصبحت زعيمة القبيلة بسبب بشرتها المختلفة التي لم ير أحد هناك مثيلاً لها.
سنجد في الواقع الكثير من هذه الأفلام في الفترة الكامنة بين عشرينات القرن الماضي ومطلع الأربعينات من بينها «جواهر بولين» (1914) و«ملك الكونغو» (1929) و«أفريقيا الأكثر ظلاماً» (1936) و«فتاة الغابة» (1941) من بين أخرى.
الحبكة تتشابه في معظم هذه الأفلام: لدينا بعثة بيضاء تصل إلى محطة استقبال أفريقية بهدف البحث عن شخص أبيض مفقود. تطلب كشّافاً يعرف المنطقة (وهو من سيقوم بالبطولة) لكن خبر وصولها يزعج الأشرار الذين يحاولون الوصول أيضاً إلى منجم من الذهب أو إلى مدينة أثرية تحتوي على الكثير من الكنوز.
مسألة ألوان
في هذا الخضم وردت شخصية طرزان الذي هو أشهر من أن يعرّف. ابتكره الكاتب إدغار رايس بورو وظهر على صفحات مجلة «بالب فيكشن» اسمها سنة 1912 واستلهمتها السينما سنة 1918 تحت عنوان «طرزان القرود» (Tarzan of the Apes) الذي أخرجه سكوت سيدني من بطولة إلمو لينكولن الذي ترك وراءه عندما رحل سنة 1952 خمسة أفلام لعب فيها شخصية طرزان (من بين نحو 70 فيلماً مثلها).
هناك ما لا يقل عن 65 فيلماً حول شخصية طرزان آخرها «أسطورة طرزان» لديفيد ياتس (2016) وهي النسخة الوحيدة التي حاولت منح الموضوع جانباً سياسياً بعيداً عما درجت عليه معظم أفلام طرزان السابقة من تمجيدها للأبيض وقبولها بوجوده وحاجة الأفارقة إليه. في هذا الفيلم نرى الصراع قائماً بين طرزان (ألكسندر سكارسغارد) مدافعاً عن الأفريقيين ضد هيمنة القوّات البرتغالية المحتلة متمثلة بشخصية بيضاء شريرة (أداها كريستوفر وولتز).
قبل ذلك، ومنذ البداية، كان السائد هو تقديم شخصية طرزان كبطل اعتنت به الغوريلات عندما وجدته رضيعاً بعد مقتل والديه في حادثة طائرة سقطت في إحدى غابات الوسط الأفريقي. هذا الطفل نشأ رجلاً قوياً يفهم لغات الحيوانات أكثر مما يفهم في لغة مواطنيه. تضع الصدف في طريقه جين، الفتاة التي كانت في بعثة استكشاف آتية من أوروبا ويتدخل طرزان لإنقاذها من الأسود الجائعة، تقع في حبه وتحتمي به ثم (في أفلام أخرى) تشاركه مغامراته.
مفهوم طرزان كان عنصرياً بلا ريب. الرجل الأبيض أقوى وأذكى من الأفارقة المحيطين به والذين يتحركون بدوافع القتل الهمجي مهمهمين فيما بينهم. قبائل تؤمن بالخرافة وتعتمد الخداع والاختطاف سبيلاً لحياتها. باختصار، هي شريرة لمجرد أنها سوداء البشرة.
لحاجات طرزان العاطفية لم يدعه الروائي بوروز يجد ضالته في كيان امرأة سوداء، بل كان عليه أن يلتقي بجين التي تشاركه لون بشرته وفي ذلك حفاظ على العنصر الأبيض الذي خلّف بالفعل طفلاً أبيض سمّاه والده «بوي».
إلى ذلك المفهوم هناك الممارسات: بأمر من طرزان ستقوم الفيلة بالهجوم على قرية الأشرار السود وتهدم أكواخهم. سيلتقي بزعيمهم ويقتله أو سيسقط ذلك الزعيم في حفرة وضع فيها نمراً مفترساً يرمي إليه بالأغراب. سيساعد البيض على تحقيق مرادهم وغاياتهم طالما أنها غير موجهة لقتل الحيوانات (قتل الآدميين شيء آخر).
ومع أن ليس كل البيض خيرين وليس كل السود أشراراً، إلا أن البيض الأشرار إنما يدافعون عن مصالح مادية بينما السود الطيبون هم جبناء يخافون القتال ويتركون طرزان أو أفراد القافلة البيضاء لكي يقاتلوا الأعداء منفردين.
وإلى الصحراء
وفي كثير من الأحيان نال العرب ما نالوه من هذا التمييز. في «طرزان الشجاع» (Tarzan the Fearless) المنتج سنة 1933 نرى عبدل (الممثل اللبناني الأصل فرانك لاكتين، المولود في بلدة قب إلياس باسم محمد يقطين) عربياً يحمل السوط ويكوي به ظهور العبيد السود. في «صحراء طرزان الغامضة» (1941) نجده يهب لإنقاذ جين من عرب أشرار وبذا ينتقل من الغابة في وسط أفريقيا إلى صحراء المغرب العربي بكل سهولة وكما يقتضيه الواجب المحتم.
في العموم، وبوجود طرزان أو سواه، فإن أفلام الغابات عموماً ما تدور حول بيض يريدون ممارسة حقوقهم في الصيد والبحث والتنقيب عن الذهب ولو أدّى ذلك إلى الاشتباك مع المواطنين الرافضين لوجودهم. لكن ما يتبدّى هو أن البيض لهم الحق لمجرد أنهم آتون من حضارة وبمعتنقات دينية واجتماعية بينما السود هم المعتدون، أو، في أفضل الحالات، حجرة عثرة ضد التقدم الذي يحمله الأبيض إلى بلادهم.
هذا الوضع ساد الكثير من أفلام الغرب الأميركي، فرأينا المواطن الأميركي الأصلي يعارض الوجود الأبيض وبالتالي الحضارة مفضلاً الحفاظ على همجيّته وليس على حريته وأرضه. والكثير من الأفلام التي دارت حول ما عرف بـ«الفيالق الأجنبية» في صحراء المغرب العربي عاملت القبائل العربية على النحو ذاته. فهذه لا تثور لطرد الأجانب، بل تتمرّد عليها. لا تطلب الاستقلال بل تعتدي. هذا نجده في أفلام مثل «بيو كاسل» (1939) و«طبول الصحراء» (1940) و«فيالق الصحراء» (1953) و«قلعة الجزائر» (1953) ومن «المغرب» (1930 مع غاري كوبر) وحتى «رجل اسمه سارج» (1990 مع غاري كروغر).
لكن بالعودة إلى الأدغال الأفريقية، فإن المعالجة اختلفت في بعض الأفلام في الثمانينات. لم يعد بالمقدور تصوير الشعوب الأفريقية على النحو النمطي الساذج السابق ولو أن البطولة، في أحيان كثيرة، تبقى محصورة بشخصيات أميركية بيضاء بصرف النظر عن دوافعها أو درجة فهمها للواقع.
ربما لأن العالم تحوّل إلى قرية، أو ربما لأن أفريقيا السوداء مع عادت سوداء كفاية وبالتأكيد لم تعد غاباتها لغزاً مخيفاً، خفت كثيراً نسبة الأفلام التي تدور فيها أو حتى في سواها من غابات آسيا أو أميركا اللاتينية. هذا تبدّى أكثر وأكثر مع الإدراك بأن شعوب العالم عانت ما يكفي من نظرة أحادية مارستها هوليوود لذات الدوافع التي كان فيها رجالها البيض يغزون أفريقيا وهو البحث عن الكنوز الدفينة. تلك الأفلام كانت بدورها كنوزاً لدى شركات هوليوود تعرضها على الجمهور في عملية مقايضة: المغامرات المحبوكة مقابل تلبية الاشتراك، من على مقعد الصالة الأمن، باكتشاف أبطال من البشرة السائدة في أميركا وهم يخوضون القتال ضد البشرة السائدة في أفريقيا.
لكن ما هو مثير للغرابة والطرافة معاً هو أن هوليوود التي بدأت تعاملها مع أفلام الأدغال بتحويل محيطها القريب إلى ديكور من الأشجار والبيئات المناسبة للعب دور القارة الأفريقية، عادت إلى قدراتها الذاتية في استنباط (أو فبركة) أفريقيا عبر إخضاع الأفلام الجديدة (مثل «كتاب الغابة» في العام الماضي) إلى مؤثرات الكومبيوتر غرافيكس بحيث تنتقل أفريقيا (مجدداً) إلى هوليوود عوض الذهاب إلى هناك.
الاختلاف أن الدافع قبل مائة سنة وأقل كان الحد من التكاليف، بينما اليوم هو في إعادة ابتكار أفريقيا التي لم تعد كما كانت بعدما غزتها الحضارة والمشكلات الأخرى في السنوات الخمسين الأخيرة.