اختار المؤرخ الروسي في مجال الأزياء ألكسندر فاسيلييف عرض التطورات التي شهدتها روسيا اجتماعيًا واقتصاديًا خلال قرن كامل من الزمن عبر الأزياء، ولهذا الغرض عرض في إحدى قاعات معرض عموم روسيا للإنجازات الشعبية، مجموعة كبيرة من الأزياء التي يحتفظ بها ضمن مجموعة فريدة عمل على تجميعها خلال فترة طويلة من الزمن، ذلك أن فاسيلييف من هواة «جمع» الأزياء فضلا عن كونه مؤرخا وناقدا في هذا المجال.
ويبدو أن اختيار فاسيلييف لتاريخ الأزياء خلال 100 عام (1915 - 2015) لم يأتِ عن عبث، ذلك أن روسيا شهدت خلال هذه المرحلة تغيرات جذرية عدة في اتجاهات متناقضة، انعكست بصورة مباشرة على الحياة الاجتماعية ومستوى معيشة المواطن، وبالتالي تركت تأثيرا مباشرًا على مفهوم الأزياء والموضة. ففي الفترة التي سبقت الثورة البلشفية كانت الموضة من الاهتمامات الرئيسية للطبقات الأرستقراطية والأغنياء من أمراء ورجال الحاشية الإمبراطورية، حينها كانت اللغة الفرنسية رائجة ويدل إتقانها على المكانة الاجتماعية للفرد، وكانت الرحلة إلى باريس والعواصم الأوروبية الأخرى من الأشياء الطبيعية لتلك الطبقات، وخلالها كانوا يتابعون تطورات عالم الأزياء، وكل ما يتعلق بجمال المظهر من ألبسة وإكسسوارات وحلي وعطور وغيره.
مع انتقال السلطة في روسيا إلى البلاشفة وبناء الاتحاد السوفياتي الخاضع للنظام الشيوعي، أصبحت الموضة والاهتمام بالأزياء أقرب ما يكون إلى «العمل المدان» من الدولة ومن منظمات حزبية فاعلة في البيئة الاجتماعية. ومجرد ظهور امرأة بزي لافت وجميل لا يتسق مع الأزياء بشكل عام، كان كافيا للنظر إليها نظرة اتهام «تعمل قليلاً وتهدر معظم وقتها على أشياء غير أساسية في حياة المجتمع».
واعتبرت السلطات السوفياتية الموضة والأزياء مظاهر من حياة الطبقات البرجوازية الغربية المعادية. مصممة الأزياء الوحيدة في الاتحاد السوفياتي حتى عام 1941 كانت ناديجدا لامونوفا، المسؤولة عن المظهر الخارجي وأزياء كل النخب السلطوية، وعن مظهر الموضة السوفياتية أمام العالم الخارجي.
وفي سنوات الحرب العالمية الثانية اختفى الاهتمام بالموضة والأزياء نهائيا وكان ذلك أمرا طبيعي نتيجة الحرب. لكن في عام 1944 تم افتتاح «دار نقابات الموضة الموسكوفية» الذي لعب لاحقا دورًا مهمًا في إعطاء تصميم الأزياء في العهد السوفياتي روحًا جديدة. وكانت عروض الأزياء التي تقيمها دار النقابات محط اهتمام السيدات السوفياتيات، إلا أن الأفكار الإبداعية في عالم الأزياء السوفياتية كانت يتيمة، بمعنى أنها كانت تعاني من عزلة شبه مطلقة عن عالم الأزياء الخارجي. هذا فضلا عن أن صناعة الأزياء والألبسة بشكل عام كانت أيضًا خاضعة للسياسة الاجتماعية في الدولة السوفياتية التي تدعو إلى صناعة ما هو مفيد للمجتمع أولاً، والجمالية تأتي ثانيا. واستمر الوضع على حاله حتى الخمسينات مع بدايات الانفتاح التدريجي حينها على الغرب، حيث أخذ من يحالفهم الحظ بزيارة أي عاصمة أوروبية يحملون معهم ما يُسمح لهم بحمله من أزياء وأفكار مبتكرة في عالم الجمال.
في تلك المرحلة تحديدًا طرأ تطور لافت على صناعة الموضة في الاتحاد السوفياتي وبرزت أسماء لامعة في هذا المجال. كما انطلقت لأول مرة عروض دور الموضة السوفياتية في الدول الأخرى، وعروض دور الموضة الأجنبية في روسيا. وشهد عام 1959 حدثًا تاريخيا في عالم الموضة السوفياتية، حيث جرى حينها أول عرض لمصمم الأزياء العالمي الشهير كريستيان ديور في موسكو. حينها سطع اسم مصمم الأزياء السوفياتي فياتشيسلاف زايتسيف الذي قدم عروضا لمجموعاته في دور موضة في ميلانو وباريس ونيويورك وعدد كبير من مدن الموضة العالمية. إلا أن السلطات السوفياتية كانت نادرا ما تسمح له بمغادرة البلاد خشية من فراره. وبقي اسم زايتسيف عنوانا لصناعة الموضة السوفياتية ومن ثم الروسية. أما عارضات الأزياء السوفياتيات ففي عهد الزعيم نيكيتا خروشوف، ومع ظهور بعض الدفء في العلاقات مع الغرب وانفتاح تدريجي نحوه، عرف عالم الموضة كله اسم ريجينا زبارسكايا التي حققت نجومية غير مسبوقة وحصدت شهرة واسعة من خلال مشاركتها عام 1961 في عرض للأزياء السوفياتية على هامش معرض للصناعات الوطنية في باريس. حينها لم تتجمع الحشود لتراقب أحدث المعدات الزراعية السوفياتية ولا السيارات، بل لمراقبة الجميلة السوفياتية التي وصفها النقاد بصوفيا لورين، وأجمل سلاح لدى الكرملين.
وفي اليوم التالي، من العرض احتلت صورها الصدارة في مجلة «باري ماتش». بعض الحاقدين في البلاد أخذ ينشر شائعات بأنها على صلة بجهاز الاستخبارات السوفياتية. من عشاق عارضة الأزياء ريجينا زبارسكايا شخصيات شهيرة مثل بيير كاردين وإيف مونتان، وفيديل كاسترو. استمرت صناعة الموضة والأزياء في الاتحاد السوفياتي لكنها لم تنعكس على شرائح واسعة من المواطنين، بل كانت أقرب إلى المجال المحتكر من جانب النخب وذوي النفوذ، بينما اقتصر النشاط الرئيسي في هذا المجال على المدن الكبرى، وبصورة أساسية في موسكو، العاصمة السوفياتية حينها. ولعل خير تقييم لحالة الموضة والأزياء في الاتحاد السوفياتي منذ السبيعينات وحتى سقوطه يمكن تكوينها من خلال القصص التي يرويها الطلاب الأجانب الذين درسوا هناك، إذ كثيرا ما تسمع من هؤلاء كيف كانت الشابات الروسيات والشباب أيضًا ينظرون بدهشة وشوق إلى بنطال الجينز مثلا، أو إلى أي قميص من صناعة أجنبية.
الطريقة التي كان ينظر بها المواطن السوفياتي للأزياء والألبسة الأجنبية هي حالة طبيعية إذا ما نظرنا لظروف حياتهم حينها، ذلك أنه أمر طبيعي أن يبدي الإنسان إعجابه ودهشته بشيء يسمع عنه لكن لا يعرفه، لا سيما عندما يكون هذا الشيء متصلا بالجمال والأزياء. والسبب هو أن السلطات السوفياتية كانت تمنع المواطن من السفر خارج البلاد، إلا لأسباب محددة أو بدعوة من شخص محدد ومعروف، أما العلاقات في المجال الفني والإبداعي مع جهات أجنبية فكانت تحت رقابة وتحكم صارمين من جانب «كي جي بي»، الذي كان يرى في كل علاقة لمواطن مع أجنبي «إمكانية تجنيد جاسوس ضد السلطة السوفياتية».
مضت الحقبة السوفياتية مع التاريخ وظهرت روسيا الحديثة التي سرعان ما انفتحت على العالم كله، وأشبعت جوعها للموضة والأزياء والألبسة الأجنبية في التسعينات، وانطلقت في تلك السنوات صناعة الموضة وظهرت أسماء مهمة في عالم الأزياء مثل مصمم الأزياء فالنتين يوداشكين، بينما سيطرت الجميلات الروسيات على ممرات صالات عروض الأزياء في العالم، لتعود روسيا بذلك إلى عالم الموضة متنقلة عبر تحولات تاريخية كبرى، من ذوق الطبقات الأرستقراطية وصولا إلى صيحات العصر الإبداعية.
صناعة الأزياء في روسيا.. من الأرستقراطية إلى صيحات العصر الإبداعية
معرض «100 عام على الموضة» يعكس التطورات التي شهدتها البلاد اجتماعيًا واقتصاديًا
صناعة الأزياء في روسيا.. من الأرستقراطية إلى صيحات العصر الإبداعية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة