ما يجعل أسبوع باريس لموسمي ربيع وصيف 2017 مثيرا ومختلفا ليست ثورة التصاميم أو عبقرية المصممين بقدر ما هو عدد المصممين الذين قدموا تشكيلات لأول مرة لصالح بيوت كبيرة. من أنطوني فاكاريللو الذي خلف هادي سليمان في دار «سان لوران» مرورا ببشرى جرار التي دخلت دار «لانفان» بعد عام تقريبا من إقالة ألبير إلباز، إلى الحدث الأكبر: انتقال ماريا غراتزيا تشيوري من دار «فالنتينو» إلى «ديور». ما يجعله الحدث الأكبر أنها أول امرأة تدخلها كمصممة وليس كزبونة. فمنذ تأسيس الدار في عام 1947 تعاقب عليها عدة مصممين من إيف سان لوران، جيانفرانكو فيري، جون غاليانو إلى راف سيمونز وآخرون، ولحد الآن، لم يخطر على بال أحد توظيف امرأة لهذا الدور، رغم أن الدار تقوم على الأنوثة والرومانسية أساسا، وليس هناك أفضل من المرأة لكي تفهم هذه الرومانسية وتقدرها. لكن لا بد من الإشارة إلى أن اختيار ماريا غراتزيا تشيوري في هذه الفترة بالضبط ليس اعتباطا أو صُدفة، بل العكس تماما. فقد انتظرت الدار عاما لكي تجد المصمم المناسب، وهذا ما وجدته فيها حسب تصريحات سيدني توليدانو، الرئيس التنفيذي فيها. فهو يتفق مع الكل أنها ليست مصممة عادت، حيث برهنت خلال فترتها في دار «فالنتينو»، حيث عملت لأكثر من عقد من الزمن، أنها تتمتع بحس رومانسي وتجاري في الوقت ذاته، وهذا هو عز الطلب.
من حسن حظها أن مهمتها ليست صعبة، ومن المفترض أن تكون مفروشة بالورود، بالنظر إلى رومانسية الدار من جهة، وعشق مؤسسها للورود والأزهار. فالدار تتمتع بإمكانيات عالية من جهة، كما أنها تدخلها في الوقت المناسب من جهة ثانية، أي بعد فترة فراغ خلفتها استقالة راف سيمونز في العام الماضي. لا أنطوني فاكاريللي ولا بُشرى جرار يتمتعان بهذا الترف. فالأول يدخل دار «سان لوران» بعد هادي سليمان، وهو ما يعني أن مهمته أصعب، لأن سليمان حقق للدار الكثير من النجاح التجاري والأرباح، كما أضفى عليها هالة من الغموض جعلت الكثير من الشباب يرغبون فيها. لحد الآن لا تزال الدار تجتر هذا النجاح وتعيش عليه إن صح القول. بُشرى جرار بدورها دخلت «لانفان» وهي غير مستقرة. فالدار تعاني من تراجع الأرباح وتغييرات داخلية كثيرة، الأمر الذي يضع المصممة تحت المحك فضلا عن مقارنة غير عادلة مع ألبير إلباز الذي كانت أوساط الموضة تعشقه على المستويين الفني والشخصي. وفيما احتمى أنطونيو فاكاريللو بالراحل إيف سان لوران حتى يتجنب المقارنة بينه وبين سلفه، بإغراقنا بتصاميم تعود بنا إلى الثمانينات، فإن بشرى جرار كانت أكثر جرأة وشجاعة، لأنها بقيت وفية لأسلوبها الخاص من دون أن تنسى رموز «لانفان» ومزجها بطريقة عصرية، قد تخض البعض ممن تعودن على أسلوب ألبير إلباز، وتروق للبعض الآخر لما فيها من ثقة وقوة.
ماريا غراتزيا تشيوري في المقابل تأتي في الوقت المناسب والطريق معبد أمامها لكي تستعرض عضلاتها الفنية من دون تعقيدات أو تحامل.
فهي تأتي بعد فراغ تركه راف سيمونز الذي استقال منذ أكثر من سنة شهدت فيه الدار هدوءا ينتظر عاصفة من الابتكار والإبداع. صحيح أن الكل يحترم راف سيمونز، ويعترف أنه أدخل «ديور» أسواقا شابة، إلا أنه لم يعط أفضل ما عنده فيها، ولم يُجسد روح كريستيان ديور الرومانسية ولا نظرته للأنوثة. فهو يتمتع بنظرة عملية وأسلوب هادئ، وما قدمه خلال سنواته الثلاث فيها، كان عبقريا لكن يفتقد إلى العاطفة. كل هذا عبد الطريق أمام ماريا غراتزيا تشيوري وجعل العالم يتحمس لها، تماما مثلما استقبل المؤسس كريستيان ديور، في عام 1947 عندما قدم ما أصبح يعرف بـ«ذي نيو لوك»، وأعاد الرومانسية إلى خزانة المرأة بعد سنوات طويلة من التقشف بسبب الحرب العالمية الثانية. ولأن التاريخ يعيد نفسه، فإن الآمال كانت معقودة على ماريا غراتزيا لكي تعيد للدار رومانسيتها القديمة. وهنا تكمن مشكلة المصممة، فالحماس كان كبيرا لا يضاهيه سوى الآمال المعقودة عليها وكانت غير معقولة بالنظر إلى ما تابعناه يوم الجمعة الماضي. لأن المصممة تتمتع بالاحترام، فإن تبريرات المعجبين كانت أنه لم يكن لديها متسع من الوقت لكي تقدم الجديد بالمعنى الثوري، ستة أسابيع فقط، لكن هذه الفترة أكثر من كافية لمصمم يتمتع بالخيال الخصب وتتوفر لديه إمكانيات «ديور» من أنامل ناعمة إلى حرفيين مهرة يمكنهم تنفيذ كل شيء في وقت وجيز. بيد أن هذا لا يعني أن ما قدمته كان سيئا، وكل ما في الأمر أنه لم يرق إلى حجم التوقعات والآمال.
فقد كان المتوقع أن تكون مثل طفلة صغيرة في محل حلوى وهي تغوص في أرشيف الدار لتترجمه في قطع رومانسية تداعب خيالنا وتوقظ الأحلام بداخلنا. في المقابل كانت هنا تأثيرات كثيرة من «فالنتينو» كادت أن تطغى على روح الدار، باستثناء التفصيل الذي ظهر في مجموعة قليلة شملت فساتين وتايورات وجاكيتات منفصلة.
أقيم العرض في حديقة متحف «رودان»، وهو نفس المكان الذي كان يزينه راف سيمونز، المصمم السابق بالورود والأزهار حتى يعبر عن رومانسيته. هذه المرة، لم تر ماريا غراتزيا تشيوري داعيا لذلك، واستعاضت عن الورود بالتحف الفنية المعروضة في المدخل، وبأرضية وجدران، أقرب إلى القتامة بلونها الرمادي منها إلى حديقة تتفتح بالورود. في البداية أعطى هدوء الديكور وبساطته الإحساس بأنها كانت تستهدف استعماله كخلفية لتصاميم تضج بالألوان والنقشات، لكن يبدأ العرض وتتوالى الإطلالات، وينتابك شعور عارم بأن الفصل الجديد من تاريخ «ديور» يدور حول مفهوم نسوي أكثر مما يدور حول مفهوم أنثوي. فماريا غراتزيا تشيوري، على ما يبدو، واثقة من أنوثتها، ولم تشعر بالحاجة إلى إثباتها، على العكس من راف سيمونز، الذي وجد نفسه تحت عدة تساؤلات وضغوطات لكي يُثبت رومانسيته حتى قبل دخوله الدار بعد خروج جون غاليانو. فهو لا ينتمي إلى المدرسة البلجيكية التي تميل إلى الهدوء فحسب، بل خريج قسم التصميم الصناعي، الأمر الذي يجعل نظرته عملية أكثر منها رومانسية. وحتى يُثبت العكس، بالغ أحيانا في استعمال الورود والأزهار في الديكورات فيما قدمها بجرعات خفيفة في الأزياء. وفي كل الأحوال حقق للدار نجاحا تجاريا لا يستهان به. ماريا غراتزيا تشيوري لم تتعرض لأي تساؤلات من هذا النوع، فهي امرأة، ولا يمكن أن يتم التشكيك في مدى فهمها لما تريده بنات جنسها. يوم الجمعة الماضي أكدت أنها فعلا ستقوم بثورة لكنها نسوية تريد أن تقول بأن بنات جنسها واثقات يردن أزياء عصرية وعملية، ولو من خلال أحذية من دون كعوب. بيد أنه من الظُلم القول: إنها لم تقدم تصاميم أنثوية، فالرومانسية كانت حاضرة في الفساتين المنسابة والتنورات الشفافة والمطرزة بسخاء. المشكلة كانت في لغتها الشبابية، التي كانت تميل في الكثير من الإطلالات إلى الـ«سبور» أكثر منها إلى الرومانسي، إضافة إلى إخضاعها أسلوب السيد كريستيان ديور، الذي ارتبط بجاكيت «البار» المشدود عن الخصر، والتنورات المستديرة، إلى عملية تخفيف وزن وحجم بشكل واضح. فالجاكيتات جاءت أكثر تفصيلا وعصرية، والتنورات أكثر انسيابية وانسدالا مع مبالغة في التطريزات واستعمال الأقمشة الشفافة. وحتى تزيد من خفتها، أرسلتها ماريا غراتزيا من دون تبطين حتى تلعب على مفهوم الخفيف والسميك، والمفصل والمنساب، وذلك بتنسيقها تنورات شفافة مع كنزات صوفية أو جاكيتات مفصلة، وكأنها تريد أن تقول للمرأة بأن التأويلات أمامها مفتوحة على الآخر. فكل ما عليها القيام به أن تضع بصمتها عليها بإضافة ما تريده من تبطين أو عدمه.
الرومانسية بالنسبة للمصمم جوناثان سوندرز كانت أكثر عقلانية وسلاسة. فبعد تشكيلة ناجحة بكل المقاييس في لندن، قدم لدار «لويفي» الإسبانية في باريس، تشكيلة لا تقل نجاحا، عبر فيها عما تعنيه له الموضة وكيف يجب أن تترجم بسهولة في المحلات من دون أن تُعقد حياة المرأة. وإذا كانت إمكانياته الخاصة لا تسمح له بأن يذهب بعيدا في خطه الخاص، فإنه في «لويفي» يتمتع بإمكانيات تفتح له المجال لمنافسة الكبار، بدءا من ديكور العرض إلى الخامات المستعملة، لا سيما الجلود الفخمة، التي طوعها في تصاميم كلاسيكية، لا تحتاج إلى أي جهد لتنسيقها، لأنه قام بهذه العملية بنفسه. أجمل ما في التشكيلة ككل، خطوطها الأنيقة التي قد تبدو كلاسيكية، إلا أنها لا تفتقد إلى التفاصيل المثيرة والمبتكرة التي تجعلها قابلة لتحدي تغيرات الزمن، وفي الوقت ذاته تناسب العصر، من ناحية أنها تخاطب امرأة ناضجة لها الإمكانيات لشراء معطف من جلد «النابا» كما تخاطب فتاة شابة منطلقة تريد أن تستمتع بحياتها وبالموضة في شواطئ إببيزا. وإذا كان في عرضه الخاص بلندن عاد إلى هنري الثامن ليستقي منه فكرة الأكمام المنفوخة، فإنه في عرضه هذا لم ينس أن يضيف رشة إسبانية تجلت في الشراشيب وأقمشة القطن مثلا، ليستحضر لنا راقصات الفلامنكو.
اللافت أيضا في العرض أن الدار التي تأسست على الجلود وتشتهر بها، قدمت حقائب من قماش التنجيد ظهرت فيه صورة وطواط، في لفتة إلى الثقافة الصينية التي تعتبره جالب حظ.
البريطانية كلير وايت كيلر، مصممة دار «كلوي» قررت مؤخرا الانتقال من باريس إلى لندن، وهو ما انعكس على ديناميكية تشكيلتها الأخيرة لربيع وصيف 2017. وظهور خطوط مختلفة تمثلت في بنطلونات مستقيمة ومفصلة، وقطع أخرى أكثر تحديدا. التصاميم المنسدلة بسخاء والبليسيهات والكشاكش التي تُشكل جزءا من إرث الدار الفرنسية، لم تغب تماما، إلا أن اللافت أن ابتعادها عن باريس جعلها تنظر إلى الأشياء من زاوية مختلفة ومتجردة إلى حد ما عن رموز الدار الثابتة.
وهذا ما تشعر به منذ ظهور أول إطلالة، حين ظهرت عارضة في «توب» من القطن الأبيض مزين بالدانتيل تم تنسيقه مع بنطلون أزرق غامق بأزرار ليذكرنا ببنطلونات البحارة، إلى آخر العرض: ديناميكية مع رومانسية شبابية.
ثورة نسوية في دار «ديور» ورومانسية جديدة تشوب أسبوع باريس لربيع وصيف 2017
مصممون يتأرجحون بين الماضي والمستقبل لإثبات أنفسهم
ثورة نسوية في دار «ديور» ورومانسية جديدة تشوب أسبوع باريس لربيع وصيف 2017
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة