«بيربري»، «كارتييه»، «بولغاري»، «هيرميس» و«لويس فويتون»، فضلاً عن بيوت أزياء وشركات أخرى كثيرة، أطلقت هذا الشهر عطورًا بنكهات جديدة وقصص مخلوطة بخلاصات تستهدف دغدغة الحواس والارتقاء بالذائقة. فشهر سبتمبر (أيلول)، بالنسبة لنا بداية موسم جديد، وبالنسبة لصناع الجمال والترف يتطلب عطورًا تسجل هذه البداية بكل ما يدعو للتفاؤل والسعادة والتميز.
أغلبية الأسماء المذكورة أعلاه اختارت أماكن مثيرة لإطلاق عطورها، فـ«كارتييه» سافرت بضيوفها إلى جزيرة خاصة في أبوظبي، و«بولغاري» أخذتهم إلى بودابست، ومنها إلى البندقية على قطار الشرق السريع، بينما فضلت كل من «هيرميس» و«لويس فويتون» فرنسا، ودار «بيربري» لندن، تمسكًا بجذورها الفرنسية والبريطانية. القاسم المشترك بينها، باستثناء عطر «ماي بيربري» أنها من العطور المتخصصة والفاخرة، التي ترقى إلى مستوى الجواهر والأحجار الكريمة. «بولغاري» مثلاً أطلقت على عطرها «لا جيم إمبريال» (La Gemme Imperial)، لتعكس هذه الفخامة، وما تتضمنه القارورة من خلاصات نادرة تعبق بسحر يستحضر حضارات غنية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العطر ظهر في عام 2014، وكان موجهًا للمرأة، بينما هو هذا العام يتوجه إلى الرجل حتى لا يشعر بأنه متجاهل. اختارت الدار لهذه المهمة العطار المعروف جاك كافالييه، الذي كان أهلاً لها. فقد سافر إلى عدة وجهات من العالم، وغاص في كتب التاريخ لكي يعيش قصص المغامرات والفاتحين، كما تتبع طرق الجواهر والبخور والمسك والعنبر من دون أن ينسى أن يعرج في طريقه على حدائق غناء وخفية ألهمت تحفًا، تجسدت في 6 عطور، كل واحد منها مستوحى من جوهرة أو حجرة كريمة أو قصة فاتح مغوار، كأنها تُذكرنا بتاريخ الدار.
«بيربري» بدورها طرحت نسخة جديدة لعطرها الأيقوني «ماي بيربري»، أبدعه لها عطارها المفضل، فرانسيس كيركدجيان، واختارت له وجهًا حسنًا ليُروج لها، هو الممثلة ليلي جميس. أهم ما يميز هذا العطر أنه يعود إلى جينات الدار، وتحديدًا معطف «الترانش» الأيقوني المصنوع من الغبردين، ولم تبخل عليه بباقة من أزهار الياسمين ورحيق الخوخ مع نفحات من العنبر ونغمات ورود قوية، من بينها الباتشولي.
بيد أن المثير هذا الموسم هو دخول دار «لويس فويتون» صناعة العطور بكل قوتها وإمكانياتها. فبينما تتمتع كل من «كارتييه»، و«بولغاري»، و«هيرميس» و«بيربري» بتجارب لا بأس بها في هذا المجال، مع تفاوت في السنين والخبرة، فإن «لويس فويتون» ظلت بعيدة عنه لحد الآن، وآخر عطر حمل اسمها كان منذ 70 عامًا تقريبًا، باسم «أو دو فواياج»، فيما كان أول عطر لها باسم «أوغ دابسونس»، أي ساعات الغياب في عام 1927 في عهد ثالث وريث للويس فويتون، غاستون. وهذا ما يجعل عودتها إلى هذا الجانب الآن مثيرًا للتساؤل. هل هو بدافع تسجيل حضورها فيه بعد أن فرضت اسمها في مجالات الأزياء والإكسسوارات وغيرها، وأصبح زبائنها المنتشرون في كل أنحاء العالم يتوقعونه منها؟ أم لأنه قطاع مضمون الأرباح من شأنه أن يعوضها عن أي خسارة قد تتعرض لها في القطاعات الأخرى بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي عمومًا، والصيني والروسي خصوصًا؟ في ظل كل الاضطرابات الجيوسياسية وتقلب أسعار الصرف وتداعياتها السلبية على سوق السلع الفاخرة، ظلت سوق العطور بمنأى عن الخطر تُسجل أرباحًا قياسية في كل موسم. فمن المتوقع أن تصل المبيعات العالمية من العطور الفاخرة إلى أكثر من 29 مليار دولار هذا العام، وأن تنمو بمعدلات تتراوح بين 3 و4 في المائة سنويًا حتى عام 2020، حسب تقديرات مجموعة «يورومونيتور إنترناشونال» للأبحاث. وهذا وحده يكفي للاستثمار فيها. الذكاء في العملية التي تقوم بها البيوت الكبيرة، من «لويس فويتون»، و«كارتييه»، و«بولغاري»، و«ديور»، و«هيرميس» وغيرها، أنها تتوخى الاختلاف والعوم عكس التيار التجاري، بتركيزها على الحرفية في سوق أصيبت بالتخمة، والجميع دخلوه في محاولات مستميتة لاقتطاع حصة منه. ففي كل شهر تقريبًا يُطل علينا عطر باسم جديد يحقق النجاح المطلوب منه، قبل أن نكتشف أنه لا يختلف عما سبقه. وربما هذا ما قصده مايكل بورك الرئيس التنفيذي لدار «لويس فويتون» عندما قال في لقاء أجراه أخيرًا، إن الدار تطمح أن تعيد لصناعة العطور بريقها القديم وروحها العابقة بالصدق والاحترافية. «لقد فقدت العطور روحها.. فإنتاجها بكميات كبيرة، كذلك التسويق المفرط لها، أفقدها شخصيتها المتميزة». أشار أيضًا إلى أن هناك فرصة كبيرة للنمو والارتقاء بهذا القطاع «في حال تم تصوره وتسويقه بطريقة صحيحة مبنية على أسس تحترم تقاليد الماضي، مهما استغرق صنعها من الوقت وتطلب من الجهد».
هذه الأسس حسب ترجمة الدار تجسدت في عنصرين؛ الأول أن يكون لها عطارها الحصري الخاص، والثاني في أن يكون لها مقر رئيسي في مدينة غراس، عاصمة صناعة العطور الفرنسية. فقد وجدت أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يُمكنها من خلالها أن تكتب فصلاً جديدًا من تاريخها يتماشى مع فلسفتها واستراتيجياتها بعيدة المدى. وهكذا أصبح جاك كافالييه بيلترود عطارها الخاص، و«لي فونتان بيرفوميز»، مقرها الرئيسي لصناعة عطورها. فهذه الأخيرة، مؤسسة متخصصة في إنتاج العطور منذ القرن الـ17، تحيطها مساحات واسعة من الحدائق المزدانة بأكثر من نافورة وما يزيد على 350 نوعًا من النباتات والأزهار، الأمر الذي يجعلها المكان المثالي لمثل هذه المغامرة.
فقد بدأت هذه المؤسسة عملها في إنتاج العطور في عام 1640، ثم تعرضت للإهمال طوال القرن الماضي، وكان من الممكن أن يطول إهمالها لولا تدخل الدار، وتوليها مهمة إصلاح المنشأة وتزويد المعمل الكائن بالدور الأعلى من البناية بأحدث المعدات. من جهة أخرى، كان مهمًا أن يتولى العطار المعروف، جاك كافالييه بيلترود، وهو من الجيل الثالث من عائلة تتنفس صناعة العطور في مدينة غراس، إدارتها بحرية تامة. فهو يتمتع بسمعة واسعة ويحظى باحترام في المنطقة. على الأقل هذا ما تشهد له به عطوره الناجحة التي نذكر منها «لو ديساي» من إنتاج إيسي مياكي، و«ميدنايت بويزون» من إنتاج «كريستيان ديور»، و«ستيلا» من إنتاج ستيلا مكارتني، إضافة إلى عطر «كلاسيك» لجان بول غوتييه، و«أوبيوم» الرجالي لـ«إيف سان لوران» وغيرها من العطور.
حسب رأي كافالييه، فإن حرص «لويس فويتون» أن يكون لها مقر خاص بمدينة غراس ليس نزوة أو استعراض قوة، بقدر ما هو ضرورة، «فالوجود في عاصمة العطور مهم جدًا، لأنها تحتضن أفضل العطارين، الذين توارثوا المهنة أبًا عند جد، فضلاً عن التنافس القوي بينهم، وهو ما يُحفز على الإبداع ويدعو إلى السرية أيضًا». وبالفعل فإنه على الرغم من الدعايات التي يقوم بها كثير من البيوت التي قامت بنفس العملية مثل «ديور» وغيرها فيما يتعلق بشرائها منشآت وبيوتًا خاصة بها، فإن سياجًا من السرية يُغلف العطور التي تمخضت عنها هذه الاستثمارات الضخمة، على الأقل وهي في طور التصنيع. أما المنافسة بين العطارين، التي يقصدها كافالييه، فتتمثل في الوصول إلى مكونات وخلاصات نادرة، والاجتهاد في استقطارها بتقنيات حديثة غير مسبوقة، للحفاظ على نكهتها وقوتها، والاستفادة من كل قطرة منها، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن سعر عصارة الياسمين، مثلاً، تتجاوز 130.000 دولار، مقابل قنينة تحتوي على 35 أونصة فقط. أي أن قيمتها تفوق قيمة الذهب بثلاثة أضعاف تقريبًا.
«لويس فويتون» وحتى تكون عودتها قوية بعد 70 عامًا، أطلقت 7 عطور، تدخل فيها عناصر مميزة مثل الجلود، ومسك الروم وأزهار أخرى مستقطرة ومعالجة بطرق جد متطورة، عبأتها في قوارير كريستالية من تصميم مارك نيوسون.
فمن أجل التميز عن غيرها، ركزت بشدة على مفهوم الحرفية، ولم تبخل على عطارها بشيء، ما دام سيجعل هذا الجانب قويًا يُعبر عن ماضيها وطموحاتها المستقبلية.
وبما أنها فتحت الأبواب أمامه على مصراعيها، لكي يجول ويصول في العالم بحثًا عن مواد خام لم يتم استغلالها من قبل، فإنه بعينها لا يملك أي عُذر لعدم تحقيقه المبتغى منه. ولم يُخيب كافالييه آمالها فيه، فخلال رحلة إلى الصين، مثلاً اكتشف وفرةً من نباتات المانجوليا والفل، التي تستخدم عادة لإضافة النكهة إلى الشاي المحلي، شدت اهتمامه فحملها معه إلى معمله وأخضعها لتحسينات جعلتها قابلة للاستعمال في خلطاته الجديدة، عدا أنه عاد إلى تاريخ الدار وعلاقتها بالجلود، وبالتالي لم تغب رائحتها عن بالها ولم يتجاهلها في ابتكاراته.
فـ«لويس فويتون» تدين بكينونتها إلى الجلود، كونها تأسست على صناعة حقائب وصناديق السفر الجلدية وما شابهها للنخبة، كما أن هذه الجلود هي التي تحقق لها الأرباح متجسدة في الإكسسوارات، وتحديدًا حقائب اليد. الآن وبعد دخولها قطاع العطور، فقد تُصبح لها دجاجتان عوض واحدة تبيض لها ذهبًا.
بالعطور.. بيوت الأزياء والجواهر تحاول ربط ماضيها وبمستقبلها
سبتمبر.. موسم الزهور والبخور
بالعطور.. بيوت الأزياء والجواهر تحاول ربط ماضيها وبمستقبلها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة