مقاهي بغداد الثقافية.. ولدت فيها أولى التجارب الشعرية

بعضها ما زال شاخصًا حتى اليوم

هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي
هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي
TT

مقاهي بغداد الثقافية.. ولدت فيها أولى التجارب الشعرية

هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي
هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي

خصوصية المقاهي البغدادية متفردة ولا تشبه غيرها من ناحية مكانتها ونكهتها وشخوصها وحتى نوع قهوتها ومشاريبها وأغنياتها التي تختارها لزوارها، وهي تمثل جانبًا مهما من ذاكرة المدينة، فمنذ عشرينات القرن المنصرم، وبالتحديد مع افتتاح أهم شارع في العاصمة بغداد، شارع الرشيد، تحولت المقاهي المنتشرة على جانبيه إلى منتديات ثقافية شكلت مناخًا أدبيًا وثقافيًا وفنيًا جذبت الأدباء والكتاب والمسرحيين والتشكيليين من كل أنحاء البلاد، ومرت المقاهي بفترات من الانحسار والنهوض بحسب تعاقب الأحوال فيها واضطرابها أو استقرارها، لكنها اليوم، تشهد عودة محسوبة وهادئة لمقاهٍ جديدة، كسبت معها الشباب خصوصًا بعد أن أفل نجم الكثير من المقاهي القديمة لأسباب عدة وتهديم بعضها الآخر وتحوله لمخازن تجارية.
ومن أهم المقاهي البغدادية القديمة التي حفرت لها مكانًا في الذاكرة، هي مقاهي البلدية، وعارف آغا، والزهاوي، وحسن عجمي، والبرلمان، والشابندر، والبرازيلية، فيها ولدت أولى التجارب الفنية والشعرية وشهدت تكوين الجماعات التشكيلية واحتدام الجدل الثقافي لأجل إنضاج مشروع وطني ما أو فكرة ثقافية من شخصيات بغدادية عرفت بالريادة في المشهد الثقافي العراقي والعربي.
يقول الناقد والفنان قاسم العزاوي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن المقاهي البغدادية: «بعد فترة ازدهار كبرى في نتاج ونهج المقاهي الثقافية في بغداد في مطلع تأسيسها إلا أنها شهدت حالة تراجع وضمور في فترة السبعينات، وتواصل ذلك التراجع في عقدي الثمانينات والتسعينات بعد أن دخل المخبرون إليها لرصد حركة الناس وكلامهم وكتابة التقارير الأمنية للنظام الحاكم ضد من يعتقدون أنه يثير الرأي العام ضدهم».
وأضاف: «هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها، ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي ومقهى رضا علوان في الكرادة باعتبارها تتوسط منطقة مزدحمة بالسكان وتحوي أهم مقرات الصحف والفضائيات المحلية، وكذلك قربها من مقر الاتحاد العام للأدباء والفنانين، وعادة ما تعقد فيها ندوات فنية وأدبية وروادها من النساء والرجال معًا وهناك منتدى أشبه بالمقهى يدعى منتدى بيتنا الثقافي في الأندلس التابع للحزب الشيوعي وتقام فيه حلقات نقاشية وأدبية وثقافية ومعارض فنية».
ولفت العزاوي إلى أن دور المقاهي اليوم هو التواصل مع الآخرين، خصوصا المثقفين، وتبادل الأخبار وقضايا معظمها سياسية أو التحشيد للمظاهرات الشعبية أو مناقشة مسائل ثقافية تخص عرض نتاجهم الفكري والأدبي، وعقد الاتفاقيات الأدبية وتداول أخبار الفن والأدب وهي أيضا ملتقى للزوار من الخارج، كنقطة دلالة معروفة.
وبشأن اختلاف دور المقاهي عن دورها بالأمس، قال: «الغاية هي نفسها التي وجدت من أجلها المقهى وهو التواصل الثقافي والمعرفي، لكنها تطورت بحسب تطورات العمران وما تقدمه من أطعمة ومشروبات وغيرها، كما أنها صارت تستقبل النساء أيضا في وقت كان وجودهن بالأمس محدودًا أو معدومًا تقريبًا».
وعن ذكرياته في المقاهي البغدادية، قال: «كنت أزور مقهى البرازيلي في شارع الرشيد والبرلمان في الحيدرخانة وكان زوارها من الرموز الثقافية المعروفة مثل موسى كريدي وحسين مردان وآخرين، مقهى البرلمان كان نقطة استقطاب لكل الفنانين، لشهرته الواسعة، واستمرت حتى نهاية الثمانينات قبل أن تتحول إلى مطعم فيما التجأ الأدباء إلى مقهى حسن العجمي في الحيدرخانة قرب كعك السيد الشهير الذي تأسس في 1906 وجبار أبو الشربت وعلى امتداد الشارع نفسه مقهى الزهاوي والآن هو من الأماكن والمقاهي التراثية لكن زواره انحسروا بسبب صعوبة الوصول. ومقهى أم كلثوم لا يزال يفتح أبوابه حتى الآن وهو يحتضن عشاق أم كلثوم في شارع الرشيد مقابل سوق هرج، ولا زلت أتذكر المعارك الأدبية التي كانت تدور بين الأدباء في المقاهي مثل معارك مدني صالح والدكتور المطلبي».
وعن ذكرياته في مقهى حسن عجمي يقول الناقد حسين مردان: «يعد مقهى حسن عجمي من أكثر المقاهي شهرة وعراقة، فقد حافظ على حضوره واستمراره عقودًا طويلة، وارتبط اسمه بشارع الرشيد الشهير، وتردد عليه معظم الأدباء والمثقفين، ومن الرواد الذين ارتبط المقهى بهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان يجلس فيه قبيل إلقائه قصائده الوطنية المحرضة إبّان انتفاضة عام 1948، فكانت الجماهير المأخوذة بسحر قصائده وبلاغتها وتأثيرها، تنطلق من جامع الحيدرخانة لتطوف في شارع الرشيد غاضبة منددة بالمعاهدة الجائرة التي وقعتها الحكومة مع بريطانيا. وفي مقال نشره الناقد «صالح هويدي» في جريدة المدى، يقول: «في الأربعينات والخمسينات توافد على هذا المقهى إلى جانب الجواهري، كل من كمال الجبوري، والسياب، والبياتي، وعبد الأمير الحصيري، وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة. ولم يتوقف هذا المقهى عن استقطاب الأجيال الأدبية التالية كجيل الستينات والسبعينات والثمانينات، تلك الأجيال التي شهدت حراكًا ثقافيًا أوسع، وتطويرًا لآفاق التجربة الإبداعية وتوليدًا للاتجاهات والرؤى والمفاهيم الجديدة.
لم يكن مقهى حسن عجمي (يقع في باب المعظم مقابل وزارة الدفاع ببغداد) محطة عابرة في حياة الأدباء العراقيين، بل كان منتدى موّارًا ومسرحًا حقيقيًا لذلك الحوار الفاعل والخصب بين المبدعين، فهو المحطة قبل الأخيرة التي وجدوا فيها ملاذهم، قبل أن يهجروه منذ بضع سنوات ويتخذوا من مقهى الشابندر في شارع المتنبي مقرًا لهم.
وبسبب عدم رغبة الأدباء بالمكوث طويلاً في مقهى واحد، إذ كان يصيبهم الملل من كثرة تكرار الوجوه نفسها، أو بسبب توسع دائرة المجموعة وحدوث استقطابات جديدة، يعمد البعض للانتقال إلى مقهى آخر ومجموعة جديدة، ففي نهاية الأربعينات انتقل الشاعر حسين مردان إلى مجموعة مقهى البلدية التي كانت تضم رشيد ياسين، وبلند الحيدري، وزهير أحمد القيسي، وكان شعراء وأدباء الكليات يهرعون إليهم بمجرد الانتهاء من دروسهم، ومن هؤلاء الطلاب، بدر شاكر السياب، وعبد الرزاق عبد الواحد، وأكرم الوتري. فقد كانت تلك المقاهي جامعات حقيقية للأدب والشعر، كما يذكر حسين مردان. ويقول أيضًا: «كنا نعيش في جو من الصداقة الصميمة. فعلبة الدخان التي كان يملكها أحدنا تطرح على الطاولة لتكون مشاعًا للجميع، وكان أكثرنا مالاً هو الذي يدفع ثمن أكواب الشاي، كذلك كنا نشترك في نظم القصائد وكتابة المقالات النقدية..والحقيقة أن المقهى كان يعتبر البيت الدائم لعدد كبير من الشعراء والأدباء العراقيين، ومن أشهر الخصومات التي كانت تحدث في مقهى البلدية كانت بين الشاعرين السياب وعبد الوهاب البياتي، فقد كان الصراع في حقيقته يدور حول الزعامة الشعرية».
الجدير بالذكر أنه وخلال وجودهم في هذا المقهى في بداية عام 1948 صدر ديوان بدر شاكر السياب «أزهار ذابلة» وديوان عبد الوهاب البياتي «ملائكة الشيطان» وفي السنة نفسها طبع بلند الحيدري مجموعته «خفقة الطين» وأصدرت نازك الملائكة كذلك ديوانها «شظايا ورماد».
يقول حسين مردان: «هكذا بدأت حياة المقاهي الكئيبة ترصع سماء الشعر القديمة بنجوم ذات بريق جديد، وقد قوبلت هذه المجموعات الشعرية بشيء من الحماسة من قبل القراء الشباب ومن المثقفين بصورة خاصة.
تقول المصادر التراثية على لسان الآثاري عادل العرداوي: «شكل مقهى البرازيلية العهد الذهبي في الحياة الأدبية والفنية في العراق، إذ أصبح لكل أديب شخصيته الخاصة، وظهرت وجوه أخرى جديدة كالشاعر رشدي العامل، والقاص نزار عباس، ومحمد روزنامجي، والصحافي الكبير عبد المجيد الونداوي. وهناك وخلف الواجهة الزجاجية العريضة وحول منضدة صنعت من أعواد الخيزران كان يجلس الفرسان الأربعة، حسين مردان، وعبد الوهاب البياتي، وكاظم جواد، وعبد الملك نوري، الذين أصبحوا نقطة الارتكاز لكل أطراف الحركة الأدبية في العراق، ومع أنهم كانوا مختلفين من ناحية اتجاهاتهم الأدبية، فإنهم شكلوا وحدة متراصة ضد كل بوادر الشعوذة ومحاولات الارتداد، كما يذكر حسين مردان، وفي تلك الفترة انضم إلى هذه المجموعة كل من سعدي يوسف، ومحمود الخطيب، وماجد العامل، وكان يحضر لـ(البرازيلية) أحيانا بعض المفكرين المعروفين كالدكتور فيصل السامر، والأستاذ إبراهيم كبة، والدكتور علي الوردي، وغيرهم، وفي مقهى البرازيلية بالذات نشأت التيارات والأفكار التجديدية في الشعر والأدب»..
يذكر أن هذا المقهى كان مسرحًا لبدء مسار الحركة التشكيلية ونهضتها في العراق على أيدي الفنانين الكبيرين جواد سليم، وفائق حسن. ومن أشهر رواد هذا المقهى بلند الحيدري، وفؤاد التكرلي، ونهاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان، وفيه أيضًا ولدت فكرة تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عام 1952، ولكن الحكومة التي كانت تتعقب خطوات كل شاعر وأديب، شعرت بخطورة مثل هذا التجمع الأدبي، فأوعزت لعدد من مرتزقة الأدب بتقديم طلب مشابه، وقد أجيز الطلب فعلاً، وفي سنة 1952 ألقي القبض على حسين مردان من قبل البوليس السري، بعد صور ديوانه المثير للجدل، «قصائد عارية» وبعد توقيف طويل في معتقل أبو غريب قدم إلى المجلس العرفي العسكري وحكم عليه بالسجن لمدة سنة، ولما عاد مردان إلى «البرازيلية»، كان يقول: «الفرسان الثلاثة كعهدي بهم يجلسون خلف الواجهة الزجاجية ويتحدثون عن الحلم المشترك نفسه، وكانوا قد فصلوا من وظائفهم فصاروا يفكرون بالهرب بصورة جدية.
مقهى البرلمان، وهو مقهى شعبي قديم يقع قبالة جامع الحيدرخانة، له مكانة معروفة لدى عامة الناس في بغداد، يقول إبراهيم الوائلي في ذكرياته عنه: «كان مزدحمًا بالمرتادين، كانت الصحف توزع على الراغبين في قراءتها، ثم إعادتها مقابل أجر لا يتجاوز عشرة فلوس، وكان يرتاد المقهى الصحافي عبد القادر البراك، والشاعر بلند الحيدري الذي يسلّم ويجلس وهو يمزج الضحكة الخفيفة بالانفعال والتذمر من فراغ الجيب، ولكنه لا ينسى الحديث في الشعر واللغة، وكثيرًا ما يدخل الشاب النحيل بدر شاكر السياب وهو يتهادى في مشيته ويتأبط كتابًا فيجلس ويشارك في الحديث.
وفي مقعد قريب يجلس الشاعر حسين مردان والسيجارة لا تفارق شفتيه وأحاديثه في الشعر والنقد. والشيخ علي البازي شاعر المؤرخين جاء من الكوفة. «نحن في سنة 1959م» والحديث للوائلي: «وهذا بدر شاكر السياب يخرج من المقهى وكنت قادمًا إليه فيسلّم وقد امتص المرض دمه وزاده شحوبًا على شحوب، قلت: إلى أين بدر؟ فقال: لست أدري، ولعله كان يعاني أزمة تصطرع في أعماقه فلا يدري إلى أية جهة يصير».
وقد شهد وقتها حركة دائبة من الأدباء الذين توافدوا عليه، وخصوصًا من محافظات القطر، فكانوا يتبادلون قصائدهم، ومناقشة هموم الجيل والظواهر الثقافية والحراك الخصب آنذاك.
وثمة أمران تميز بهما هذا المقهى، أولهما: اتخاذه تقليدًا أسبوعيًا لالتئام الأدباء والفنانين فيه في عطلة الجمعة من كل أسبوع، ولإسهام جيل السبعينات فيه وحضور صوته الذي بدأ بمنازعة أدباء الستينات وتجلي مناظراتهم فيه. لكن هذا المقهى ما لبث أن استقطب أجيالاً أدبية أخرى دخلته وكان لها هامش اجتهاد إبداعي كجيل الثمانينات والتسعينات.
في نهاية الستينات، ظهر مقهى سمي بمقهى «المعقدين» في بداية شارع السعدون (وسط بغداد) ليس بعيدًا عن شارع الرشيد، كان يضم مجموعة من الأدباء المتمردين على السائد في المشهد الثقافي، المتطلعين إلى الاتجاهات الحديثة في الأدب العالمي، كالمسرح الفقير، والمسرح الأسود، والتغريب، فضلاً عما شهدته مناقشاتهم في العبث، والوجود، والعدم، والالتزام، جعلت منهم جيلاً خارجًا على الذائقة التقليدية لعموم الأدباء، كما يذكر صالح هويدي، وهو ما كان وراء سلوكهم الانطوائي وتحفظهم إزاء المجموعات الأدبية الأخرى وإطلاق تسمية المعقدين عليهم، ولعل من أبرز أدباء هذه المجموعة الشاعر عبد الرحمن طهمازي، وشريف الربيعي، وأنور الغساني، وقتيبة عبد الله، والرسام إبراهيم زاير. يقال إن تسمية المعقدين نسبة إلى العلامة الملائمة على الصراع الأدبي المفتوح وبناء الشخصية التي تقترح الحداثة، لا كإنتاج نصي، بل كمناخ للحياة.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.