جيمس كومي.. رقم مفاجئ في سباق البيت الأبيض

إعادة التحقيق في بريد كلينتون الإلكتروني تثير عاصفة في وجه مدير الـ«إف بي آي»

جيمس كومي.. رقم مفاجئ في سباق البيت الأبيض
TT

جيمس كومي.. رقم مفاجئ في سباق البيت الأبيض

جيمس كومي.. رقم مفاجئ في سباق البيت الأبيض

وضع جيمس كومي، مدير «مكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي» (الإف بي آي)، يوم الجمعة قبل الماضي، نفسه ومؤسسته القضائية والأمنية المؤثرة في حياة الأميركيين، في وضع غير مسبوق. وجرّ عليه تهمة التدخل المتعمد بهدف التأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وذلك عندما أعلن إعادة فتح التحقيق في رسائل البريد الإلكتروني المتعلقة بالمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وحقًا، منذ ذلك الحين لا يتوقف هذا الرجل الذي فتحت عليه أبواب الانتقاد من جميع الجهات، سواءً من الديمقراطيين أو المسؤولين السابقين والحاليين والمؤرّخين والمحللين السياسيين، بسبب توقيت هذا القرار الذي لا بد أن يوثر في مسار الانتخابات. وذلك لأنه سيثير موجة من الشكوك والتساؤلات والتكهنات حول ما يمكن أن تحويه «الإيميلات» المكتشفة حديثًا من دون أن تتاح الفرصة الزمنية الكافية لكلينتون لتبرئة نفسها وتوضيح الحقيقة، وكذلك عن ماهية المسار القانوني في حال ثبوت الإدانة، وكيف سيكون موقف مكتب التحقيقات الفيدرالي في حال عدم وجود إدانة.
أثار إعلان جيمس كومي، مدير «مكتب التحقيقات الاتحادي الأميركي» (الإف بي آي) إعادة فتح التحقيق في رسائل البريد الإلكتروني (الإيميل) المتعلقة بهيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية، عاصفة من الانتقادات، بل والتهم بتسييسه الـ«الإف بي آي» ووضعه في خضم صراع انتخابي بغيض. وطرح كثيرون علامات استفهام سياسية حول أهداف كومي من اتخاذ هذه الخطوة وفي هذا التوقيت الحرج، وعدم التزامه بالقواعد المتعارف عليها من الامتناع عن إذاعة أو تسريب أي معلومات من شأنها التأثير على مسار الانتخابات في فترة 60 يوما قبل إجراء التصويت. وفي المقابل، ثمة من طرح شكوكًا بأن الرجل يحاول حماية نفسه أكثر من اهتمامه بالتأثير على مسار الانتخابات الرئاسية، وآخرون رأوا أن فعلة كومي تؤدي إلى زعزعة ثقة الرأي العام الأميركي بالوكالات الاتحادية مثل الـ«إف بي آي» بل وفي عمل وزارة العدل الأميركية نفسها.

الآراء مع.. وضد
وعلى صعيد آخر، فتح إعلان كومي جدلاً أخلاقيًا حول مدى صوابية أو خطأ خطوته في ظل القيم الأخلاقية والمهنية التي تحكم عمل وكالات إنفاذ القانون في البلاد. وهنا أيضًا تباينت الآراء ما بين هجوم شديد وعاصف ضد كومي وتحذيرات من تأثير إعلانه فتح التحقيق على مسار الانتخابات وعلى ثقة الرأي العام الأميركي، وبين تأييد وتصفيق وثناء من الجانب الآخر على كومي - وهو من مناصري الحزب الجمهوري - الذي يرى مؤيدوه أنه رجل شجاع أدى واجبه دون الخوف من لوم اللائمين.
كان الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي عين كومي في منصبه خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2013، أول المدافعين عن مدير الـ«إف بي آي»، قبل أن ينتقده تلميحًا وليس بالاسم لاحقًا، ففي مقابلة صحافية نشرت صباح الأربعاء الماضي، قال أوباما: «لا أعتقد أن هناك قاعدة عندما يكون هناك تحقيقات. نحن لا نعمل على أساس تلميحات أو معلومات ناقصة أو تسريبات نحن نعمل على أساس قرارات ملموسة تم إجراؤها». ومن ثم سعى الرئيس إلى النأي بنفسه عن الجدل الدائر، رافضًا التعليق على سير التحقيق واكتفى بالقول: «لقد تعمدت بذل أقصى الجهد لكي أثبت امتناعي عن التدخل فيما يفترض أن تكون عملية مستقلة».

مهاجمون و«نيران صديقة»
أما عن المهاجمين بلا تحفظ فحدث ولا حرج، إذ جاءت سهام الانتقادات والاتهامات من كل حدب وصوب. والملاحظ أنها لم تأت فقط من جانب الساسة والمؤيدين الديمقراطيين الذين صدموا من توقيت إعلان كومي، وشعروا بقلق جدي على وضع مرشحتهم هيلاري كلينتون وحظوظها في السباق الرئاسي، بل جاءت أيضًا من «نيران صديقة» عبر بعض كبار قادة الحزب الجمهوري. إذ قال رئيس السيناتور تشاك غراسلي، لجنة الشؤون القضائية بمجلس الشيوخ، إن «رسالة كومي كانت غامضة، فهو لم يوضح الخطوات التي سيأخذها المكتب والضرورة الملحة في إعادة النظر في الرسائل في هذا التوقيت». وتابع غراسلي: «بينما لا أتفق مع أولئك الذين اقترحوا أن تكون التحقيقات سرّية، وتُجرى بعد الانتخابات، فإنني أوافق على أن إعلان كومي لم يقدم تفاصيل كافية. ولسوء الحظ، هذا ليس عدلاً لا للكونغرس ولا الشعب الأميركي لأنه لم يعط تقييما كاملا عن الكشف».
في هذه الأثناء، تشير مصادر داخل الـ«إف بي آي» إلى أن المناخ العام داخل «المكتب» هو الظلام والغموض حيث لا أحد يريد أن يتكلم أو يرغب في التنبؤ بما ستحمله الأيام المقبلة. ومع تكتم الـ«إف بي آي» إزاء سير التحقيقات المبدئية في الوقت الراهن تتزايد في بعض الأوساط تكهنات بأن رسائل البريد الإلكتروني قد تحمل مفاجآت كبيرة. ولكن، مع هذا، وقع أكثر من مائة من المدعين الاتحاديين السابقين ومسؤولي وزارة العدل بيانًا انتقدوا فيه كومي. كذلك نشر كثير من المسؤولين السابقين مقالات في الصحف الأميركية انتقدت مدير الـ«إف بي آي» واتهمته بانتهاك كل المبادئ والقواعد المتعارف عليها بتحاشي التدخل في السياسة.
وشنت صحيفة الـ«نيويورك تايمز» العريقة، التي تساند - مثل معظم الصحف الوطنية الجادة - المرشحة الديمقراطية، حملة شعواء ضد كومي. وقالت إن «رسالته القصيرة والغامضة إلى رؤساء لجان الكونغرس يوم الجمعة الماضي أدت إلى إحداث هزة كبيرة في معركة الانتخابات حول رسائل بريد إلكتروني قد تكون، أو لا تكون، ذات صلة بالتحقيقات السابقة التي سبق أن أجراها (المكتب) حول خادم البريد الإلكتروني الخاص بهيلاري كلينتون». وتابعت الصحيفة أنه تبين أن كومي لا يعرف شيئا عن فحوى رسائل البريد التي تم العثور عليها أثناء تحقيق منفصل في رسائل أنتوني واينر زوج هوما عابدين، إحدى مستشارات هيلاري كلينتون والمقربات منها. أيضًا رأت الصحيفة أن كومي «لم ينظر إلى الآثار المترتبة على إعلانه قبل أيام معدودات من الانتخابات»، ومن ثم، اتهمته بأنه كان أكثر حرصًا على حماية نفسه من اتهامات يوجهها إليه الكونغرس حول إخفاء معلومات، وشككت الصحيفة في حصول المحققين الاتحاديين على أمر قضائي لفحص رسائل البريد الإلكتروني.
وبالتالي، اعتبرت الـ«نيويورك تايمز» أن قرار كومي كان متهورًا وعديم المسؤولية «بشكل مذهل»، خصوصا أنه سيتوجب على وزارة العدل وعلى الـ«إف بي آي» فحص مئات الآلاف من رسائل البريد الإلكتروني لتحديد ما إذا كان هناك حقًا أي شيء له صلة بكلينتون قبل 8 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، أي يوم الاقتراع في انتخابات الرئاسة. ورأت أن ذلك بمثابة خلق «سخونة وتشويق للانتخابات السياسية مشابه لسخونة وتشويق مباريات كرة القدم»، قبل أن تشير إلى غضب حقيقي في أوساط موظفي إنفاذ القانون - أي الأجهزة الأمنية - من الإدارتين الديمقراطية والجمهورية، وداخل الكونغرس، الذين يتمسكون بقاعدة معروفة هي تحاشي نشر معلومات عن تحقيقات خلال الفترة التي تسبق الانتخابات بمدة 60 يومًا، كي لا يكون لتلك المعلومات أي تأثير على التصويت والناخبين. الـ«نيويورك تايمز»، من جهة ثانية، وفي تقارير أخرى شبّهت كومي بمؤسس الـ«إف بي آي» الشهير إدغار هوفر (ومديره بين عامي 1924 و1972، وهو الرجل الذي يحمل «المكتب» في العاصمة واشنطن اسمه)، معيدة إلى الأذهان دسّ هوفر أجهزة تصنت في مكتب زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ ومنزله. وذكر كاتب المقال سكوت شين أن وجهة نظر جيمس كومي هي بأن على وكالات إنفاذ القانون المحافظة على الأمن بعيدًا عن أي توجهات سياسية أو تأثيرات خارج القانون. وأشار الكاتب إلى محاضرة سبق أن ألقاها كومي في جامعة جورجتاون العام الماضي أشار فيها إلى «التعلم من أخطاء الماضي».
أما سانفورد أونغار، الأكاديمي والباحث المتخصص في تاريخ الـ«إف بي آي» بجامعة جورجتاون، فقال معلقًا على تصرّف كومي: «أنا لا أقصد الإساءة إلى كومي لكن المقارنة ظالمة ما بين كومي وإدغار هوفر، فالذين يعرفون جيمس كومي جيدا يدركون أنه لم يتصرف لترجيح كفة الانتخابات إما لصالح كلينتون أو ترامب، وهو إذا كان مذنبًا في شيء، كما يقولون، فذنبه نوعٌ من الغطرسة الأخلاقية والرغبة في الظهور بوضع الرجل المستقيم الطاهر اليد على الملأ».
وفي العاصمة واشنطن، أيضًا، تلقى كومي انتقادات قاسية من إريك هولدر، النائب العام (وزير العدل) السابق، الذي كتب مقالا في صحيفة الـ«واشنطن بوست» شدد فيه على أن كومي «ارتكب خطأ فادحًا، وأن الآثار المحتملة لإعلانه فتح التحقيق ستكون شديدة وستتأثر معها ثقة الجمهور في النظام بشكل سلبي، وخاصة بوزارة العدل والـ(إف بي آي)».. وكذلك انتقده ألبرتو غونزاليس، النائب العام الأسبق في عهد الرئيس جورج بوش الابن، بقوله أن «يلقي كومي هذا الإعلان من دون الحصول على مزيد من المعلومات ومن دون معرفة دقيقة بفحوى هذه الرسائل الإلكترونية خطأ فادح». كذلك ذكر ريتشارد باينتر، محامي بوش، في مقال صحافي أنه تقدم بالفعل بشكوى إلى مكتب المستشار الخاص للتحقيق ضد قام به كومي، وأضاف: «من المرجح جدًا أن تكون رسالة كومي إلى رؤساء لجان الكونغرس مخالفة للقانون الاتحادي الذي يمنع الموظفين الحكوميين من استغلال مناصبهم للتأثير على نتائج الانتخابات». وعلى الجانب السياسي، انتقد السيناتور هاري ريد، زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، ما فعله مدير الـ«إف بي آي» ووصفه بأنه بمثابة الكيل بمكيالين، وأنه بذلك أقدم على تسييس وزارة العدل وتسييس المباحث الاتحادية.

المدافعون عن كومي
ولكن، بينما يركّز منتقدو كومي على أنه انتهك القواعد المتعارف عليها في تحييد الوكالات الحكومية الاتحادية وأقدم على توريط الـ«إف بي آي» في الصراع الانتخابي، يقول المدافعون عنه إنه أقدم على قرار يراه صحيحًا وينسجم مع ما يملي عليه ضميره المهني. وأشار المدافعون إلى سيل الانتقادات والاتهامات من جانب الجمهوريين التي واجهها كومي في يوليو (تموز) الماضي عندما خرج (بعد سنة ونصف من التحقيق في إيميلات كلينتون) ليعلن عدم توجيه أي اتهامات جنائية ضد المرشحة الديمقراطية. لقد اكتفى يومذاك باتهامها بـ«الإهمال» في استخدام خادم خاص لبريدها الإلكتروني، ومؤكدا أنه لم يحدث اختراق لبريدها من قبل قراصنة الكومبيوتر. وفي حينه، ضغط الجمهوريون طويلا على كومي واستدعوه للشهادة في جلسة استماع بالكونغرس ووجهوا إليه أسئلة واتهامات حادة. وأيضًا، في ذلك الوقت، هاجم الجمهوريون الرجل وشككوا في تورطه بتسييس المباحث الاتحادية ومساندته هيلاري كلينتون، مشيرين إلى لقاء لوريتا لينش وزيرة العدل مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون في أحد المطارات الأميركية، ولمحوا إلى تأثير بيل كلينتون، الرئيس السابق وزوج المرشحة الحالية، على وزارة العدل والتحقيقات التي تجريها.
في أي حال، لم يكن إعلان جيمس كومي المثير للجدل، أول موقف يتحدى فيه جميع الظروف حوله ويخلق دراما تزيد من سخونة الأحداث وتجتذب الانتقادات والاتهامات له. ففي عام 2004 رفض كومي بتحدٍ الاستجابة لمطالب البيت الأبيض عام 2004 للموافقة على عمليات تنصت تابعة لبرنامج «الوكالة الوطنية للأمن القومي» (إن إس إيه)، إذ رفض كومي - وكان في حينه يتولى وزارة العدل بالإنابة بسبب دخول الوزير جون آشكروفت المستشفى - موافقة وزارته على برنامج التنصت، وهو البرنامج الذي أصبح بعد ذلك في قلب عملية كشف النظام الأميركي الواسع لمراقبة الاتصالات. في ذلك الحين تعرض كومي لكثير من الانتقادات، وخاض بسبب موقفه واحدة من المعارك الداخلية الأكثر شهرة خلال فترة الحرب على الإرهاب التي شنتها إدارة الرئيس جورج بوش، ووقف وزير العدل آشكروفت مع صديقه كومي في رفض التوقيع على برنامج للمراقبة واعتبروه غير قانوني، بل هدد كومي بالاستقالة من إدارة بوش إذا ما جرى تمرير البرنامج. وبعد معركة طويلة امتدت تسعة أشهر، اضطر الرئيس بوش إلى تغيير البرنامج. وهذه أيضا، ليست أول مرة يجد فيها الـ«إف بي آي» نفسه وسط معمعة سياسية، إذ واجه عدد من مديري «المكتب» مشكلات وانتقادات، منهم لويس فريه مدير الـ«إف بي آي» من عام 1993 إلى عام 2001 الذي اختلف كثيرًا مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. غير أن سنوات مؤسس الـ«إف بي آي» إدغار هوفر تظل الأكثر غموضًا وإثارة، ففي سنواته الـ48 عمل «المكتب» بصفته أداة سياسية، وشنّ هوفر حملة شرسة ضد الشيوعيين واليساريين مستهدفًا كثيرا من نشطاء الحقوق المدنية، واستخدم سلطاته لابتزاز مسؤولين والتنصت عليهم وابتزازهم. ويشرح إيثان ثيودورس المؤرخ والبروفسور بجامعة ماركيت بقوله: «لعب الـ(إف بي آي) في تلك الفترة دورا مهما من وراء الكواليس لصياغة السياسة الأميركية خلال الحرب الباردة».

بطاقة شخصية
ولد جيمس كومي في 14 ديسمبر (كانون الأول) عام 1960 في مدينة نيويورك، وهو متزوج من باتريس، وأب خمسة أطفال. والمعروف عنه أنه ينتمي للحزب الجمهوري ولقد تبرّع لحملة السيناتور الأميركي الجمهوري جون ماكين في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2008، كما تبرّع لحملة المرشح الجمهوري ميت رومني في انتخابات 2012 الرئاسية.
حصل على درجة البكالوريوس من كلية ويليام وماري بولاية فيرجينيا، وعلى الإجازة في القانون من كلية الحقوق بجامعة شيكاغو. وفي بداية حياته المهنية شغل منصب أستاذ مساعد بكلية الحقوق بجامعة ريتشموند في فيرجينيا.
ومن عام 1996 إلى عام 2001 تولى كومي منصب المدعي العام للمنطقة الشرقية من ولاية فيرجينيا ومنصب مساعد وزير العدل للمنطقة الجنوبية من نيويورك. وتولى منصب نائب المدعي العام للولايات المتحدة من 2003 إلى 2005 وتدرّج في عدة مناصب أخرى في وزارة العدل، منها منصب المدعي العام الأميركي للمنطقة الجنوبية من نيويورك؛ حيث تولي التحقيق في عدد من جرائم الإرهاب والقضايا الجنائية الكبيرة.
وقبل أن يتولى كومي منصب مدير الـ«إف بي آي» عمل باحثًا في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، وكان يشغل في الوقت نفسه منصب عضو بمجلس إدارة بنك إتش إس بي سي HSBC، وفي الفترة من 2010 إلى 2013 عمل مستشارًا قانونيًا لشركة بريدجووتر، وهي شركة لإدارة أموال المؤسسات في ولاية كونكتيكت، وقبلها عمل نائب رئيس ومستشارا عاما في شركة لوكهيد مارتن العالمية. وفي سبتمبر عام 2013 عيّن مديرًا للـ«إف بي آي»، وجاء تعيينه في وقت اتسعت معه دائرة فضيحة تجسس أجهزة الاستخبارات الأميركية على الأميركيين من جانب، وعلى الدول الأخرى وقادة أوروبا من جانب آخر. وهو وإن كان قد عيّنه في هذا المنصب الحساس رئيس ديمقراطي، فإنه كان يعد من أبرز المسؤولين في وزارة العدل إبان عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، وهو متخصص في شؤون الأمن القومي لأكثر من عشرين سنة، وله سمعة جيدة ومواقف شجاعة واستقلالية كبيرة.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟