جعلت المنظومة الحداثية وهي تستأسد بالعلم، الطبيعة مجرد ظاهرة يمكن قياسها، مهملة كل نظرة غائية أو ما ورائية. فما دام أن تكميم الظاهرة يعطي أكله، فلماذا البحث أبعد من ذلك؟ بكلمة واحدة، منذ بزوغ العلم الحديث في القرن السابع عشر، توجه العلماء إلى النظر في «تكوين العالم» وليس إلى «خلق العالم». فالخلق من اختصاص الله عز وجل، أما البشر وبعقلهم المحدود، فلا قدرة لهم إلا النظر في مكونات وأجزاء العالم. فالعاِلم البيولوجي مثلا، وهو يفحص الكبد لا يسأل سؤال من خلق هذا الكبد، فهذا أمر محسوم والجواب الديني عنه فيه الغنية. بينما العالِم يبذل جهده للحفر في مكونات الكبد، فيكتشف، مثلا، أنه معمل يخزن السكر على شكل غليكوجين، وأن له دورًا في تصفية بعض السموم وأشياء أخرى. هذا يفسر لنا لماذا تم تهميش الدين من البحث العلمي، لأن الاهتمام بالتكوين عوض الخلق أصبح طاغيا على نظرة العلماء. لكن الأمر سينعكس على الإنسان سلبا. فغياب الله كانت له تداعيات وخيمة، أهمها النظرة الصماء التي تفقد العالم هيبته وجماله وقداسته، ناهيك بقتامة المشهد الكمي للعالم، مما يترتب عنه غياب المعنى، وهو أشد ما تعانيه الحضارة الغربية بمنظومتها هذه التي مست كل البشرية من دون استثناء وكأنه وباء لا يرحم.
هذه المقدمة كانت ضرورية لفهم أطروحة مفكر يسطع نجمه في الآونة الأخيرة، وبمؤلفات غزيرة، وفي أوقات متقاربة، وكأن الرجل في تسارع مع الزمن ليقول كلمته الفصل في الأزمة العربية والغربية معا، إنه الدكتور طه عبد الرحمن. وإليك بيان ذلك:
يدخل مشروع طه عبد الرحمن في عملية نقد للحداثة، التي يسم أنموذجها الموجه في التفكير بالدنيانية، وهو الاسم الذي اختاره للفظة المتداولة اللائكية. وتعني الدنيانية عنده تلك الموجة العارمة لانتزاع قطاعات الحياة من الدين وباشتقاقاته اللغوية المعهودة، يقترح طه عبد الرحمن مصطلح العلمانية (بفتح العين) للدلالة على فصل السياسة عن الدين، والعلمانية (بكسر العين)، للدلالة على فصل العلم عن الدين والدهرية، للدلالة على انفصال الأخلاق عن الدين. وهذا ما يقف عنده بتفصيل في كتابه «بؤس الدهرانية» الصادر أخيرا، عن دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر الطبعة الأولى 2014 / بيروت.
لكننا سنقف في مقالنا عند كتاب آخر، حاول عبد الرحمن من خلاله، أن يجيب عن بعض المآزق أو الآفات التي وضعتنا فيها الحداثة. والكتاب هو «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري»، الصادر عن المركز الثقافي العربي. وقد ألفه طه عبد الرحمن ليقدم، من خلاله، الجواب الإسلامي عن أسئلة الحاضر، التي حددناها أعلاه وبوضوح: إنها ترتبط بالهواجس الأخلاقية وغياب المعنى والهدر الطبيعي. ويرى طه أن على كل أمة أن تجيب عن أسئلة عصرها وباستقلال، وأن لا ترتمي في جواب الغير، ومن ثمة السؤال: هل للأمة المسلمة جوابها الخاص عن أسئلة زمانها؟ وزمان هذه الأمة مرتبط بالدين الخاتم وهو حق لها، فهي تختص بهذه الخاتمية.
يطلق طه عبد الرحمن على النظرة الإسلامية الخالصة اسم: «النظرة الملكوتية»، أي النظرة التي لا تبقى عند مستوى الظاهرة بل تتعداها إلى «الآية». بعبارة أخرى، يقسم طه عبد الرحمن نظرة المسلم للعالم إلى قسمين هما:
1 - النظر الملكي: إنه النظر في عالم الظواهر، أي كل ما يظهر للعيان، ويكون محددا في الزمان والمكان، وحاملا لأوصاف تقوم بينها علاقات موضوعية ولما كان عالم الظواهر في كتاب الأمة المسلمة، هو عالم الملك، مصداقا لقوله تعالى، في سورة المائدة 17، «ولله ملك السماوات والأرض»، فإن النظر إلى الأشياء يصبح هو النظر الملكي. وقصد توضيح المسألة، يضرب لنا طه مثالا على ذلك بظاهرة «نزول المطر». فهي نتيجة عن تبخر المياه، ثم تراكمها كسحب، وجراء البرودة تتحول إلى قطرات ماء.. وتتضح العلاقات المضبوطة بين لحظات الظاهرة.
2 - النظر الملكوتي: إنه مرتبط بالآيات، أي هو الظاهرة منظورا إليها من جهة «المعنى»، والمقصود هو الحكمة التي وجب العمل بها. فإذا ما أخدنا المثال نفسه، «ظاهرة سقوط المطر» السابقة، فهي تصبح آية، إذا ما جرى النظر إليها من جهة المعنى. فقد تفيد مثلا، معنى الحياة أو البعث أو الرحمة أو النعمة. فظاهرة نزول المطر تختزن أربعة معان أي أربع آيات. وما دام أن عالم الآيات يسمى في كتاب الأمة المسلمة بعالم الملكوت، فالنظر إلى الأشياء باعتبارها آيات يصبح: النظر الملكوتي. مصداقا لقوله تعالى: في سورة الأعراف 185، «أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء».
إذن نحن نعقل من النظر الملكي أي الظاهرة، الأسباب. أما النظر الملكوتي، أي الآية، فنحن نعقل منها القيم. فالمسلم بحسب طه عبد الرحمن، ينظر إلى الشيء نظرتين ويعمل على المزاوجة بينهما: أولا نظرة أصلية يتدبر فيها الأشياء من جهة المعنى، أي ينظر إلى ما وراء الظواهر التي تفضي إلى الإيمان. وثانيًا نظرة فرعية يدبر بها المسلم الأشياء مما يؤدي إلى العلم. بكلمة أخرى، هناك قراءتان للعالم: قراءة الأشياء وقراءة الآيات.
* أسبقية النظر الملكوتي
يؤكد طه عبد الرحمن على أن المسلم يعطي الأولوية للنظرة الملكوتية على حساب النظرة الملكية على أهميتها. فالمسلم يؤسس نظره الملكي، أي علم الظواهر، على نظره الملكوتي أي يؤسس نظره للأشياء (العلم) على أساس نظره للمعاني والآيات، وهذا الدمج هو ما يعطي حياة لا ضنك فيها وتؤدي إلى الفلاح في المآل ومن ثمة السعادة.
إن طه عبد الرحمن يرى أن إيمان المسلم ملكوتي لا ملكي بالأصل. لأن نظرته شبيهة بنظرة الآدمي وهو على حال الفطرة: أي ذلك الآدمي الذي يدرك الأشياء غير منفصلة عنه، وإنما يدركها بقيم متصلة به. فالنظر الملكي يؤدي إلى العلم لا إلى الإيمان، وإلا لكان كل من نظر ملكيا للعالم هو مؤمن، ونحن نرى عكس ذلك يقول طه عبد الرحمن. فكثير من العلماء يزداد عدم إيمانهم كلما ازداد علمه بالظواهر، لشعوره بأنه يتملك الأشياء كلما ازداد النظر فيها. وهو الأمر الذي دفع بطه عبد الرحمن إلى أن يقول في آية سورة فاطر 26 - 28: «إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور». إن المقصود بالعلماء ليس أولو النظر الملكي، أي الذين يتوقفون عند الظواهر، وإنما أولو النظر الملكوتي الذين ينفذون إلى الآيات.
إن غياب النظر الملكوتي باعتباره نظرًا في مختلف الآيات للوقوف على قيمها، يضر بحسب طه، بالعقل، لأنه يمثل الطرف المؤسس (بكسر السين)، الذي يؤدي إلى سد النقص الذي فيه الطرف المؤسس (بفتح السين). فالنظر الملكي مهما أدى إلى كشف قوانين الظواهر والأحداث، فإنه لا يستطيع الخروج منها إلى أفق المعايير المثلى الضابطة لتطبيقات هذه القوانين. إذن القيم الضابطة للعلم يجب أن تنبع من القيم الروحية. فالنظر الملكي عليه الاستعانة بالنظر الملكوتي فهو المزود بالمعايير العليا.
نخلص إلى أن الجواب الإسلامي عن أسئلة هذا الزمان، بحسب طه عبد الرحمن، هو جواب يصطبغ بالإيمان. وهو بهذا يكون كمن أراد قلب الميزان الحداثي رأسا على عقب. فكل الإهمال للنظر الملكوتي في الباراديغم الحداثي، يتم إرجاعه وإعطاؤه الأولوية. وكأن طه عبد الرحمن يريد نسف غرور العلماء، أي أولي النظر الملكي، الغارقين في عالم الظواهر دراسة وتكميما وإيجادا للأسباب والروابط والعلاقات بين الأحداث، من دون ضوابط حاكمة، ومن دون تسديد من القيم الروحية. ليقول لهم إن ما تقومون به مجرد عمل سطحي لا يرقى إلى عمق الأشياء، وعمق الأشياء هو الآيات والمعاني المستنبطة من الظواهر.
باختصار، وكما يبدو لنا، يريد طه عبد الرحمن أن يقول: إن من حق المسلم أن يفكر بطريقته الخاصة التي يمتحها من دينه الخاتم وباختلاف عن الأمم الأخرى، وأساس هذا التفكير عكسي تماما للأمة الغربية. إنه يبدأ بالإيمان ليصل إلى العلم وليس العكس. وبعباراته التأصيلية التي تتلاءم والتداول الإسلامي، كما يحلو له القول دائما: المسلم يفكر ملكوتيا أولا، ثم ملكيا ثانيا.
هل هذه الأطروحة تحمل جديدا؟ أم هي مجرد نحت لقوالب عربية لمسميات غربية؟ وإذا كانت تريد الاستقلال والإبداع وتقديم البديل غير المقلد، أليس محركها هو هذا الآخر المختلف نفسه؟ وهل هناك حدود بين الخصوصي والكوني؟ تلك أسئلة سيحكم عليها التاريخ!!.