في يوم 15 أغسطس (آب) من عام 1869 وفي حضور الخديوي إسماعيل، أعطى فردنان ديليسبس إشارته بدخول مياه البحر الأحمر إلى البحيرات المرة ثم لمجرى قناة السويس بحماس شديد قائلاً: «منذ خمسة وثلاثين قرنًا انحسرت مياه البحر الأحمر بأمر من النبي موسى. واليوم تعود هذه المياه إلى مجراها تنفيذًا لأمر عاهل مصر».
كان ديليسبس متحمسًا للمشروع وفكرته التي ظلت تراوده لسنوات، ووثق كل تفاصيله في رسائله، ومنها رسالة كتبها في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1854، تلك الرسالة التي أرسلها ديليسبس قبل البدء في حفر قناة السويس، ذلك الحلم الذي بدأ لدى علماء الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت، ولم يتحقق ظنًا منهم أن هناك فارقًا في المنسوب بين البحرين قد يؤدي لغرق الدلتا، وسعى وراءه ديليسبس. جاء فيها: «بدأت الحياة تدب في المعسكر والنسمات تعلن عن شروق الشمس، على يميني الشرق بكامل عظمته، وعلى يساري الغرب حالك وملبد بالغيوم. وفجأة يبزغ قوس قزح بألوانه البهية ويغوص بأطرافه شرقًا وغربًا، أعترف بأن قلبي لم يتحمل وأخذ يدق بعنف. وشعرت بأنني في حاجة إلى الحد من جموح خيالي المبتهج مستعينًا بالدلائل التي تتحدث عنها الكتابات الشعرية وباللحظة الحقيقية التي يتحد فيها غرب العالم وشرقه، وباليوم المشهود الذي يكلل فيه مشروعي بالنجاح».
لم تكن تلك الرسالة لشاعر أو فنان فرنسي بل رسالة ديليسبس إلى مدموزيل «ديلامال»، التي وثقها كتاب «رحالة وأدباء فرنسيون في مصر» لمؤلفه جون ماري كاريه وصدر عام 1956.
ولد ديليسبس في ضاحية فرساي القريبة من باريس في 19 نوفمبر عام 1805 لأسرة تعمل بالدبلوماسية واشتهرت بمواقفها المؤيدة لنابليون، وعقب رحيل نابليون عن مصر أوفد ماتيو ديليسبس والد فردناند، وأصبح مقربًا من محمد علي باشا الكبير، وقبل رحيله عن مصر طلب منه الاهتمام بابنه فردناند. في عام 1832 جاء فردناند إلى الإسكندرية وأصبح قنصلاً عامًا لفرنسا فيها وعمره 27 عامًا. وأثناء قضائه فترة الحجر الصحي كان يتصفح كتاب «وصف مصر» وإذا به يجد فكرة «مشروع البحرين الأبيض والأحمر» ظلت الفكرة الجهنمية تطارده وراوده حلم تغيير العالم.
وفي 15 نوفمبر عام 1854 أثناء مشاركته في جولة عسكرية يقودها الأمير سعيد بن محمد علي في صحراء العامرية بالإسكندرية لم يستطع ديليسبس أن يكبح جماح نفسه واقترح فكرة مشروع حفر قناة السويس، هنا قال له سعيد: «مشروعك هو مشروعي.. لقد وافقت عليه، وسوف نتولى أثناء الرحلة بحث وسائل تنفيذه»، ثم جمع مرافقيه من الباشوات ليشاورهم في الأمر، وبالفعل حصل على موافقتهم وبعد 15 يومًا حصل ديليسبس على فرمان الامتياز والإذن ببدء المشروع. وقد استمر حفرها 10 سنوات.
كتب ديليسبس في خطابه أمام الأكاديمية الفرنسية: «هذا المجرى الجديد الذي فتح أمام السفن يصل 300 مليون أوروبي بـ700 مليون آسيوي، إن البحر الذي عايشت ضفافه أجمل وأروع ما صنعه الإنسان.. البحر الذي تاه فيه البطل «أوليس» لمدة 10 سنوات، البحر الذي حمل سفن موسى الممتلئة بالكنوز، ومراكب الإغريق المنتصرة وسفن الرومان الكئيبة، وبواخر الصليبيين وسفينة سانت لويس الشراعية الكبيرة والسفن الشراعية الحربية لأهل البندقية، وبيزا وجنوا، هذا البحر المتوسط المهجور الذي زالت أمجاده ومفاخره التاريخية بعد أن اكتشف فاسكو دي جاما، طريق رأس الرجاء الصالح.. هذا البحر يشهد الآن أساطيل السفن البخارية تحمل أثمن بضائع أوروبا وأسيا وتفتح مداخل ثغوره على مصراعيها ليصل مداها إلى محيطات الهند واليابان والصين».
لقد كان مشروع القناة أسطوريًا، وقراءة مراسلات الفنانين والرسامين الفرنسيين الذين جاءوا في بعثات من أجل مشروع القناة العملاق آنذاك تكشف لنا أسطورية هذا المشروع في ذلك الزمان. فقد قام الرسام الفرنسي نارسيس برشير (1819 - 1891) Narcisse Berchère، صاحب كتاب «صحراء السويس: خمسة أشهر عبر البرزخ» بتصميم رسومات مجسمة للقناة ومتابعة المشروع الحلم، وتقديم رسومات عن القناة للإمبراطورة أوجيني، فكتب في رسائله للفنان الفرنسي أوجين فرومنتان: «ها نحن نتابع الخطوات الأولى لتنفيذ هذا المشروع العملاق، بداية من دمياط التي شيدت فيها المخازن الرئيسية وموقع القيادة المتواضع، وحتى بورسعيد مدينة الهناجر والدكاكين الواقعة على شاطئ البحر ذات العشرين شهرًا التي تضج بالحياة وبضوضاء الورش، ثم نتقدم من بورسعيد لنصل إلى القنطرة وهو المكان الذي كان يمر فيه الطريق القديم للقوافل القادمة من آسيا، والذي يتوقف فيه الآن الجزء الأول من القناة القادم من البحر المتوسط».
أما أجواء الاحتفال الأسطوري الذي حرص الخديوي إسماعيل أن يكون فائق البذخ كان بالفعل كذلك، فقد ذهب إلى أوروبا لدعوة ملوكها، ووجه الدعوة إلى نحو ألف من الشخصيات المرموقة في أوروبا زار منهم تسعمائة فقط السويس بينما اختير مائة زائر بعناية لمرافقة الخديوي لرؤية صعيد مصر والتعرف على الحضارة المصرية القديمة، وقام عالم الآثار الفرنسي الكبير مارييت بطبع كتيب به معلومات عن صعيد مصر ومدينة أسوان وتم توزيعه على الصفوة منهم قبل سفرهم إلى الأقصر.
موكب الإمبراطورة أوجيني ضم الأمير جواشيم مورات وابن أخيه الدوق دي هوسكار وحاجبه الكونت دي كوسيه بريساك وفارسه الأول الكومندان رامبو وياور الإمبراطور الجنرال دواي والضابط المرافق له الكابتن هيب وبنات شقيقته وبعض الوصيفات. كما حضر إمبراطور النمسا فرنسوا جوزيف ومن ورائه أمير بروسيا ثم أمير وأميرة هولندا ثم أمير هانوفر ثم الأمير الجزائري عبد القادر، ومن ورائهم موكب كبير من أصحاب السمو والألقاب.
وكان من مظاهر الاحتفال الأسطوري مشهد ظهور اليخت الإمبراطوري الفرنسي «ليجيل» مزينًا بالأعلام، تصحبه من بورسعيد 17 باخرة من دول العالم تعلوها الأعلام، والإمبراطورة أوجيني على متنه تحيي بمنديلها الضيوف وبجانبها ديليسبس، ومعهم على متن اليخت الفرنسي موفدون من كبار الشخصيات في العالم، فأرسلت ألمانيا أهم علماء المصريات لديها لبسيوس ودوماخن ودراك، بينما أرسلت النرويج كاتبها الشهير إبسن، وأرسلت سويسرا العالم نافيل، ومن إسبانيا جاء الكاتب المسرحي أوزوبيو بلاسكو. أما الحضور فكان منهم الفنانون الفرنسيون فائقو الشهرة جيروم وبرشير وفرومنتان. وتورنمين ولونوار والمثال الفرنسي جيروم. وكان الوفد الفرنسي هو الأكبر وضم كبار العلماء الفرنسيين وشعراء مثل تيوفيل جوتييه، والناقد الفني الكبير شارل بلان، إلا أن الشاعر جوتييه لم يتمكن من حضور الاحتفال بسبب كسر في ذراعه أصيب به أثناء سفره من مارسيليا إلى مصر وظل مقيما في فندق شبرد التاريخي يكتب عن يومياته في مصر ويوثق لكل ما يراه ويسمعه، كما وثق لوصول الموكب الفرنسي لميناء الإسكندرية واستقلالهم لقطار خاص للقاهرة، فقد وصف الموكب وصفا ساخرا قائلاً: «كان كثير منهم قد تزود لهذه الرحلة القصيرة التي لا تستغرق سوى أربع ساعات كما لو كانت رحلة نيلية لما وراء الشلالات وكانت درجة الحرارة تقارب مثيلتيها في مارسيليا أو الجزائر. ناهيك بتسريحات الشعر شديدة الغرابة العادية جدًا منها عبارة عن قبعات من التل الأبيض يتدلى منها جزء من الخلف أسفل الرأس يشبه الحلقات المعدنية للعسكر وبها واق أخضر مسدل على الوجه، وعلى جانبي الرأس فتحتان للتهوية».
أما الرسام الفرنسي أوجين فرومنتان Eugène Fromentin) 1820 - 1876) الذي يعد مؤرخ حفل قناة السويس، فقد جاء في مذكراته التي نشرت في كتاب «voyage en Egypte» وصف رائع يسجل الساعات التي تسبق الافتتاح التاريخي للقناة: «كان القطار يعج بالشركس والنساء والعساكر والمعاقين والمكفوفين.. وأثناء ذلك وعلى ساحل بورسعيد حيث توحد الصليب مع الهلال، كانت الترانيم المسيحية وابتهالات المسلمين تصعد إلى سماء مصر. وفي حضور الخديوي وكبار المدعوين.. وكان يدوي في أنحاء العالم الأربع اسم فردناند ديليسبس العظيم». إلا أنه في صباح اليوم التالي تعقدت الأمور في الإسماعيلية وكتب فرومنتان يقول: «سرت أنباء مشئومة تقول إن المركب المصري (لطيف) قد جنح وعاق الملاحة، وبذل 300 رجل مجهودًا مضنيًا لسحبه إلى أحد جانبي القناة. وقضى الوالي ونوبار باشا وديليسبس ليلتهم في الموقع. ويقال إن الوالي هدد بإعدام بعض الضباط.. هل يتمكن (ليجيل) من السير؟ إذا كانت الإجابة نعم.. ستفتتح القناة، وإن كانت لا، هذه هي البلية».
ويصف فرومنتان توقيت افتتاح القناة: «جمهور غفير، سلاح المدفعية، وحدات من الرماحين المصريين على أهبة الاستعداد على الساحل، في الرابعة تقترب ثلاث سفن مغطاة بالأعلام من قناة السويس وتلقي بالمسراة في البحيرة.. مرحى!.. في الخامسة والنصف رأينا دخانًا خفيفًا وأعلى أحد الصواري من وراء الحافتين الرمليتين لقناة الشمال. وكان الصاري الكبير للسفينة التي لم تظهر بعد يرفع العلم الإمبراطوري لفرنسا. إنها (ليجل) وتم أمامنا ببطء وحذر.. وتطلق المدافع طلقات التحية ويرتفع تصفيق الجمهور الغفير.. إنها حقًا لحظة بديعة».
ويروي: «ومنذ هذه اللحظة وطوال يومين والأفراح لا تنتهي.. طلقات نارية، صخب، رقص، دراويش، مآدب عشاء، حفلات وأيضا هرج ومرج.. أصدقاء يتوهون وجمال وعير وعربات خيل إنجليزية وخيول عربية وخيالة وفرسان واستعراضات للجنود.. ونرى الإمبراطورة في أبسط زينة وهي تنزل من على جمل مزركش ووراءها عربة ملكية يجرها ثمانية من الجمال البيضاء، وإمبراطور النمسا مرتديًا قبعة زرقاء يمر أمام الخيام..».
ويصف الولائم الأسطورية للحفل: «طعام من الخيال، أسماك شهية، طيور.. نحو 8 آلاف شخص يطعمون في قلب الصحراء. كيف تم إنجاز هذا العمل وكيف تتم عملية الإمداد والتموين.. لا أحد يفهم.. وها نحن نعيش أحداث رواية من ألف ليلة وليلة، وسط الرمال والحصير على الرمال.. خليط خيالي من التبذير والبذخ».
كانت تكاليف الحفل كما ذكرها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل» تقدر بنحو مليون وأربعمائة ألف جنيه، وقد أقيم الحفل على صفة القناة يوم 16 نوفمبر عام 1869، وخصصت ثلاث منصات، المنصة الكبرى للملوك والأمراء وكبار المدعوين، والثانية لرجال الدين الإسلامي يتزعمهم شيخ الأزهر، والثالثة لرجال الدين المسيحي يتزعمهم واعظ البلاط الفرنسي.
والطريف أنه من ضمن استعداد افتتاح القناة، عرض النحات الفرنسي الكبير أوجوست بارتولدي تصميم تمثال «مصر تنير الشرق»، وهو تمثال ضخم يمثل فلاحة مصرية رافعة ذراعها وترتدي غطاء رأس فرعوني، لكن الخديوي اعترض على الغطاء الفرعوني وتوقف مشروع التمثال، وبعد فترة فكر بارتولدي في إهداء التمثال للشعب الأميركي من الشعب الفرنسي وأصبح فيما يعرف الآن «بتمثال الحرية» بنيويورك.
وقبل افتتاح القناة بخمسة أشهر قام الخديوي إسماعيل بتكليف عالم الآثار والمصريات الكبير أوجوست مارييت بتأليف أوبريت «عايدة» الشهير، كما تم تكليفه بالاتصال بالموسيقار الشهير فردي لتلحينها، ولما رفض قائلاً إنه ليس ملحن مناسبات، فهدد الخديوي باللجوء إلى فاجنر أو جونود وحصل بالفعل الملحن الإيطالي على 150 ألف فرانك بعد أن وقع العقد في يوليو (تموز) 1870، ولم تقدم «عايدة» في افتتاح القناة، لكن الأوبريت ظل خالدًا حتى الآن.
قناة السويس.. حلم ديليسبس الذي غير العالم في الوثائق التاريخية وأعمال كبار الفنانين
الرسام الفرنسي فرومنتان وصف حفل الافتتاح: نعيش أحداث رواية من ألف ليلة وليلة.. خليط خيالي من التبذير والبذخ

صورة للعمال المصريين أثناء حفر القناة، صورة فردنان ديليسبس، فرمان إنشاء قناة السويس
قناة السويس.. حلم ديليسبس الذي غير العالم في الوثائق التاريخية وأعمال كبار الفنانين

صورة للعمال المصريين أثناء حفر القناة، صورة فردنان ديليسبس، فرمان إنشاء قناة السويس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة