تملك البرد القارس جسد الطفلة ملاك التي لم تكمل ربيعها السابع، بينما ارتطمت أمواج الأبيض المتوسط العاتية بقارب اكتظ بأشباح، لم تعرفهم، شاركوها رحلة الموت. لم تعرف ملاك البحر قبل هذه المغامرة، فهي لم تلعب برمال شاطئه، ولم تركض ورفاقها على ضفافه. فعوضا عن ذلك، ودعت الطفلة السورية وطنها، وأحباءها لتجد نفسها ضمن مساحة مهولة من المياه المظلمة. هناك وسط المحيط، جرّبت الصغيرة شعور الخوف من الغرق والاقتراب من المنية.
انهمرت دموع إيفين بينما اختبأت تحت طاولة خشبية في منزلها بسوريا. وساد صوت القصف وانفجارات البراميل وحطام البيوت المشهد الأخير في ذهنها قبل فرار الطفلة ذات الأربعة عشر عام من هناك إلى المجهول. وعندما حان وقت الرحيل، لم تستطع إيفين حزم أمتعتها. التفت بذعر واختارت أن تصطحب معها وسادتها على القارب المطاطي. كرحلة ملاك، كانت طريق إيفين محفوفة بالمخاطر. لا تتذكر الطفلة منها إلا أنين من رافقوها، و«عراك أمعائها» المستمر مع الجوع. صاحبت إيفين كوابيس خلال ساعات النهار الشاقة التي أمضتها سفرا على قدميها، ولم تتركها عند نومها. أجبرت إيفين على هجر طفولتها، واستبدلت بابتسامتها دموع أغرقت وسادتها، كل ما تبقى لها من حياتها الأصلية.
مائدة عشاء تزينت باللبنة والزيتون والجبنة والشاي كانت تجمع مصطفى وعائلته كل مساء بعد يوم طويل، قبل بدء النزاع السوري. وعند تدهور الأوضاع، اختفى رجال عائلته واحدا تلو الآخر بين عمليات الاختطاف والتجنيد الإجباري والقتل. تردي الأوضاع المادية وزيادة المخاطر أجبرت مصطفى ومن تبقى من أفراد أسرته على خوض مغامرة ملاك وإيفين. اختار مصطفى جلب ألعابه المفضلة معه وتمسك بها رافضا التخلي عن طفولته في الرحلة الشاقة. الأيام طالت، والرحلة استعصت والألعاب أضحت حملا إضافيا. وأجبر الطفل ذو الثلاثة عشر عام على رمي الألعاب شيئا فشيئا. يقبع مصطفى اليوم في مخيم أوروبي. مستقبله مجهول، وألعابه مفقودة، يتحسر وحيدا على أيامه بين أصدقاءه في سوريا.
قصص ملاك وإيفين ومصطفى ليست خرافات من نسج الخيال، ولا حكايات خيالية في كتب الأطفال. إنها حقيقة مرة لواقع أطفال سلبت منهم طفولتهم. وعصفت بهم النزاعات بعيدا عن أهلهم وأصدقائهم ومنازلهم.
«لا يستحق الأطفال خوض تجاربٍ مماثلة، فبعض الحكايا لا يُفترض أن يختبرها الصغار». تلك هي الرسالة التي تحاول «منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (يونيسيف) إيصالها من خلال سلسلة من أفلام «قصص غير خيالية» التي أطلقتها هذا الأسبوع ضمن حملتها الجديدة لدعم نحو 65 مليون طفل أجبر على النزوح من بلاده حول العالم، وتركز على أطفال سوريا بالأخص. وترفع هذه الرسوم المتحركة الثلاث (وتروي قصص «ملاك والقارب» و«إيفين والوسادة» و«مغامرة مصطفى») التي لا تتعدى مدتها الثلاث دقائق شعار «لا جيل ضائع.. بعض الحكايات لم تكن مقدّرة للأطفال».
وحول هذا المبادرة، قالت سارة كرو المتحدثة باسم «اليونيسيف» لـ«الشرق الأوسط»: هدف سلسلة «قصص غير خيالية» هو خلق توعية عن معاناة اللاجئين السوريين الأطفال والحقيقة المرة التي باتوا يعيشونها، كما تهدف أيضا لمحاربة وصمة «العار» التي ترافق اللاجئين. وأضافت: «هؤلاء ليسوا لاجئين، بل هم أطفال ولهم احتياجات والطفولة حقهم الطبيعي»
وأشارت كرو إلى أن الأطفال باتوا يشكلون 40 في المائة من عدد المهاجرين ألقابعين في اليونان، مقارنة مع تشكيلهم 10 في المائة العام الماضي. وقالت: «الرحلة الطويلة التي خاضوها هربا من الحروب والنزاعات محفوفة بالمخاطر فقطعوا البحار واجتازوا عدة دول ولا يجب غض النظر عن آثار هذه المحنة على نفسية هؤلاء الصغار، ويجب توفير الدعم لهم».
ولليونيسيف محطات «بلو دوت» في أماكن وجد المهاجرين في الدول الأوروبية توفر مساحة آمنة للأطفال للعب والرسم والهروب من حاضرهم المر. وعن ذلك كشفت كرو خلال زيارتها لتلك النقاط في اليونان والبلقان والنمسا وغيرها أن «الأطفال كانوا يرسمون صور تعبر عن خوفهم خلال رحلتهم في قوارب الموت، وتلك هي الذاكرة التي تسكنهم وتؤرقهم حاليا».
وبحسب البيان الصحافي عن السلسلة والذي تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه سيتم عرض هذه الأفلام المتحركة الثلاثة المستلهمة من قصص حقيقية لثلاث أطفال سوريين على قناة «يونيسيف» على «يوتيوب». كما سيتم تداولها على جميع منابر المنظمة للتواصل الاجتماعي والموقع الإلكتروني والمكاتب المحلية بعدة لغات منها العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها. وسيتم استخدام هاشتاغ #عمل_إنساني مع هذه السلسلة لتوعية الناس ودعوتهم للمساهمة في أي طريقة كانت لمساندة والوقوف إلى جانب هؤلاء الأطفال.
إلى ذلك أضافت كرو: «تأتي هذه السلسلة ضمن حملة اليونيسيف للأعمال الإنسانية والتي نرى نتائجها الإيجابية كل يوم، حتى ولو غاب معظمها عن عيون الإعلام». واستطردت: «نأمل من خلال هذه الحملة تطوير استيعاب لوضع هؤلاء الأطفال، فإن حظي كل طفل منهم بعمل إنساني واحد، تحسنت أوضاعهم حتى لو قليلا».
جدير بالذكر أن مبدأ العمل الإنساني من أهم أهداف اليونيسيف التي تركز على التأهب والاستجابة والانتعاش المبكر، لإنقاذ الأرواح وصون الحقوق على النحو المحدد في الالتزامات الأساسية للأطفال بما يتماشى مع المعايير الدولية مثل الميثاق الإنساني والمعايير الدنيا في مجال الاستجابة للكوارث (Sphere) والشبكة المشتركة بين الوكالات للتعليم في حالات الطوارئ (INEE)، واسترشادًا بالمبادئ الإنسانية، فضلاً عن مساهمات اليونيسيف من أجل التصدي للأسباب الكامنة وراء التضرر من الكوارث والأوضاع الهشة والصراعات سواء من خلال دعمها للاستجابة للأزمات الإنسانية أو من خلال برامجها العادية.
«حكايات غير خيالية».. ثلاثية تروي رحلة أطفال من سوريا نحو المجهول
أطلقتها «اليونيسيف» ضمن حملة #عمل_إنساني
«حكايات غير خيالية».. ثلاثية تروي رحلة أطفال من سوريا نحو المجهول
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة