لوران فابيوس.. وحلم الفوز بجائزة نوبل للسلام

بعد مغادرته وزارة الخارجية الفرنسية

لوران فابيوس.. وحلم الفوز بجائزة نوبل للسلام
TT

لوران فابيوس.. وحلم الفوز بجائزة نوبل للسلام

لوران فابيوس.. وحلم الفوز بجائزة نوبل للسلام

غادر وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس هذا الأسبوع، في أعقاب تعديل وزاري أجراه رئيس الحكومة مانويل فالس. ومع أن هذه النقلة لا تشكل نهاية الحياة السياسية الحافلة لإحدى ألمع الشخصيات السياسية الفرنسية خلال العقود القليلة الماضية، لكنها تشكل على الأقل عند المعجبين بفابيوس، الذي سبق له أن كان رئيسًا للوزراء ورئيسًا لمجلس النواب، نكسة لوزارة الخارجية التي ستفتقد هالة لافتة وثقلاً كبيرًا على المسرح الدولي.
لن يصبح لوران فابيوس وزير الخارجية الراحل عن الدبلوماسية يومًا رئيسًا للجمهورية، وهو المنصب الوحيد الذي لم يصل إليه في الجمهورية الفرنسية، رغم محاولته مرتين الحصول على ترشيح الحزب الاشتراكي. فالرجل تنقل بين المناصب العليا بفضل قربه من الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، الذي حارب الجنرال ديغول وأدخل اليسار إلى قصر الإليزيه لولايتين امتدتا 14 سنة (1981 – 1995). ميتران أدخل فابيوس المتحدر من عائلة ثرية والمتدرِّج في أرقى المعاهد الفرنسية والمتخرج في المدرسة العليا للإدارة ENA المرموقة إلى عالم السياسة من الباب الواسع إذ عيّنه مباشرة بعد انتخابه رئيسًا وزيرا للخزانة في أولى حكوماته، ثم عهد إليه بوزارة الصناعة والبحث العلمي، قبل أن يرقيه إلى منصب رئيس للحكومة وهو في سن السابعة والثلاثين من عمره، ليغدو أصغر رئيس للحكومة في الجمهورية الخامسة بفرنسا.
لا تزال الطبقة السياسية تتذكر كلمة فابيوس الذي سأله يوما أحد الصحافيين عن علاقته بميتران، «الأب الروحي». وكان جوابه قاطعا ومقتضبا: «أنا أنا.. وهو هو»، وبذلك أراد أن يؤكد أن له شخصية متميزة وآراؤه الخاصة وسياسته المستقلة. لكن الحقيقة أن هناك جيلا كاملا من السياسيين الفرنسيين (وفابيوس أولهم)، ومنهم الرئيس الحالي فرنسوا هولاند ورفيقة دربه السابقة ووزيرة البيئة في الحكومة الحالية سيغولين رويال، ورئيس الوزراء الأسبق ليونيل جوسبان ووزير الاقتصاد ميشال سابان، وكثيرون آخرون هم من يسمون في باريس «جيل ميتران».
وبينما كان الرئيس الأسبق جاك شيراك يعرّف الآن جوبيه الذي تسلم منه فابيوس وزارة الخارجية بأنه «الألمع في ما بيننا»، كانت الطبقة السياسية تطلق على فابيوس لقب «ابن ميتران المدلل». بيد أن هذا «الابن» الذي انضم باكرا إلى الحزب الاشتراكي وانتخب نائبا عن إحدى ضواحي مدينة روان في منطقة النورماندي وشغل مناصب وزارية «الخزانة، الصناعة، الاقتصاد وأخيرا وزارات الخارجية والسياحة والتجارة الخارجية» كما تولى رئاسة البرلمان مرتين والأمانة العامة للحزب الاشتراكي وكان له مؤيدوه وتياره، لم يكن أبدًا رجلاً يتمتع بشعبية إذ إن صورته الشخصية لم تلعب أبدا لصالحه. فهو «نخبوي»، وحتى عندما أخذ يقدم نفسه على أنه ينتمي إلى الجناح اليساري للحزب الاشتراكي، وأنه صوت في استفتاء عام 2005 ضد الدستور الأوروبي بينما كان الخط الرسمي للحزب الاشتراكي هو الدعوة لإقراره، فإن ما وقف حائلا دون وصول فابيوس إلى أعلى المناصب في الدولة ربما شخصيته.
ففي وزارة الخارجية، لن يترك فابيوس وراءه للعاملين في هذه الوزارة السيادية صورة إيجابية إذ إنه حسب وصف البعض سلطوي، بارد، يعين ويقيل من غير رادع أو وازع وأحيانًا من غير سبب واضح أو من غير سبب بتاتًا. ونعرف جيدا حالات كثيرة لسفراء أو مسؤولين أساسيين في الوزارة فقدوا مراكزهم لغرض يجهلونه ولكنه «في نفس يعقوب».
يبدو الرجل في مظهره الخارجي ولغته التكنوقراطية أرستقراطي الأداء. لكن ما حال دون طموحاته العليا أنه وجد دائما من يقف بوجهه. المرة الأولى، في العام 2002 كان العائق اسمه ليونيل جوسبان، الذي رأس حكومة «اليسار المتعدد» لمدة خمس سنوات (1997 – 2002)، وبالتالي أصبح «المرشح الطبيعي» للحزب الاشتراكي. وما بين الرجلين عداء سياسي قديم، لا بل حرب ضروس، عندما كان فابيوس رئيسا للحكومة وجوسبان - بفضل ميتران - أمينا عاما للحزب الاشتراكي. وبعدها بخمس سنوات وعقب إقرار مبدأ الانتخابات التمهيدية لتعيين مرشح الاشتراكيين للرئاسة، قطعت سيغولين رويال، أول امرأة فرنسية طامحة للوصول إلى الإليزيه، الطريق على فابيوس وعلى غيره بحصولها على ستين في المائة من أصوات «الرفاق» بينما لم يحصل الأخير إلا على 12 في المائة من الأصوات.
الهزيمة كانت مرة الطعم بين الطامحين للمنصب الأول. وبعد خمس سنوات، صعد نجم فرنسوا هولاند الذي لم يكن أحد داخل الحزب الاشتراكي يعتقد أن له حظًا بالوصول يومًا إلى الرئاسة، فإذا بفابيوس يدعم منافسته الوزيرة السابقة مارتين أوبري، رئيسة بلدية مدينة ليل (شمال فرنسا) حاليًا، وابنة جاك ديلور رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق وإحدى الشخصيات الأكثر شعبية في فرنسا. والفرق بين فابيوس ورئيس الحكومة الحالية مانويل فالس أن الأول بقي إلى جانب مارتين أوبري بعد الدورة الأولى بينما الثاني وقف إلى جانب هولاند. ولقد عرف هولاند أن يسامح وأن يجيّر فابيوس لصالحه فكلفه بالملف الاقتصادي وبالبرنامج الإصلاحي لأشهر رئاسته الأولى. وعندما فاز بالرئاسة وهزم منافسه اليميني الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، عهد لفابيوس بوزارة الخارجية. واحتفظ الأخير بحقيبته، التي أضاف إليها في عام 2004 وزارتي السياحة والتجارة الخارجية 45 شهرا، وقطع خلالها آلاف الكيلومترات وهو أمر مرهق.
ولكن في الأشهر الأخيرة أخذت مظاهر التعب تبدو على فابيوس لا بل إنه «غفا» للحظات خلال الاجتماع مع مسؤولين جزائريين. كذلك، فإن كثيرين لاحظوا عنده ارتجافًا في اليدين مما يؤشر لإصابته بمرض باركنسون. وخلال اختتام «قمة المناخ» التي رأسها نهاية العام الماضي، بدا الارتجاف واضحا عندما أراد أن يعلن نهاية أعماله رافعًا المطرقة الخشبية التي أهداها له وفد البيرو.
من الخارجية، سينتقل فابيوس إلى رئاسة المجلس الدستوري الواقع قريبا من متحف اللوفر. ومهمة المجلس المكون من تسعة أعضاء، يضاف إليهم رؤساء الجمهورية السابقون مدى الحياة (هم حاليا فاليري جيسكار ديستان وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي)، مراقبة مدى تلاؤم القوانين التي تسن مع الدستور الفرنسي، ويعطي رأيه القاطع فيها كما يراقب ويعلن رسميا نتائج الانتخابات الرئاسية والاستفتاءات وخلاف ذلك من المهام. ولذا فإن كمية العمل والمهام الموكولة إليه، وهي تقنية بالدرجة الأولى، لا تقارن بمهام ومسؤوليات وزير الخارجية. ولكن للمنصب فوائد وتشريفات، وفابيوس البالغ من العمر 69 سنة سيكون رئيسا له لتسع سنوات يستطيع خلالها أن يرتاح وأن يبقى في الوقت نفسه في قلب الحدث في فرنسا.
بيد أن طموح الأخير لا يتوقف عند هذا الحد، إذ إنه قرر البقاء رئيسا لقمة المناخ حتى نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل عندما تنتقل الرئاسة للمغرب. وفي حديث صحافي صباح الخميس، أكد أنه لا تضارب في الصلاحيات بين الوظيفيتين، وأنه في حال حصل أمر كهذا فإنه «سينأى» بنفسه مؤقتا عن المجلس الدستوري لتجنب أي نزاع. لكن الأهم في بقائه رئيسا لقمة المناخ 21 احتفاظه بمكتب وسكرتارية في وزارة الخارجية. ويقول عارفون إن فابيوس يرنو للفوز بجائزة نوبل للسلام بفضل المساهمة التي يعتبرها «حاسمة» في إنجاح قمة المناخ التي استضافتها فرنسا، ورأسها هو شخصيًا بعد الإخفاقات الكثيرة التي أصابتها في السابق. وتكفي مراجعة الكلمات التي ألقاها الوزير الفرنسي إن في بداية القمة أو في ختامها لاستكناه صورة الدور الذي ينسبه فابيوس لنفسه في نجاح قمة المناخ.
لكل سياسي ورجل عام أمور يريد أن يطويها الزمن أو أن يخبئها عن أعين الجمهور. ميتران سعى لإخفاء عائلته «الثانية» وابنته غير الشرعية مازارين بانجو التي اعترف بها في آخر أيامه وأصبحت اليوم كاتبة معروفة. وشيراك أبعد عن الأضواء لورانس، ابنته المريضة. وقبلهما الجنرال ديغول الذي كانت له أيضًا ابنة مريضة اسمها آن وتوفيت في العشرين من عمرها. أما «وجع» فابيوس فمزدوج: شخصي وآخر سياسي: الشخصي اسمه «توماس» ابنه البكر الذي أصبح شهيرًا على صفحات الجرائد خصوصا تلك التي تهتم بالفضائح. فهذا الابن «غير البار» بوالده، مولع بالقمار، وتحديدًا بلعبة البوكر التي أوقعته في الكثير من المشكلات وستقوده حتمًا في الأسابيع المقبلة أمام المحاكم. ولقد أسس شركة أفلست بسبب الاحتيال، واشترى شقة تطل على بولفار سان جيرمان الشهير في باريس بستة ملايين يورو بينما يفتقر لمداخيل «رسمية». ودار في كازينوهات لاس فيغاس الأميركية تاركا وراءه ديونا بمئات الآلاف من الدولارات. وبعكس أخيه فيكتور، البعيد عن الأضواء، فإن توماس فابيوس لطخ اسم والده الذي لم يأتِ أبدًا على ذكر فضائح ابنه علنًا، كما أن الصحافة الفرنسية لا تربط أبدًا بينه وبين ابنه.
أما جرح فابيوس الثاني فعنوانه فضيحة الدم الملوّث التي تعود للفترة التي كان يشغل فيها منصب رئيس الحكومة. وفحوى القصة أن «المركز الفرنسي لنقل الدم» سوق لدم فاسد ملوث بفيروس الإيدز داخل فرنسا وخارجها رغم علمه بأن كمية كبيرة من هذا الدم فاسدة وخطرة على صحة المرضى. وعلاقة فابيوس بذلك أنه كان رئيسا للحكومة الاشتراكية في تلك الفترة ولذا قدمت شكاوى بحقه وحق ثلاثة وزراء، إلا أن العدالة برأت في النهاية ساحة السياسيين بمن فيهم فابيوس.
ماذا سيبقى من «إرث» فابيوس الدبلوماسي؟
ربما سيحفظ له تاريخ الخارجية أنه أسس لما يسمى «الدبلوماسية الاقتصادية»، إذ اعتبر أن عمل الدبلوماسي في الزمن الراهن قد تغير، وأن مهمة السفراء والبعثات هي مساعدة اقتصاد فرنسا والترويج له في الخارج. وهذا معنى ضم وزارتي التجارة الخارجية والسياحية لوزارته الأصلية حتى تتوافر له «الأدوات» المؤسساتية الضرورية لعملية الترويج. ولم يتردد فابيوس في أن يتحول كذلك إلى داعية لـ«المطبخ الفرنسي» وفنون الطاولة على الطريقة الفرنسية.
بالطبع، يريد فابيوس أن يعترف له التاريخ بدوره في تلافي مآسي الاحتباس الحراري وما سيفضي إليه ارتفاع حرارة الأرض من كوارث بيئية واجتماعية وديموغرافية وهجرات وحروب بفضل التزامات قمة المناخ التي يتعين مراقبة مدى تنفيذ الالتزام بها. لكنه يرغب أيضًا بأن يعرف العالم أنه لعب دورا مهما في التوصل إلى الاتفاق «التاريخي» بخصوص برنامج إيران النووي الذي وقع في فيينا في 14 يوليو (تموز) الماضي. ويروي الوزير الفرنسي أنه «حذّر» المجتمعين في فيينا من أنه سيعود إلى باريس للمشاركة في العيد الوطني صباح 14 يوليو سواءً وقع الاتفاق أو لم يوقع. وهو يتساءل عما إذا كان لهذا دور في دفع الأفرقاء المتفاوضين لوضع حد لمسار تفاوضي بلا نهاية. وفي أي حال، فإنه يعتبر أنه «نجح» في الحصول على اتفاق «متين» وعلى ضمانات لجهة «شفافية» البرنامج الإيراني مما يعد في نظره مساهمة في تجنيب العالم، وخصوصًا منطقة الشرق الأوسط سباقا للحصول على السلاح النووي.
من جهة أخرى، يترك فابيوس الخارجية والملف السوري الذي استحوذ على الكثير من وقته، ما زال على حاله: «الحرب مستمرة والمعارضة التي دعمته باريس في وضع حرج والتدخل الروسي متزايد والولايات المتحدة متأرجحة». وبما أنه يغادر منصبه الوزاري، فقد استفاد فابيوس من أيامه الأخيرة لـ«يصفي حساباته» مع واشنطن بهجوم حاد اتهمها فيه بـ«الغموض» وبالازدواجية ما بين الأقوال والأفعال. لكنه في الوقت عينه شن هجومًا قاسيًا على روسيا وإيران «الشريكيتين» في عمليات القتل في سوريا. كذلك فإن فابيوس يترك الدبلوماسية وملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على حاله. وليست آخر تصريحاته التي يعلن فيها عن عزم بلاده على الدعوة إلى مؤتمر دولي لإيجاد حل سياسي ينهض على قيام دولتين - فلسطين وإسرائيل - والتهديد بالاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية إذا فشلت جهود السلام إلا من باب «رفع العتب». فالوزير المغادر يعرف أن مبادرة بلاده لن تقدم أو تؤخر طالما أن واشنطن فاترة تجاهها وأن الأوروبيين غير متحمسين بينما إسرائيل ترفضها كلية.
يبقى أن الدبلوماسية الأوروبية - ومن ضمنها الفرنسية - بقيت عاجزة عن التفاهم من أجل عمل جماعي وفاعل في ملف الهجرات الجماعية الزاحفة باتجاه «القارة القديمة» أو بشأن التعامل مع الملف الليبي والتعاون بين ضفتي المتوسط والجوار العربي للاتحاد الأوروبي الغارق في أزماته.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.