في أي مكان كنت في محافظة جدة (غرب السعودية)، فلا بد أن تدفعك أقدامك طيلة أيام العيد نحو منطقتي «البلد، والرويس» أقدم أحياء المدينة، لتعيش اللحظة بكل تفاصيلها ومكوناتها، بدءا من الأزقة وحكاياتها المنقوشة على جدران الطيبين، أو بنداء السقا، ودعوة المسحراتي لأهل الحي، وفوانيس الغاز ومركز العمدة، كل هذا يعود مع ثلة من الشباب نجحوا في إعادة سكان الحي إلى جذورهم، لينبشوا في التاريخ ويستحضروه من خلال «القطة».
«والقطة» حسب اللغة الدارجة في جدة، هو ما يجمع من أهالي الحي القاطنين أو أولئك الذين رحلوا عن الحي منذ سنوات طويلة، لإقامة «أمسية» أو المشاركة في احتفال، وقطة العيد أطلقها عدد من شباب حي الرويس لإحياء العيد داخل الحي القديم مع أسر ذلك المكان. وهي محاولة لاستحضار قيمة المكان وجمع التاريخ المنثور في كل الزوايا من خلال استدعاء شيء من الماضي، سواء باللبس، أو العادات، أو الأكلات القديمة، والفنون الشعبية، فجدة تشتاق دوما لأبنائها، وإن خرجوا من المربع الصغير للحي، إلا أنهم يعودون شوقا إلى أزقتهم ويحتفلون بالعيد مع ذكرياتهم على مدار 4 أيام متواصلة، من خلال العيدية، أو ما يطلق عليه في جدة «القطة».
ففي زمن التقنية والحداثة، لم يفرط أبناء العروس في موروثهم، وتحديدا من عاش بين قلاع التاريخ الذي يقول إن جدة التي كانت قابعة في كيلومتر واحد، وعرفت بالمنطقة التاريخية، لعمرها الذي يزيد على 3 آلاف عام. كما أن التاريخ قال إن قبيلة قضاعة استوطنتها بعد هذا التاريخ بنحو 500 عام، وسميت جدة نسبة إلى أحد أبنائها، وبمرور السنين توسعت ليتشكل حي من أبناء القبائل، أقاموا بالقرب من البحر، وعرف ذلك الحي فيما بعد بـ«الرويس».
وتعود حكاية «القطة» لعشرات السنوات، فعندما هجر كثير من العائلات الأحياء القديمة في جدة، رأى مجموعة من شباب حي «الرويس» أن يستقطبوا هذه العائلات وأبنائها للحي من خلال تجمعين، يكون أحدهما في رمضان، والآخر في العيد، على أن يكون تجمع العيد في ثالث أيامه مع دفع رسم رمزي لا يتجاوز 150 ريال عن كل بالغ يعمل في الأسرة، تجمع قبل نهاية الشهر الكريم وتنفق على العشاء والتجهيزات.
وهنا يقول طلال الجحدلي، عمدة حي الرويس، إن هذه التجمعات أو ما يعرف بالعيدية داخل الأحياء القديمة، هي صورة مصغرة لتلاحم الشعب السعودي في كل الظروف والأوقات مع قيادته، وترسل رسالة بأن الشعب بكل أطيافه يعيش لحظة إنسانية جميلة من خلال اللقاء والتشاور في مثل هذه التجمعات.
وأضاف عمدة حي الرويس، أن فكرة إقامة هذه العيدية، هي نتاج حب أبناء الحي الذين لا يزالون يسيرون بين أزقته وباحته، في إعادة المنطقة للواجهة بشكل أو بآخر، وإعادة ما كان عليه الآباء في فترة زمنية سابقة. لذا يعد انطلاق مثل هذه البرامج حراكا اجتماعيا جميلا، لإعادة بعض الموروث الذي فقد في كثير من جنبات المدينة لعدة عوامل، موضحا أن إقامة مثل هذه العادات تمزج القديم مع الحديث عبر هؤلاء الشباب، ويتوافق ذلك مع ما تعيشه المملكة من تقدم في كل قطاعاتها.
وفي كلمة ألقاها، قدم عمدة الرويس شكره ومعايدته لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده، وولي ولي العهد، وأثنى على دور الجنود البواسل على الحدود الذين يدافعون عن الوطن، وجنود الأمن العام الذين يحافظون على الأمن وملاحقة الإرهابيين وغيرهم من الجناة، دون أن يتعكر صفو العامة الذين ينعمون بهذا الأمن والأمان.
وتعيد هذه الأيام التي بنيت بتجميع المال، أو كما يطلق عليه أهالي جدة «القطة» كثيرا من الأكلات الشعبية، إذ تقدم عيدية الرويس أولا ماء زمزم من خلال السقا، عبر جرار طينية تعود بك إلى أكثر من 100 عام، وبعد أن يضيفك «المباشرون» لا بد أن يمر عليك طبق الحلوى «صينية الحلوى اللدو» أو «الغريبة والمعمول»، ومن ثم تحضر تفاصيل الحفل الذي ينتهي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وقبل ذلك تكون قد ملأت بطنك بالوجبة الرئيسية «أرز ولحم بالحمص».
يقول عبد الرحمن المطري، أحد منظمي العيدية في الرويس، إن هذه الفكرة نوقشت مع عدد ممن بقي من سكان الحي، في محاولة لإعادة من غادر المنطقة باتجاه شمال جدة والمناطق البعيدة، وعلى الفور بعد أن اعتمدت الفكرة مع وجهاء الحي سارعنا في إنشاء مجموعة تجمع أغلب أبناء الحي، وقمنا بالتواصل بشكل مباشر مع كبار السن، وجرى الاتفاق على المكان والزمان والمحدد بثالث أيام العيد.
وأضاف المطري، أنه وقبل تسلم المشاركات المالية نقوم بالاتفاق مع عدد من المؤسسات المتخصصة لتجهيز المواقع (مؤسسات لوازم الأفراح)، يليه الاتفاق مع المطبخ، لإعداد الولائم حسب اليوم المحدد، وبعد تجميع نصف المبلغ، يعمد القائمون على هذه التجمعات إلى الاتفاق مع الفِرق الشعبية لإحياء الحفل، مع وضع برنامج ومسابقات خاصة بالأطفال تعتمد على الموروث الشعبي في جدة.
وأشار المطري إلى أن مسابقات الأطفال تعتمد على بعض الألعاب التراثية، إضافة إلى المسابقات الثقافية التي تركز على بعض القصص وحكايات جدة، وتاريخ الحي، لتنشيط ذاكرة النشء الجديد وارتباط آبائهم بهذا المكان الذي نشأوا فيه، موضحا أن عملية التحضير لهذه المناسبة تكون من بداية شهر رمضان، حتى يتسنى إجراء الترتيبات في فترة وجيزة، وحجز ما يلزم، وخصوصا أن العيد يعد موسما ينفد فيه كل شيء ما لم يكن هناك حجز مبكر.
وتجتذب هذه الاحتفالات داخل الأحياء القديمة، كثيرا من الزوار المحليين والمعتمرين، وخصوصا أن جدة تمتلك كل المقومات السياحية من الموروث والمواقع التاريخية، التي جعلتها وجهة للزائرين، وهو ما ذهب إليه عقيل عباد، أحد منسقي برنامج المعايدة، من أن هذه المهرجانات والاحتفالات تلقى رواجا كبيرا من الزائرين ومرتادي جدة.
وقال عقيل إن «القطة» هي حجر الأساس في انطلاق واستمرار حفل سكان حي الرويس، وباقي الأحياء التي استلهمت الفكرة وشرعت في تنفيذها، وخصوصا أن قيمة القطة رمزية، إلا أنها تؤكد على حب المشاركة بين أبناء الحي، ورغبتهم في العودة بشكل أو بآخر إلى مسقط رأسهم لاسترجاع الماضي بكل ما فيه.
وأضاف عقيل، أن فكرة القطة، تعتمد على الالتقاء والمعايدة، وإعادة الذكريات مع كبار السن في الحي، والتعرف عن كثب على كثير من تفاصيل العيد، وما كانوا يمارسونه في سنوات سابقة، كما أن هذه الاحتفاليات تنطلق بألوان غنائية شعبية، بدءا من المزمار، والينبعاوي، مرورا باللون البحري، والخبيتي، للتعريف بكثير من الألوان والرقصات الشعبية، التي تسهم في استقطاب المقيمين والمعتمرين، الذين يتجولون في جدة للاستمتاع بهذه النغمات.
«القَطة» تعيد سكان الأحياء القديمة إلى موروثهم وأزقتهم العتيقة بعد الرحيل
«عمة الحلي والحلوى اللدو والمزمار» أبرز مظاهرها

جانب من توافد أبناء حي الرويس إلى مقر الاحتفال في حارة البرحة ({الشرق الأوسط})
«القَطة» تعيد سكان الأحياء القديمة إلى موروثهم وأزقتهم العتيقة بعد الرحيل

جانب من توافد أبناء حي الرويس إلى مقر الاحتفال في حارة البرحة ({الشرق الأوسط})
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة