«معنى المعنى».. أخيرًا إلى العربية بعد نحو مائة سنة على صدوره

كتاب معه مؤلف تفسيري فيه مراجعة ممتعة للفيلسوف برتراند رسل

«معنى المعنى».. أخيرًا إلى العربية بعد نحو مائة سنة على صدوره
TT

«معنى المعنى».. أخيرًا إلى العربية بعد نحو مائة سنة على صدوره

«معنى المعنى».. أخيرًا إلى العربية بعد نحو مائة سنة على صدوره

بعد ما يقارب مائة سنة، على صدوره، ورغم كل الصدى الذي لقيه، والتأثير الذي كان له على علم اللغة الحديث، لم يجد كتاب «معنى المعنى» الذي أبصر النور عام 1923 طريقه إلى العربية إلا مؤخرًا.
فقد عكف الأستاذ في قسم اللغة العربية في جامعة بغداد الدكتور كيان أحمد حازم يحيي الزبيدي، على ترجمة الكتاب من الإنجليزية، كما وضع كتابًا آخر حمل عنوان «اللغة بين الدلالة والتضليل»، وهو دراسة نقدية على هامش «معنى المعني»، وصدرا معًا، في وقت واحد، عن «دار الكتاب الجديد المتحدة»، ليكونا بمثابة هدية قيمة مزدوجة، لعلماء اللغة العرب الذين انتظروا طويلاً هذا الإنجاز.
صحيح أن الدراسات الحديثة تجاوزت في أحيان كثيرة بعض ما جاء في «معنى المعنى» بسبب التطورات المتسارعة، إلا أن هذا المؤلف التأسيسي يبقى علامة فارقة في تاريخ علم اللغة الحديث الذي لا بد يهم كل متخصص.
وحوى الكتاب مقدمة للكاتب الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو يقول فيها عن «معنى المعنى» التالي: «إن كتابًا أكاديميًا كهذا، سطر في مستهل القرن تجدر قراءته لعدة أسباب، أولهما: أنه إثر كلاسيكي معترف به. وثانيهما: أنه كان كتابا أصيلا أثر على نحو ما في الدراسات المتأخرة، ويجب أن يكون حاضرا في الذهن إذا ما أردنا فهم ما جاء بعده، وثالثهما: أن قراءته ما زالت مثيرة، وإن كان بعض ما ورد فيه أصبح باليًا».
«معنى المعنى» ألفه الباحثان، من «جامعة كامبريدج»، تشارلز كي أوغدن، وايفر أرمسترونغ رتشاردز، كان أصله سلسلة من المقالات بدأت بالظهور عام 1910 يصفه ايكو بأنه «كتاب ساحر قادر على فتح الآفاق»، يتحدث في الفصل الأول عن الأفكار والكلمات، وأهمية الرموز ووظائفها. ويقول الكتاب: إن العلامات التي يستعملها الناس، في تواصلهم بوصفها أدوات فكر، تتبوأ مكانًا مميزًا، ومن المريح أن نستعمل للكلمات، والصور والإيماءات، والرسوم والأصوات، مصطلح الرموز. ثم يتحدث الكاتبان عن تأثير هذه الرموز التي يبتكر الإنسان من خلال استخدامها، ما لا يحصى، ولا يمكن توقعه سلفًا، من الطرائق في التعبير. ويعرج الكتاب على موضوع «سلطة الكلمة»، محللاً الآراء الفلسفية واللغوية عبر التاريخ فيما يتعلق بالكلمات الملفوظة والرموز الأخرى المستخدمة في التعبير، ويغوص في معنى التأويل واستخدام الكلمات المضللة. ويبقى الكتاب يطارد الفلسفات التي عرفتها الإنسانية عن الرموز، ويقلب النظريات حولها، إن لجهة معناها أو سياقاتها أو تأويلاتها.
ويرى الكتاب أن أثر اللغة في الفكر في غاية الأهمية، والرمزية هي دراسة هذا الأثر. وإذا ما أردنا إنشاء أي عبارة أو تأويلها فعلينا، بحسب «معنى المعنى» أن نأخذ بعين الاعتبار معرفة كيف نربطها ببعضها البعض، وفهم ثلاثة عوامل، ألا وهي: «العملية الذهنية، الرمز المستخدم في التعبير، والمرجع المفكر فيه عند حصول العملية الذهنية». وهذا هو المثلث الشهير الذي بنى عليه الكاتبان مؤلفهما.
ويرى الكاتبان في نظريتهما التي نذكر أنها تعود إلى بداية القرن الماضي وكانت ريادية يومها أن «كل عملية تفكير هي تأويل للعلامات. ذلك يتبين على الفور، في الحالات الواضحة أما في الحالات الأكثر صعوبة كما في الرياضيات والنحو فتتضمن أشكالا أكثر تعقيدًا لكن لها الفاعلية نفسها».
فيقينية معرفتنا بالعالم الخارجي عانت الكثير على أيدي الفلاسفة بسبب افتقارهم إلى نظرية للعلامات. لكن بالإمكان تسهيل فهم ميكانيكية اللغة بمقارنتها بالنظر أو الرؤية بالعين «فما نراه حين ننظر إلى منضدة هو، أولا، تعديلات لشبكيتنا، ونحن نؤول هذه العلامات الأولية، ونصل إلى مجالات للرؤيا حدودها سطوح المناضد، وإذا ما توسعنا في التأويل يمكننا أن نصل إلى نتائج تمثل، مناضد وخشبًا وأليافًا وجزيئات وذرات وإلكترونيات، وربما أشياء أخرى». أما المعنى فيقدم له الكتاب من خلال استعراض آراء الفلاسفة في تفسير اللفظ واختلافهم حوله نحو 16 مجموعة من التعريفات، ومن هنا تتبين صعوبة المهمة. لكن «من الممكن معالجة التعريفات تحت ثلاثة عناوين عامة، يضم أولها: الأوهام المتولدة لغويًا، وثانيهما: الاستعمالات العارضة والشاذة، وثالثهما، العلامات والرموز». ويخبرنا الكتاب أننا في الوقت الحاضر، غالبًا ما نتخلى عن لفظة المعنى، ونستبدلها بألفاظ أخرى مثل: «القصد، القيمة، العاطفة، التي تستعمل كمرادفات».
ويهدف الكاتبان، إلى تمكين العامة من الاستفادة من كتابهما، وأن يدركوا تأثير اللغة في الفكر والتخلص من الأوهام الناجمة عما هو خطأ من الاعتقادات اللغوية. هكذا تصبح الحوارات والمناقشات بين الناس أكثر سهولة، وأكثر بعدًا عن الأحجار والأفاعي والعقارب.
وللإيضاح فإن الكتاب يستعين بتاريخ النظريات، وعلم النفس، والفلسفة، والانثروبولوجيا، وعلوم إنسانية أخرى كي، يبني نظرية لغوية تبدو جافة ومعقدة، ومتشعبة المسارب، لكن أهدافها عملية، حياتية. وكتب باحثون يقولون: «إن الهدف الأساسي الذي صبا أوغدن ورتشاردز إلى الوصول إليه، في (معنى المعنى) هو زيادة الوعي في أوساط الفلاسفة بشأن الفخاخ التي تنصبها اللغة».
فالشغل الشاغل للباحثين، هو معرفة إذا ما كانت اللغة وسيلة واضحة بالفعل يمكن الاعتماد عليها في اتصال الناس مع بعضهم البعض؟ وكيف نتأكد أن السامع أو ملايين السامعين قد وعوا قصد المتكلم، وما أراد إيصاله إليهم. أليست اللغة نوعا من الحجاب أحيانًا بيننا وبين الأشياء؟ ألا تمنح هذه الأشياء نوعا مزيفا من الحقيقة، فتغرينا بأن نعتقد بوجود حقيقي للأمور المعنوية المغرقة في التجريد. ويضيف المترجم في كتابه حول مؤلف «معنى المعنى» بالقول: «أليست أهمية اللغة أنها وسيلة للمحافظة على التراث الأدبي، بوصفها أداة للوحدة السياسية، مما يجعلها مصدرا من مصادر سوء التفاهم والنزاعات في الشؤون العالمية؟ أليس الكثير من مشكلاتنا الفلسفية مجرد أوهام ناتجة عن طرائقنا التقليدية في التعبير؟».



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.