«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال

سالمة صالح تكتب عن تجربتها المؤلمة

«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال
TT

«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال

«عام السرطان»... سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال

صدر عن «منشورات الجَمل» كتابٌ جديد يحمل عنوان «عام السرطان» للقّاصّة والروائية العراقية سالمة صالح المُقيمة في برلين حالياً. ونظراً لصعوبة تصنيف هذا الكتاب السردي فقد وضَعَتهُ الكاتبة في خانة «تجارب» بينما ارتأى الشاعر فاضل العزاوي أن يسمّيه «رواية» في الكلمة المُعبِّرة على دبجها على الغلاف الأخير. وعلى الرغم من صحّة التصنيفَين أعلاه إلاّ أن سالمة صالح تُعرِّج في الصفحات الأخيرة من الكتاب لتصِفهُ بما يُشبه «التقرير» عن تجاربها الشخصية مع مرض السرطان. وبما أن العمل أدبي بامتياز وليس تقريراً، فيمكن تصنيفه «بالسيرة الروائية» التي تتماهى فيها المؤلفة مع راوية النص، كما يذهب الناقد عبد الله إبراهيم، ليقدّم لنا في خاتمة المطاف خطاباً أدبياً مُهجّناً يستمد مادته الأساسية من الرواية والسيرة الذاتية في آنٍ معا.
تُشْبِه بِنية هذه السيرة الروائية سجادة مُتقنة الصنع لا تحتمل الخطأ في حياكة نسيجها، ورسم أشكالها المجسّمة بطريقة فنية مُبهِرة لا تُخطِئها العين الحصيفة. فعلى الرغم من ضراوة المرض الذي تعرّضت له الراوية إلاّ أنها حافظت على حبكة الرواية، وحرصت على إيقاعها الداخلي المُتوازن، والتزمت بلغة مشذّبة خالية من الزوائد والاستطرادات.
تمتلك سالمة صالح رؤية أدبية في تجربتها القصصية والروائية، ويستطع القارئ الكريم أن يتلمّس في منجزها السردي بعض المحمولات الفنية والفكرية والجمالية التي استلهمتها من قراءاتها الواسعة، وتخصصاتها الدقيقة فهي ترسم، وتعزف، وتصوِّر، وتترجم، وتكتب نصوصاً قصصية وروائية يعتمد بعضها على أبحاثٍ عميقة كما هو الحال في سيرتها الروائية «عام السرطان» التي تغصّ بمعلومات علمية دقيقة عن نوعين من السرطان وهما بالألمانية «الموربوس هودجكِن والكارزينوم» حيث أُصيبَت بهما في بداية 2013 وتماثلت للشفاء قبل نهاية العام ذاته بثلاثة أيام، وقد سمت ذلك العام بـ«العام المفقود» وهو توصيف مجازي جميل كان يصلح أن يكون عنواناً مثيراً للسيرة الروائية برمتها.
الإحساس بالفراغ
لم تشعر الراوية بالصدمة حتى بعدما عرفت أنّها مُصابة بالسرطان وأنّ هذين النوعين غير قابلين للشفاء لكنها شعرت بفراغ كبير، وتوصّلت إلى قرار سنعرفه عند اللحظة الحاسمة التي تمثلت بصدمة زوجها «فاضل» وهو يتلقّى خبر إصابتها بصوت متهدِّج اضطّرها لأن تشدّ من عزيمته قائلة: «لا تبكِ فإنني لم أمتْ» (ص11) وكأنها توحي لنا بأنها ستقاتل هذا المرض اللعين بكل ما أوتيتْ به من قوة. لم يحضر فاضل كثيراً في النص السيري ولا الابن الوحيد محمد لكننا نتحسس وجودهما وانعكاس ظلالهما على تطورات الأحداث التي تشهدها بطلة النص وكائنته السرديّة الوحيدة، وتحسباً لأسوأ الاحتمالات أوضحت لفاضل طريقة استعمال الغسّالة الكهربائية، والصرّاف الآلي، وأين يجد المواد الاستهلاكية في السوق في أثناء غيابها في أروقة المستشفى التي تتحمّلها على مضض.
لا يمكن متابعة مراحل المرض كلها بدءاً من التشخيص الأولي وانتقاله من الغدد اللمفاوية في الرقبة إلى الطحال، مروراً بالعلاج الكيماوي والتأثيرات الجانبية لبعض الأدوية، وانتهاءً بمرحلة الشفاء التام وقهر المرض كلياً بعد أن سبب لها الكثير من الألم، والإرهاق، وسقوط الشعر، وتخفيض الكريّات البيض، وتضاعف دقّات القلب، والشعور بالغثيان، وألم شديد في الأسنان وعظام الجمجمة، ووجع في المعدة والأمعاء، وتجلّط في الرئة، وتورّم في الساقين، والتهاب في الأوردة، وخدر في أصابع اليدين والقدمين، وحالات الإغماء القصيرة وسواها من الأعراض المُوجعة والمُحرجة في بعض الأحيان. لنمعن النظر في هذه الجُمل المُقتضبة التي تكشف عن حجم الألم الذي كانت تعانيه الراوية حينما تقول: «أَفقتُ في الهزيع الأخير من الليل وصرتُ أعوي مثل ذئب جريح وأنا أتنقّلُ في المنزل» (ص28). وفي موضع آخر سبب لها بعض الحُقَن الطبية ذعراً لا مثيل له حيث تصفه الساردة كالآتي: «كنتُ أسمع ضربات قلبي تدقُّ طوال الوقت فتجعل النوم متعذراً، كان ذلك هو الجحيم بعينه» (ص64).
المعطيات الثقافية
من أبرز المحمولات الفكرية في هذا النص السيري هو إحساس الراوية التي دهمها المرض العُضال في سنّ متقدمة بعض الشيء بأنها أصبحت مثل «ذرّة غبار معلّقة في الهواء» (ص86). يمكن استنتاج أفكار كثيرة من متن هذا النص الذي يتمحور في جانب منه على الضعف البشري من جهة، وعلى المكابرة من جهة أخرى، وقد رفضت زيارات جميع المعارف والأصدقاء لأنها لا تريد لأحد أن يراها في أشدّ حالاتها ضعفاً.
على الرغم من المخاطر الجمّة التي كانت تُحاصرها من الجهات الأربع إلاّ أنها كانت تفكر بشجيرة «الحبّة الخضراء» وقد طلبت من أحد أصدقاء البستنة أن ينقلها من الحديقة المُستأجرة إلى أصيص، كما كانت تستمع إلى مقاطع من سيمفونية لبرامز، وتتمنى لو أنها سجّلت الموسيقى الوحشية التي انطلقت من إحدى الكنائس المجاورة، وترغب في تصوير بعض الأزهار النادرة التي تشبه قناديل مشتعلة.
لا بد أن تُثير الراوية طبيعة العناية المركّزة التي تتلقاها سواء في المستشفى أو في دار النقاهة وتستغرب لهذه المؤسسة الطبية التي تبذل قصارى جهدها لإنقاذ حياة أي مريض سواء أكان طفلاً رضيعاً أم شيخاً طاعناً في السن فتبوح لأحد الأطبّاء قائلة: «إننا نُجاهد هنا من أجل حياتي الشائخة، وفي مكان آخر يموت في الحروب آلاف من الشبّان» (ص85).
تُمجِّد الكاتبة أهمية المعرفة، فلا المنصب، ولا الجاه، ولا اللقب هو ما يضفي على الإنسان هيبته لأنها موقنة تماماً بأنّ «المعرفة تمنح المرء مهابة لا يمنحها المال ولا المركز الوظيفي أو السلطة» (98). وهي تنتمي من دون شك إلى أصحاب المعرفة الذين يرون الأشياء على حقيقتها، ويتلذذون بالمعطيات الثقافية والفكرية والجمالية.
وعلى الرغم من الآلام الممضّة التي تعرّضت لها الراوية إلاّ أنها تمكنت في خاتمة المطاف من قهر هذا المرض اللعين، ولعل النهاية السعيدة التي رسمتها الكاتبة سالمة صالح تعزّز انتصارها في هذه الملحمة الفردية حينما واجهت ضراوة الموت بأقسى أشكاله المرعبة. صحيح أنها نسيت بعض الأشياء التي جاءت لشرائها من السوق وهي في طريقها إلى محطة القطار لكنها رأت شخصاً في «مايباخ أوفر» لم تتذكر اسمه، وربما لم تعرف اسمه من قبل لكنها تذكّرت هذا الإنسان الذي كان طالباً في معهد الفنون الجميلة قبل 47 سنة فقالت في سرِّها: «ما زلتُ أحتفظ بذاكرة يقظة. لقد نجوت» (ص118).
تتمتع هذه السيرة الروائية بحضور قوي لعنصري الزمان والمكان ومن خلالهما يمكن التعرّف على شبكة العلاقات الشخصية للكائنة السيرية وأنشطتها الثقافية المتعددة سواء في برلين أو بعض المدن الألمانية أو خارج البلاد، كما أن حركتها خلال عام كامل من البيت إلى المستشفى أو دار النقاهة أو السوق أو الأندية الثقافية تكشف عن خريطة المدينة وما تنطوي عليه من معالم عمرانية حديثة، وحدائق غنّاء طالما توقفت الكاتبة عند شجيراتها وأزهارها الجميلة التي لا يكّف بعضها عن مقارعة الموت الذي يختبئ وراء أقنعة مخيفة.
لا مفرّ من الإشادة بالبناء العضوي الرصين لهذه السيرة الروائية الصادقة التي عالجت فيها الكاتبة ثيمة حسّاسة وخطيرة دوّنت تفاصيلها بلغة أدبيّة رفيعة لا تخلو من الجديّة والدُعابة والفرح.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».