* بينما كل شيء على الجبهتين الفنية والثقافية في عالمنا العربي جامد لا يتغير، ودائما ينتظر شيئا ما لا يصل، تتبدل وسائط الإنتاج ووسائط العروض السينمائية، بحيث بات من الممكن الآن الاستغناء عن «شباك التذاكر» كشرط أساسي لنجاح الفيلم.
* فيلم «وحش بلا أمّة» للأميركي ذي الأصل الياباني كاري فوغوناغا هو مثال نموذجي لهذه المتغيرات. الفيلم من إنتاج شركة إنتاج وبث تلفزيونية اسمها «نتفلكس»، كانت انطلقت للعمل قبل سنوات قليلة كبائعة لأفلام تشتري حقوقها لبثها حسب الطلب. الآن هي منتجة أيضًا لكن ليس لكي تعرض ما تنتجه على الشاشات الكبيرة ولا على محطات التلفزيون العادية أو الفضائية الأخرى، بل كسبيل لبيعه حسب الطلب ومن دون المرور على الشاشات السينمائية كما هي العادة.
* الفيلم مغامرة صبي قتل جنود حكومة أفريقية والده وأخاه، وباعدته الظروف عن والدته ليقع بين يدي فصيل من الثوار الدمويين وليتحوّل على أيديهم إلى سفاح. لكن هذا هو الفيلم، أو بعضه الموجز، لكن الحكاية، التي تسترعي الاهتمام، كيف أن «نتفلكس» بدأت شركة صغيرة والآن باتت تتمتع بقوّة 65 مليون زبون، مما يطرحها فجأة كلاعب بين المؤسسات الكبيرة الأخرى (سوني، يونيفرسال، فوكس إلخ..).
* «يونيفرسال» أعلنت عن أن أرقام إيراداتها في الأشهر الستة الأولى من هذا العام بلغت أكثر من 5 مليارات دولار. هذا يطمئن العديدين لمستقبل ما زال معقودا للطريقة التقليدية لمشاهدة الأفلام: تختار الفيلم وتختار الصالة. تشتري تذكرة وتدخل مع أو من دون «البوب كورن» والبيبسي، وتستمتع بالفيلم على الشاشة الكبيرة.
* رغم ذلك، نجاح «نتفلكس» ليس خاليًا من موجبات القلق. هل سيبلغ الإنسان الغربي (عندنا هذا موجود منذ فترة طويلة) درجة من الكسل لدرجة أنه سيكف عن الذهاب إلى السينما ما دام بمقدوره مشاهدة أفلام جديدة على الشاشة الصغيرة. سيرضى بالتنازل عن الحجم المليء والمجسد إلى حجم صغير محدود التأثير؟
* لقد مرّت السينما بأزمات كثيرة أنقذت نفسها منها إما عبر الجرأة في طرح مواضيع كبيرة أو عبر إنتاجات مكلفة (كلفة «وحش بلا أمة» لم تتجاوز الـ12 مليون دولار) أو عبر تطوير وسائلها التقنية (الأبعاد الثلاثة، آيماكس، إلخ..)، أو عبر المسلسلات السينمائية الضخمة التي لا تستطيع محطات التلفزيون الحلم بإنتاجها («ستار وورز»، «باتمان»، إلخ..)، وما يمثله الإيراد الكبير لشركة «يونيفرسال» ليس سوى برهان على قوتها وعنفوانها. وذلك يؤكده وجود المهرجانات السينمائية الكبيرة وما تنفرد به من أفلام تلقى بدورها إقبال الجمهور العريض في ما بعد.
* ما تغيّر أيضًا واختلف هو أن السينما الفنية (سينما المهرجانات الكبيرة) باتت قادرة على الاستفادة من أسواقها الخاصة. ليس هذا جديدا، لكنه حالة متنوّعة وبديلة عن فترة كانت السينما المذكورة (بعضنا يسميها سينما المؤلف، وبعضنا الآخر يعتبرها سينما مستقلة) تحتفظ لنفسها بجمهور عالمي أكبر. بالتالي، ليس فقط الشركات الهوليوودية الكبيرة هي التي تنجز إيرادات ضخمة، بل تنجز كذلك جزءا كبيرا من الأفلام الفنية شريطة أن تتعامل وعناصر الفيلم بذكاء. تجعل منها (سواء أكانت كناية عن اسم المخرج المعروف أو اسم الممثل أو الموضوع) قادرة على التشبث بحيّزها التجاري العالمي (20 - 25 في المائة) من إيرادات السوق.
* كل هذا وسواه يحدث بينما لا نكف نحن عن لعب دور المستورد الصامت. ليس الشريك الصامت للأسف، بل مجرد ذلك المهتم الذي يترك للآخرين صنع ما يبيعونه له من لعب يتسلى بها. مستقبل المخرجين الجيدين بيننا هو الانضمام إلى الحركة العالمية: أوروبا لم تعد بديلا. أميركا هي البديل. لكن هذا الجهد وأفضل منه كان يمكن له أن يُستثمر لولا تلك المشاكل المعيقة. ذات حكاية البيضة والدجاجة.
المشهد: السينما دائماً تحل أزماتها
المشهد: السينما دائماً تحل أزماتها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة