يتلو الصحافي المخضرم آلان ميلر قصة طلاب المدارس الثانوية الذين، بعد سنوات من الحقيقة، لا يعلمون شيئا عن مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. فأولئك الطلاب هم في السنة النهائية من دراستهم الثانوية في فصل الدراسات الصحافية، في إحدى أشهر المدارس الثانوية بمدينة نيويورك.
يقول السيد ميلر، الذي نال جائزة بوليتزر الأدبية عن عمله مراسلاً في صحيفة «لوس أنجليس تايمز»: «كان رد فعلهم كالتالي: مهلا! ماذا تقول؟ هل قتل بن لادن؟».
وقصته التي تلاها، كانت نهايتها سعيدة رغم كل شيء. بعد عمله المضني في مشروع محو الأمية الإعلامية، التابع لمنظمة غير ربحية في مدينة بيثيسدا تلك التي أسسها السيد ميلر لمنح المراهقين ما يلزم من أدوات لمعرفة ما يجري في العصر الرقمي الحالي، أصبح الطلاب من مدمني الأخبار. وكانوا يتضايقون للغاية إذا تأخرت نسخ صحيفة «نيويورك تايمز» عن الوصول في الوقت المناسب. وصارت كل قطعة من قطع الأخبار، كمقتل أسامة بن لادن، كما يبدو في بعض الأحيان، هي من المعارف الأساسية لدى كثير من المواطنين الأميركيين حول الأخبار. أما الشباب، على وجه الخصوص، فيحصلون على الأخبار عبر نشرات متفرقة تظهر على هواتفهم الجوالة (ويطلق الخبراء على ذلك اسم: التشرذم الإخباري). وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة من أي وقت مضى لاستمداد الحقائق من مقالات الرأي، أو المواد الدعائية، أو روايات الخيال المحض.
وفي خضم حملة الانتخابات الرئاسية الراهنة التي تتحدى الواقع والحقائق، تثور الحاجة الماسة إلى تلك المهارات أكثر من أي وقت سبق. ويمكنك مشاهدة ذلك جليا في الأسبوع الماضي عندما، خلال مناظرة شبكة «إن بي سي» مع القائد العام للجيش الأميركي، لم يندهش المذيع مات لوير حينما زعم دونالد ترامب - زورا وبهتانا مرة أخرى - أنه عارض الحرب في العراق منذ البداية. ورغم ذلك، فإن إعلاميا محترفا مثل لوير كان لا بد أن يكون مستعدا على نحو أفضل لمواجهة هذه الادعاءات الكاذبة وغيرها من الإطلاقات الإعلامية الخيالية الفارغة، غير أن مشكلته الأساسية كانت الجهل البين - وبدا أنها مشكلة مشتركة في إعلام اليوم (فضلا راجعوا مناظرة مرشح الحزب الليبرالي لانتخابات الرئاسة غاري جونسون على شبكة «إم إس إن بي سي» وسؤاله الساذج خلال المقابلة: «ماذا تعني بحلب؟»).
يقول ليونارد داوني الابن: «هناك حالة من النشاز المعلوماتي غير الصحيح في المجال العام»، وهو المحرر التنفيذي الأسبق لصحيفة «واشنطن بوست»، الذي يوفر كتابه الجديد بعنوان «الإعلام الإخباري: ما الذي ينبغي على الجميع معرفته»، بعض المساعدات في شكل سؤال وجواب (على سبيل المثال: «ما مدى اعتماد الصحافة على التسريبات؟»، وسؤال: «كيف تحاول المصالح الخاصة التأثير على الأخبار في الوقت الحاضر؟»). ويقول السيد داوني، الذي يشترك معه في كتابه كل من سي دبليو أندرسون ومايكل شودسون: «إننا محاطون بالمزيد من الخيارات الإخبارية أكثر من أي وقت مضى». وهذا أكثر بكثير من بضع الصحف المحلية بكليفلاند وثلاث شبكات تلفزيونية التي نشأ على متابعتها. وكل هذه الخيارات الجديدة لا تضيف المزيد من حيث إبلاغ الناس بالأخبار، ولكنها عبارة عن وسائل لحشو المعلومات حشوا مما يؤكد على انحيازها الظاهر.
وأحد الإجراءات التصحيحية الرائدة يجري في مركز محو الأمية الإعلامية الملحق بجامعة ستوني بروك، الذي أسسه هوارد شنايدر المحرر الأسبق لصحيفة «نيوزداي»، حيث تم تدريس أول دورة في المحو الأمية الإعلامية في عام 2007، والتحق أكثر من 16 ألف طالب بالدورة في الجامعة، وفي غيرها من الأماكن، بما في ذلك 11 دولة. وقريبا، سوف تعمل دورات «المساق الهائل المفتوح عبر الإنترنت» (MOOC) على نشر الدورة على نطاق أوسع بكثير.
يقول ريتشارد هورنيك، الذي التحق بجامعة ستوني بروك بعد عدة سنوات من العمل في مجلة «التايمز»: «إننا ندرس للطلاب طريقة تقييم الأدلة ونوعية المصادر، والسعي النشط وراء المعلومات التي لا تتفق مع وجهات النظر من حولهم».
ويقول السيد هورنيك إن جهود البحث عن الحقيقة، مثل «مدقق الحقائق» لدى صحيفة «واشنطن بوست» أو «بولي - فاكت» كبيرة، ولكن هذه الجهود لا تقدم الكثير من الخير إذا كان مستهلكي الأخبار غير قادرين على اتخاذ القرار بشأن من يصدقون أو ماذا يصدقون. أو الأسوأ من ذلك، أنهم لا يهتمون بالأمر بالأساس. وهناك جهود أخرى لدى صحيفة «نيويورك تايمز»، باسم «المصباح»، وهي محاولة من مسار مختلف: حيث تشجع الطلاب على «تقسيم الأخبار» من خلال ما يسمى في عالم الموسيقى بإعادة التوزيع: حيث يصنعون أفلام الفيديو باستخدام قطع وأقاصيص من الإعلانات السياسية، والمدونات، والتعليقات الخاصة بهم.
وما يربط كل هذه الجهود ببعضها هو التشجيع على التفكير النقدي والتشكيك: ما الصحيح؟ وما الكاذب؟ وما المصادر المستحقة للتصديق والثقة؟
قبل بضعة أسابيع، كان أحد الموضوعات المنتشرة على «فيسبوك» هو فصل نجمة شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية ميغين كيلي. وكان تقرير كبير قد ذكر أن السيدة كيلي تحمل الفكر الليبرالي سرًا وتؤيد تولي هيلاري كلينتون لمنصب الرئاسة. وصارت القصة أكثر الموضوعات انتشارا وتبادلها عدد كبير من المستخدمين قبل أن تفتضح في مكان آخر (ثم تتم إزالتها من قائمة الموضوعات الأكثر انتشارًا ومن دون تفسير واضح)، مما يؤكد مرة أخرى صحة القول المأثور إن «الكذبة يمكن أن تسافر إلى نصف العالم قبل أن تأخذ الحقيقة أولى خطواتها».
وإذا كنت على دراية بمجال محو الأمية الإعلامية، فقد تكون قد راجعت مصدر الخبر، وبحثت من دون جدوى عن مصدر إعلامي بارز كان قد ذكر القصة أيضا، ثم قررت ألا تصدقها.
قد لا تهم كثيرا الإشاعات حول الشخصيات الإعلامية. ولكن ماذا عن الإبلاغ عن عدد من المدنيين الذين قتلوا في هجمات بالطائرات من دون طيار الأميركية؟ وماذا عن المرشح الذي يتحرك بشكل متسرع وغير دقيق بشأن سياسة البلاد الخارجية؟
أخبرني السيد ميلر قائلا: «إن محو الأمية الإعلامية من المهام العاجلة»، مشيرا إلى أن أفضل وكالات الأنباء قد تجد أنه من المستحيل دفع الناس لتغطية تكاليف جمع الأخبار الخاصة إذا كانوا لا يستطيعون التمييز بين الأخبار الحقيقية من الإشاعات والخداع.
وهناك ثمن لا بد من سداده: المواطنون الذين لا يعلمون الكثير، ولا يهتمون بمعرفة الحقيقة، سوف يحصلون على الحكومة التي يستحقونها. وسوف يكون ذلك أسوأ بكثير من مجرد خبر فصل السيدة ميغين كيلي من عملها.
* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ {الشرق الأوسط}
مشروع محو الأمية الإعلامية في أميركا
طغيان الكمية على النوعية يصدم الخبراء والمتابعين
مشروع محو الأمية الإعلامية في أميركا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة