عندما يحين موعد إطلاق الدورة التاسعة والستين من مهرجان «كان» السينمائي في الحادي عشر من مايو (أيار) حتى الثاني والعشرين منه، سيكون موضوع الأمن من أكثر المواضيع المطروحة على البحث بين مديري المهرجان وفرق مكافحة الإرهاب والمؤسسات الأمنية الفرنسية والأوروبية المختلفة.
العمليات الإرهابية التي وقعت قبل يومين في بروكسل أكدت أن الأمور ليست على خير ما يرام في عواصم أوروبا. مع كل ما سبق الأحداث الدموية هذه من عمليات استخباراتية ومداهمات ورصد وتبادل مع معلومات، نجح الإرهابيون في نسف الأمن لا في بروكسل فقط، بل في أي مكان آخر. لسان حال كثيرين هو أنه إذا ما كان من الممكن أن يقع الإرهاب في باريس وإسطنبول وبروكسل، وهي عواصم محصّنة أخذت حذرها، كيف ستكون الحال مع مدن أوروبية لا تلعب دورًا كبيرًا في التجاذب السياسي والأمني الحاصل أو في مدن صغيرة.. سياحية.. تحتفل بمناسبة مهمّة.. مثل «كان»؟
رغم ذلك لا يمكن للمهرجان أن يتوقف تحسبًا أو إذعانًا. هذا الفعل الثقافي والفني ذو التاريخ العريق ملك للناس جميعًا كما هي السينما بالفعل. والغالب هو أن الاحتياطات ستزداد على صعيدين: تلك المنظورة من حرس ورجال أمن وتفتيش دقيق (وهو دائمًا دقيق منذ سنوات كثيرة) وتلك غير المنظورة أو المعلومة.
ماذا عن الحضور؟ هل سيتقلص عدد السينمائيين العرب الذين يؤمونه كل عام (وهم قليل)؟ هل سيشعر الأميركي بالطمأنينة أم أن التحذير الذي صدر بعد إرهاب بروكسل من قِبل السلطات الأميركية سيقلل الحضور من القارة البعيدة أيضًا؟
من سيفكر مرّة ومن سيفكر مرّتين قبل حضوره؟ وبل كيف سيتأثر الجو العام بما حدث ومع أي نتائج أو ردّات فعل ناجمة عنه؟ أي شعور هذا الذي سيحط على كاهل الحاضرين؟ ماذا عن السهرات والحفلات والنشاطات كافة؟ أم أن كل شيء سيسير على طبيعته قدر الإمكان والناس ستندمج وستنسى؟
أهلاً بالعالم ما بعد الجديد.
السينما الفرنسية
قبل أيام من انفجار بروكسل أصدر المهرجان ملصق الدورة. المؤلّف من صورة بعيدة لرجل يصعد سلالم (أعلى من سلالم القصر) وقد بات على مشارف الدرجات الأخيرة لمبنى محاط بالأشجار ومواجه للبحر. اللون الغالب صفراوي - برتقالي. التعليقات الأولى للملصق إيجابية. بعضها مبهور بالتأليف الذكي للعناصر البصرية والأبعاد الميتافيزيقية لها.
المهم هو أن المخرج الأسترالي جورج ميلر (صاحب سلسلة «ماد ماكس») هو الذي صمم هذا الملصق مستعينًا بصورة من «ازدراء»، فيلم الفرنسي جان - لوك غودار الذي حققه في سنوات أفضل (1963) لتشكيل الصورة الكبيرة الموحية.
مهرجان «كان» دائمًا ما منح السينما الفرنسية الاهتمام المناسب والمهم في صدارة اختياراتها من الأفلام، لكن إذا ما قدّر لنا أن نستطلع مآل حضور هذه السينما في «كان» المقبل فإن التحدي هو استكشاف ما قد يدخل المسابقة من أفلام جديدة يتم تجهيزها للمناسبة.
على ذلك، هناك بضعة أشياء مؤكدة ومنها أن التنافس على دخول المسابقة (وإدارة المهرجان مشغولة اليوم أكثر من أي فترة مضت في اختيار أفلام المسابقة الرسمية) ما زال عاليًا خصوصًا مع تعدد الأفلام التي تتوخى الاشتراك. من بينها مثلاً الفيلم الجديد للكندي إكزافييه دولان، والمعنون باسم ذي دلالة «إنها فقط نهاية العالم» مع ماريون كوتيار في البطولة لجانب ناتالي باي وليا سيدوكس وفنسنت كاسل حول احتضار كاتب يعلم قرب أجله (يؤديه غاسبار أوليل). فيلم آخر من بطولة كوتيار قد يدخل بها مسابقة أفضل ممثلة هو «مشتر شخصي» (Personal Shopper) للمخرج المعروف أوليفييه أساسايس الذي يدور في عالم الأزياء الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية وتقود كوتيار بطولته لجانب الأميركية كرستين ستيوارت.
ومن الأفلام الفرنسية الأخرى الطموحة «خليج مهمل» لبرونو دومون الذي كان آخر ما شوهد له «كاميل كلوديت 1915» على شاشة مهرجان برلين سنة 2013. من عام 1915 التي شهدها فيلمه السابق إلى عام 1910 في فيلمه الجديد الذي يتناول حوادث اختفاء سياح أوروبيين في فرنسا آنذاك. البطولة لجولييت بينوش وفاليريا بروني دتشي وفابريس لوشيني.
منها أيضًا «بلانتاريوم» لربيكا زلوتوفسكا التي سبق لها أن شاركت في المهرجان الفرنسي سابقًا بفيلم «غراند سنترال». هو أيضًا فيلم تقع أحداثه في الماضي (خلال الثلاثينات) ويجاوره في الاحتمالات المطروحة «حياة» الذي أنجزه ستيفان بريز عن رواية غي دوموباسان بالعنوان ذاته. أيضًا ومن بين ما هو جاهز «البقاء عموديًا»، وهو فيلم لألان غويرودي (سبق له وأن اشترك في «غريب عند البحيرة») وهو من بطولة ممثلين غير معروفين من بينهم لورا كالامي وإنديا هير.
اشتراكات هوليوودية
أميركيًا هناك الرغبة ذاتها لدى إدارة «كان» لاحتواء عمل أو عملين كبيرين خارج المسابقة، وشبه المؤكد حتى الآن هو أن الفيلم الجديد لستيفن سبيلبرغ وعنوانه «The BFG» (اختصار سيعمل به لعبارة «العملاق الودود» أو The Big Friendly Giant). بعيدا عن إتقان العودة إلى حدث واقعي، كما في عمله الأخير «جسر الجواسيس»، ينتقل سبيلبرغ إلى الفانتازيا مرّة أخرى عن رواية لرولد دال، وسيناريو لماليسا ماثيسون (كتبت له «إي تي» قبل 34 سنة) ومع مارك رايلانس في دور العملاق (وهو لعب دور الجاسوس في الفيلم السابق)، وربيكا هول في دور الفتاة التي تفزع من العملاق أولاً ثم تكتشف فيه نعم الصداقة.
اتصالات المهرجان الفرنسي مع هوليوود نتج عنها في الأسبوع الماضي استحواذ فيلمين مؤكدين من هناك: فيلم جودي فوستر الجديد «Money Monster» مع جورج كلوني وجوليا روبرتس في البطولة، وفيلم وودي ألن الجديد «كافيه سوسياتي» Cafe Society التي تعود بدورها إلى الثلاثينات، ولو أنها، وعلى عكس فيلمه الأسبق الذي عرضه «كان» سنة 2012 «منتصف الليل في باريس»، فإن أحداثه تقع في هوليوود. كرستين ستيوارت (أيضًا) في هذا الفيلم مع ستيف كاريل وجودي ديفيز وجيسي أيزنبيرغ من بين آخرين.
وحسب مصادر في هوليوود هناك احتمال ضم فيلم «أليس من خلال المنظار» لجيمس بوبين (وهو الجزء الثاني من «أليس في ووندرلاند») إلى العروض الخارجية. لكن مصادر اتصل هذا الناقد بها في الشركة المنتجة «وولت ديزني» استبعدت ذلك، كون «العملاق الودود» هو أيضًا من توزيعها، ولم يعتد المهرجان احتواء فيلمين من شركة أميركية واحدة من قبل.
لكن إذا ما وجدت إدارة «كان» أنها بحاجة إلى نجوم إضافيين فإنها قد تقرر الاستعانة بفيلم شاين بلاك البوليسي الجديد «الفتيان الطيّبون» من شركة «وورنر» مع راسل كراو وكيم بايسنجر وريان غوزلينغ في البطولة.
التحدي
باستثناء «موني مونستر» فإن هذه الأفلام لن تدخل المسابقة. ما سيفعل هو الفيلم الجديد لجف نيكولز «تحبب» (Loving)، ونيكولز هو الذي اشترك سنة 2012 بفيلم «وحل» في مسابقة المهرجان، واشترك قبل شهر في مسابقة مهرجان برلين بفيلم «خاص بمنتصف الليل» Midnight Special بطولة مايكل شانون الذي يعاود الإطلالة في الفيلم الجديد أيضا هو وجوول إدغرتون الذي شاركه بطولة الفيلم السابق. كذلك قد ينفذ فيلم شون بن الجديد «الوجه الأخير» الذي تتولى بطولته تشارليز ثيرون لجانب الإسباني خافييه بوردام والفرنسي جان رينو.
التشكيلة المساقة آنفًا هي جزء من الموزاييك السينمائي المتاح للمهرجان الفرنسي في دورته الجديدة. لكنها ليست مجرد عناوين لأفلام جاهزة، بل هي من جملة أعمال كثيرة (عادة ما تتجاوز الخمسمائة إنتاج أول) إما عرضت على إدارة المهرجان ولجنته الانتقائية وإما طلبها المهرجان بنفسه للبت بأمرها.
هذه الاحتمالات القوية تبدو حتى الآن موزعة الاهتمامات. صحيح أن فيلم شون بن ينضوي على رسالة سياسية آنية تقع أحداثها في أفريقيا، لكن كثيرا من الأفلام المطروحة تهرب من اليوم ومشكلاته وأزماته إلى أمس. ليس أن ذلك لم يشهد أزمات (يكفيه حربان عالميّتان في مطلع القرن العشرين وقبيل منتصفه)، لكنه كان أكثر أمنًا مما هو عليه اليوم.
الأسئلة التي تدور في فلك هوليوود وباريس و«كان» معًا هي إذا ما كانت العملية الإرهابية وتهديد «الدولة الداعشية» بمزيد، ستؤثر سلبًا أو أن المهرجان سينتصر، كما نتمنّى، على الإرهاب، وذلك بمجرد انطلاقته واحتوائه على كل ما شكل كيانه في السنوات السابقة جميعًا.
ما هو معروف عن الغرب قبوله التحدي والرد على الاستفزاز بحزم، ولو أن المعطيات هذه المرّة والإشكاليات الجغرافية والاجتماعية مختلفة أكثر من أي وقت مضى.