أموال «الحرس الثوري» سر الأزمة مع روحاني

الحكومة الإيرانية تنفي تطبيق عقوبات داخلية على «فيلق القدس»

أموال «الحرس الثوري» سر الأزمة مع روحاني
TT

أموال «الحرس الثوري» سر الأزمة مع روحاني

أموال «الحرس الثوري» سر الأزمة مع روحاني

ما كاد ينقشع غبار عاصفة فضائح الفساد التي هزت أركان النظام الإيراني، عقب تسريب مجهولين وثائق الرواتب الفلكية، حتى انفجرت في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي أزمة جديدة بين حكومة حسن روحاني والحرس الثوري الإيراني، وذلك بعدما كشفت صحيفتا «كيهان» الرسمية و«جوان» المتشددة عن امتناع بنكي «ملت» و«سبه» عن تقديم خدمات مصرفية للذراع الاقتصادي للحرس الثوري الإيراني؛ مجموعة «خاتم الأنبياء».
وقد أكدت الصحيفتان وجود قرار إداري صادر عن بنكي «ملت» و«سبه» برفض تقديم خدمات لمجموعة «خاتم الأنبياء» على صعيد التعامل الخارجي، بسبب إدراج المجموعة في قائمة العقوبات الدولية.
يبدو أن المشكلة المندلعة بين حكومة الرئيس حسن روحاني والحرس الثوري في إيران، حول غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حسب المتابعين المطلعين، أوسع مما ذكرته وتذكره وسائل الإعلام الإيرانية. إذ سرعان ما خرج الخلاف من دهاليز السياسة وأروقتها إلى العلن بشأن عضوية إيران «السرية» في «قوة المهمات المالية» (فاتف) FATF، وتحولت القضية إلى جدل سياسي كبير في الساحة السياسة المشتعلة. ولقد منحت القضية الذرائع المطلوبة لفتح جبهة جديدة بين الحكومة والحرس الثوري، مع توجيه الحرس وجناح المحافظين والمتشدّدين اتهامات إلى حكومة روحاني والبنك المركزي الإيراني بتطبيق «العقوبات الدولية» في الداخل، نتيجة لانضمام إيران إلى المنظمة الدولية المولجة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

منظمة دولية ناشطة
في عام 1989، اجتمعت سبع دول صناعية كبرى، هي كندا وفرنسا وألمانيا واليابان وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، لتأسيس هيئة دولية تضع معايير خاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فضلا عن إجراءات وسياسات لشفافية النظام المالي والمصرفي الدولي. وبالفعل، أسست هيئة أو منظمة تحمل اسم «قوة المهمات المالية لمكافحة غسل الأموال» (فاتف) FATF (Financial Action Task Force on Money Laundering).
وتختار هذه الهيئة رئيسها سنويًا، ويرأسها حاليًا المسؤول القضائي الإسباني المختص في الشؤون المالية خوان مانويل فيغا - سيرانو. وتنضوي 37 دولة من الدول الاقتصادية الكبرى في الوقت الحاضر تحت خيمة هذه الهيئة، وهي تضم دول «مجلس التعاون الخليجي» والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تسع دول تكافح غسل الأموال، من ضمنها مجموعة دولية مالية خاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تضم كل الدول في المنطقة باستثناء إيران وتركيا وإسرائيل. وتقيم الأمانة العامة في «فاتف» أداء الدول في مكافحة غسل الأموال ومحاربة تمويل الإرهاب، وتنشر بيانات عقب اجتماعاتها العامة في فبراير (شباط) ويونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) من كل سنة، وتصب الهيئة حاليًا معظم تركيزها على قضية تمويل تنظيم داعش المتطرف والحرس الثوري الإيراني.

تردّد إيراني
هذا، وعلى الرغم من الجدل المحتدم حول عضوية إيران في «فاتف»، ما زالت طهران متردّدة في الانضمام إلى الهيئة، ثم إن إيران ليست عضوًا في «مجموعة العمل المالي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». ولكنها منذ يناير (كانون الثاني) 2016، حصلت على عضوية غير دائمة في «مجموعة العمل المالي الأوروبية الآسيوية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وعلى الصعيد المحلي، حاولت طهران تبديد المخاوف الدولية، من خلال تشريعها قانون مكافحة غسل الأموال في إيران. وقد وافق البرلمان الإيراني على قانون مكافحة غسل الأموال، يوم الثلاثاء 22 يناير 2008، ووافق عليه مجلس صيانة الدستور، الأربعاء 6 فبراير 2008، وتضمن القانون 49 فقرة توضح إطار غسل الأموال في البلاد.
ثم في أول فبراير الماضي، وافق البرلمان الإيراني على قانون مكافحة تمويل الإرهاب، في 17 مادة، بعد أربع سنوات من انتظار تصويت البرلمان عليه. وفي اليوم نفسه، وافق «مجلس صيانة الدستور» الإيراني على تفاصيل القانون، غير أن هذا الإجراء لم يمنع رفع حظر التعامل مع إيران من قبل «فاتف». وجاء تشريع القوانين ضمن جهود حكومتي الرئيسين محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني لإخراج إيران من القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب وغسل الأموال.
مع هذا، بقيت إيران مصدر قلق للمجتمع الدولي في السنوات الأخيرة، خصوصا في ظل تقارير المنظمات المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. فمنذ 2008، تحتل إيران صدارة قائمة الدول غير المتعاونة التي تشكل مخاطر مرتفعة، ورغم الاتفاق النووي بين إيران والدول 5+1، فإن «فاتف» دعت الدول الأعضاء إلى فرض إجراءات مشددة.
وفي أول بيان علني لهيئة «فاتف»، منذ دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، طالب فريق العمل المالي في الهيئة بشكل «استثنائي وخاص»، خلال فبراير الماضي، الدول الأعضاء بتحذير مصارفها من مخاطر التعامل مع إيران، كما أعرب فريق العمل هذا عن قلقه من النشاط الإيراني في مجال غسل الأموال ودعم الإرهاب. ومن ذلك الحين، تقابل البنوك الدولية طلبات إيران للعودة إلى المنظومة المالية الدولية بالرفض. وفي المقابل، تحاول الحكومة الإيرانية إزالة تلك الموانع عبر عضوية «فاتف» لأن قوانينها هي التي تشكل حجر عثرة أمام تطلعات روحاني للخروج من المأزق الاقتصادي. وقد جاء بيان الهيئة بعد مرور شهر فقط على تنفيذ الاتفاق بتخفيف العقوبات المفروضة على إيران، المتعلقة بنشاطاتها النووية، ليؤكد على المخاطر التي قد تلحق بالمصارف الدولية والآسيوية جراء تجديد علاقاتها المالية مع إيران.
وبعد مرور أربعة أشهر، قرّرت «فاتف»، خلال اجتماع للدول الأعضاء الـ37، في كوريا الجنوبية، إبقاء إيران إلى جانب كوريا الشمالية على القائمة السوداء التي تضم البلدان عالية المخاطر، إلا أنها في المقابل رحّبت بوعود طهران بتحقيق تحسن، كما دعت إلى تعليق بعض القيود المفروضة على إيران لمدة سنة. وذكر بيان الهيئة أنه ما لم تحسن إيران سجلها فيما يتعلق بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، كما وعدت، فإن الهيئة تدعو لإعادة تطبيق إجراءات مضادة قوية، في حين ستدرس المزيد من الخطوات الإيجابية إذا ما حدث تحسن. ومن ثم، قالت في بيان لها إنها «ترحب بتبني إيران خطة عمل لمعالجة أوجه القصور الاستراتيجية لديها (في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب)، والالتزام السياسي الرفيع المستوى بذلك». وبعد ذلك، علّقت «فاتف» إجراءات مضادة لمدة 12 شهرا كي تراقب التقدم الذي تحققه إيران في تطبيق خطة العمل.

أموال الحرس الثوري
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من الترحيب بشأن التزامات طهران، جددت «فاتف» مخاوفها بشأن «خطر تمويل الإرهاب النابع من إيران، والتهديد الذي يمثله ذلك للنظام المالي العالمي». كذلك، جددت الهيئة دعوتها للدول في أنحاء العالم «لمواصلة الإيعاز لمؤسساتها المالية بتعزيز الفحص للعلاقات التجارية والمعاملات» مع إيران. ويذكر أنه في يونيو الماضي، احتلت إيران للمرة الثالثة على التوالي صدارة القائمة السوداء لمؤشر بازل لمكافحة غسل الأموال لعام 2016، من بين 149 دولة شملتها دراسة استقصائية للمؤشر.
وحتى الآن، لا يمكن تحديد حجم أموال الحرس الثوري، وكيفية حصوله على مساعدات الحكومة الإيرانية، ولكن ما يجدر ذكره أنه في السنوات الماضية نشطت استحواذات مجموعتي «خاتم الأنبياء» و«سبانير» بشكل واسع في مجال الاستثمار الداخلي والخارجي، وغدا نشاط الحرس الثوري مصدر قلق أساسيًا حتى بالنسبة للحكومة الإيرانية، لأنه أصبح منافسًا لها في كثير من المجالات الاقتصادية في الداخل.
وراهنًا، يتخوف منتقدو تقديم إيران أي التزامات دولية بشأن غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إضافة إلى الحرس الثوري وذراعه الخارجي (فيلق القدس)، من قطع سبل تمويل حزب الله اللبناني والميليشيات الأخرى الموالية لإيران في عدد من الدول العربية. وكان حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، قد أعلن صراحة في يونيو الماضي أن ميزانية ميليشياته وصواريخها تأتي من إيران بالكامل.
ومن جهتها، تقول الحكومة الإيرانية إن العقوبات الدولية هي سبب عدم تقديم خدمات لتحويل الأموال وتسهيل نقل الأموال في حسابات مصرفية بالخارج، وإن أرادت البنوك الإيرانية ذلك، لكنها تنفي في الوقت نفسه أن يكون الحرس الثوري في مواجهة عقوبات داخلية.

الأموال القذرة
خلال السنوات الماضية، كثر الكلام في إيران عن دور الأموال القذرة في السياسة الإيرانية، خصوصًا في الانتخابات. وأوضح ذلك موقف سبق الانتخابات البرلمانية الماضية بشهور، عندما قال وزير الداخلية الإيراني رحمان فضلي إن «قضية غسل الأموال في إيران متفاقمة إلى درجة أن أموال التهريب والأموال القذرة تلوث الانتخابات الإيرانية». ويميل المراقبون الإيرانيون إلى أن الحرس الثوري، حتى لو لم يشارك مباشرة في عملية غسل الأموال، فإن التيارات المحسوبة عليه وعلى العناصر المتنفذة بدعم من الحرس الثوري تلعب دورًا أساسيًا في غسل الأموال والتهريب داخل إيران.
وفي غضون ذلك، تدافع الحكومة الإيرانية عن عضوية إيران في «تافت». وبحسب وسائل الإعلام الموالية للحكومة، فإن انضمام إيران جزء من تنفيذ الحكومة لقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في الداخل الإيراني، غير أن الجهات الموالية للحرس الثوري اعتبرته تطبيقًا لعقوبات داخلية على الحرس الثوري في إيران. وقالت الحكومة إن الحكومة السابقة تحت قيادة محمود أحمدي نجاد هي من قدّمت القانون لتصويت البرلمان عليه.
وخلافا لما تناقلته وسائل الإعلام الإيرانية حول فرض قيود بنكية على الحرس الثوري، تناقلت وسائل إعلام الحرس تفاصيل لقاء بين رئيس مجموعة «خاتم الأنبياء» الجنرال عباد الله عبد اللهي، والمدير التنفيذي لبنك «سبه» الإيراني محمد كاظم تشقازردي، لنفي ما تم تناقله من قطع التعاون بين البنوك والحرس الثوري.
وبعد هجوم واسع من ممثلي خامنئي (أئمة الجمعة) في عموم إيران، انتقد المتحدث باسم الحكومة محمد رضا نوبخت، في تصريحات غير مسبوقة، الهجوم على حكومة روحاني، وقال إن النقاش حول قضايا مثل «فاتف» تخصصية، و«ليس مكانها وسائل الإعلام والفضاء المجازي ومنابر صلاة الجمعة». كذلك، أعلن نوبخت آن إدارة روحاني حصلت على كل الرخص المطلوبة للتوقيع على الاتفاقية «وإن لزم الأمر، فإنها مستعدة لعرضه على تصويت البرلمان الإيراني»، مردفا: إن الحكومة تطالب بـ«الإنصاف والمروة» في منابر صلاة الجمعة.
وجاء موقف الحكومة الإيرانية هذا بعد أيام من انتقادات لاذعة من خطبة جمعة أطلقها أحمد جنتي، رئيس مجلسي خبراء القيادة وصيانة الدستور، عندما انتقد توجه الحكومة لتوقيع الاتفاقية بقوله: «أنا لا أعرف كيف تجرؤون على توقيع اتفاقية (فاتف) سرًا»، متابعًا: «إنهم يريدون تقديم معلوماتنا المالية والمصرفية إلى الأعداء، باسم مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهذه عقوبات ذاتية». وزاد جنتي على ذلك قوله إن عضوية إيران «تستهدف الحرس الثوري والأجهزة الثورية.. وإن الاتفاقية تستهدف مجموعة (خاتم الأنبياء) التي لا يعرف كثيرون عن خدماتها شيئًا».
بدوره، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، ردًا على الانتقادات، إن قرار الانضمام لـ«فاتف» قرار مشترك بين الحكومة والبرلمان، نافيًا أن يكون موضوع انضمام إيران للهيئة من الاتفاقيات السرية في مفاوضات الاتفاق النووي بين إيران والهيئة الدولية.

الموقف المضاد
في المقابل، هاجم كل من علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي للشؤون الدولية، وكذلك مستشاره الثقافي غلام علي حداد عادل، العضوية. وقال ولايتي إن هذه العضوية «ليست في صالح إيران»، متهمًا بنكي «ملت» و«سبه» بتطبيق عقوبات على الحرس الثوري الإيراني، وذكر أنه لا يجوز أن تعرقل «فاتف» نشاطات «فيلق القدس» وحزب الله اللبناني والمقاتلين الموالين لإيران في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، مضيفا أن المسؤولين «ليسوا ملزمين بالعمل بما تقرره الأجهزة الدولية».
أما حداد عادل، فقال إن خامنئي يرفض «إذلال (فاتف) وتدخلها والاستسلام لها»، مشددًا على أن خامنئي سيعارض أي تعامل لتطبيق العقوبات الخارجية في الداخل الإيراني. وفي الاتجاه نفسه، قال مستشار رئيس البرلمان منصور حقيقت بور إن «عضوية (تافت) تعارض المصالح القومية»، وإن أي تعامل معها يضعف المصالح القومية، كما عدّ العضوية «تقليلاً من كرامة النظام الإيراني، وهو ما لا يمكن القبول به»، حسب زعمه. وتوعد حقيقت بور بـ«إفشال مساعي الحكومة للانضمام إلى الهيئة»، قائلا إن من التحديات التي تواجه عضوية إيران مؤسسات الحرس الثوري المدرجة على قائمة العقوبات الدولية، مثل مجموعة «خاتم الأنبياء» و«فيلق القدس». وفي هذه الأثناء، يقلل حقيقت بور من تأثير الهيئة على نشاط الذراع الخارجي للحرس الثوري، قائلاً: «إن فيلق القدس أنشط من أن تعرقله الاتفاقيات»، مشيرا إلى «أساليب مختلفة» يسلكها قائد الفيلق قاسم سليماني لدعم المجموعات الخارجية التابعة له.
أيضًا في السياق ذاته، قال حسين نقوي، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية الإيرانية، إن رأي خامنئي «سلبي» تجاه انضمام إيران إلى «فاتف»، وعزا ذلك إلى «إشراف المرشد التام على قضايا البلد، ومعرفته بمؤامرات الأعداء أكثر من غيره». وعلى هذا الأساس، فإنه طالب المجلس الأعلى للأمن القومي والحكومة برفض الانضمام «عندما يكون رأي خامنئي سلبيًا».
وأضاف نقوي أن القوانين الدولية التي تستند عليها «فاتف»، حول مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل «مقررة وفق تعاريف الغربيين»، معتبرا أن قبول إيران عضوية الهيئة «انصهار في منظومة دول الهيمنة».

تعريف الإرهاب
من جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أنه في 27 من سبتمبر الماضي، قدم وزير الاقتصاد الإيراني علي طيب نيا تقريرًا إلى البرلمان، وردّ على أسئلة النواب حول انضمام إيران إلى «فاتف»، وكشف طيب نيا أن طهران وضعت شروطا لانضمامها إلى الهيئة، ولا سيما فيما يتعلق «بتعريف المجموعات الإرهابية»، متابعا أن الحكومة «لن تسمح للمؤسسات الدولية بالحصول على معلوماتنا، ولا نقبل بأي تعريف للمجموعات الإرهابية يصدر عن أي هيئة» أجنبية، ثم أضاف أنها لن تطبق «العقوبات الدولية على الأشخاص والمؤسسات الموجودة على أراضيها».
كذلك، قال طيب نيا إن هدف إيران هو الخروج من «اللائحة السوداء». وكانت قد رفعت العقوبات الدولية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي في يناير، بعد ستة أشهر من توقيع الاتفاق بين طهران والقوى الكبرى. إلا أن تصاعد الخلاف الداخلي حول عضوية إيران في «فاتف»، أدى إلى تدخل المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ومن المتوقع أن يحدد المجلس الإطار لمستقبل تعاون إيران مع المنظمات الدولية من هذا النوع.
وفي هذا الصدد، نشير إلى أن المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يتخذ القرارات المتعلقة بأمن البلاد، كان قد وضع «خمسة شروط» لانضمام إيران للهيئة، ولكن القرار الفصل والكلمة الأخيرة يعودان إلى مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي. وفي 14 سبتمبر الماضي، قال علي شمخاني، أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي، إن المجلس وصل إلى «إجماع إيجابي» حول تعاون إيران مع الهيئة، إلا أنه اشترط موافقة المرشد على الانضمام إليها، نافيًا أن يكون القرار جاهزا لعرضه بشكل نهائي على خامنئي.
من جانبه، قال علي لاريجاني، رئيس البرلمان الإيراني، تعليقا على تعاون طهران مع «فاتف»، إن «أي التزام خارج القوانين الإيرانية يجب أن يعرض لتصويت البرلمان»، مردفًا أن البرلمان الإيراني «شرّع قوانين حول غسل الأموال ومكافحة الإرهاب في البرلمان، ويرى من الضروري تنفيذها».
وأخيرًا، بعد تفجر هذه الأزمة، اتضحت حالة الانقسام والشرخ السياسي بين دوائر السلطة بشكل غير مسبوق، مع اقتراب إيران من الانتخابات الرئاسية. وكان خامنئي، في آخر خطاباته، قد حذر من انقسام نظامه إلى قطبين، لكن موضوع انضمام إيران إلى «فاتف» قد يسير على طريق الاتفاق النووي نفسه، إذ يمكن أن يتراجع خامنئي عن بعض ما قاله في العلن عن «الخطوط الحمر» إلى حين خروج الاقتصاد الإيراني المنهار من حالة الطوارئ، قبل دخوله في غيبوبة. والمتتبع لمواقف خامنئي خلال العامين الأخيرين يعرف أن الباطن عند الولي الفقيه أهم من الظاهر.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.