كانت لندن تحتفل بأسبوعها الرجالي عندما تلقت «الشرق الأوسط» دعوة لمقابلة تومي هيلفيغر وإجراء لقاء معه. رغم زحمة البرنامج، ورغم أن موعد اللقاء كان باكرا وفي يوم أحد، لم أتردد لحظة. لم يكن الفضول الصحافي وحده الدافع بقدر ما كان مقابلة عصامي يجسد الحلم الأميركي، ومصمم تعرض لعدة مطبات ونكسات كان يقوم منها في كل مرة أقوى من الأول. في اللاشعور، تأملت أن يودعني، في لحظة ضعف أو صفاء، تعويذته للنجاح. في غمرة حماسي وصلت قبل الوقت بربع ساعة، كانت القاعة المخصصة للقاء واسعة تتوسطها طاولة تراصت فوقها كتب موضوعها واحد، تاريخ الموضة الأميركية وطبعا ماركة تومي هيلفيغر التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من هذه الموضة. على جوانبها تراصت قطع من تشكيلته الأخيرة مقسمة إلى مجموعات: واحدة للنهار وأخرى عبارة عن قطع منفصلة و«سبور»، بينما في جانب آخر، ظهرت ديكورات تجسد غابات أمازونية وأدغالا شكلت خلفية لأزياء مفصلة في غاية الأناقة تكاد تجزم بأنها لواحد من خياطي «سافيل رو» لولا أنك في مقر تومي هيلفيغر الرئيسي والتوقيع المكتوب خلف ياقة كل قطعة يحمل اسمه.
في الوقت المحدد، ظهر تومي هيلفيغر ببدلة مفصلة بالأزرق الداكن وقميص أبيض مع ربطة عنق. لا يشي شكله بأنه تعدى الستين من العمر لولا المعرفة المسبقة بتاريخه الطويل وقراءتي عن المحطات التي مر بها منذ أن دخل هذا المجال وعمره 18 عاما فقط.
عندما بدأ يتكلم أدركت بحسي الصحافي أن أملي في أن يبث لي أسرار تعويذته الخاصة سيكون صعبا، لأنه لا يتحدث بصوت منخفض وهدوء شديد فحسب، بل لا ينطق بأي كلمة قبل أن يلوكها عدة مرات وكأنه يزنها. بعبارة أصح، هو من النوع الذي يؤمن بالملخص المفيد ولا يحب الثرثرة أو السفسطة. في منتصف اللقاء زادت قناعتي بأنه لن يبوح لي بها، لسبب مختلف، وهو أنها ليست تعويذة أو سحرا بقدر ما هي قوة مثل بركان يغلي بداخله، لا تعترف بالفشل ولا بالخوف من المجهول. هذه القوة الداخلية هي التي تجعله يُجسد الحلم الأميركي ولا يخنع للكبوات مثل فرس عربي أصيل. عندما أشير إلى الحلم الأميركي، يرد بثقة وكأنه توقع سماعها: «إذا كان المقصود بها، شخص يبدأ من الصفر ويحقق النجاح، فهذا صحيح. لكن لا بد أن أشير إلى أن أقصى ما حلمت به أيام الشباب كان مخاطبة الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن يشمل الوصول إلى الهند والصين والشرق الأوسط وباقي أنحاء العالم، فهذا يفوق الحلم».
ينعرج الحديث إلى لندن واختياره لها بدل أي عاصمة أخرى لعرض تشكيلته الرجالية، ليسارع بالتعبير عن حبه لها قائلا: «منذ بضع سنوات وعندما أطلقنا أول تشكيلة فيها، أعجبت بها وبإيقاعها. فهي تعبق بالحيوية والموضة جزء من ثقافتها. ما شدني فيها أن الرجل البريطاني يحب الموضة ويتعامل معها بشكل يومي لكنه في الوقت ذاته غير مهووس بها أو ضحية لها، وهو ما أثارني، وجعلها تحتل مكانة مهمة في قلبي».
لموسمي الربيع والصيف المقبلين أيضا، اختار تومي هيلفيغر لندن لعرض تشكيلته الرجالية مبررا ذلك بأن تشكيلته الحالية تتركز «على التفصيل الراقي، الذي يقدره زبائننا من كل أنحاء العالم». وبالفعل كان هناك سخاء في البدلات المكونة من سترات مزدوجة، بعضها مصنوع من القطن وبعضها الآخر من الحرير الناعم بألوان تناسب الصيف، فضلا عن أخرى بخطوط مستقيمة ومحددة على الجسم ببنطلونات قصيرة تكشف الكاحل وتخاطب رجلا شابا ونحيفا. هذا عدا عن كم من القطع المنفصلة ذات التفاصيل «السبور» بأقمشة خفيفة يؤكد المصمم وهو يلمسها ويشير إلى وزنها الخفيف «إنها في غاية العملية تتشرب العرق ولا تتجعد حتى في أسوأ الحالات». ولا بد من التنويه هنا إلى أن بداية تومي هيلفيغر كانت أساسا مع الأزياء الرجالية قبل أن يتوسع إلى تصميم الأزياء النسائية والأطفال والعطور وغيرها. الآن ورغم أن قطاع الأزياء الرجالية ينمو بسرعة أكبر فإن الأزياء النسائية لا تزال الأهم، حسب قوله، نظرا لتاريخها الطويل. يبتسم ويقول: إن دور المرأة كبير في تعزيز مكانة الموضة وإدخال الرجل لعبتها، فهي التي «علمته كيف يقدر الموضة ويبدأ في التعامل معها بشكل منتظم». ويضيف: «صحيح أن الرجل تخلص من خجله وتخوفه من إظهار اهتمامه بمظهره كما كان في السابق وأصبح أكثر ثقة في هذا المجال، إلا أننا لا يمكن أن ننكر أن الفضل الأول يعود إليها، لأنها هي التي علمته كيف يستمتع بتجربة التسوق، وهكذا بعد أن كان يقوم بهذه العملية مرتين في السنة ولا يدخل سوى محله المفضل يشتري منه نفس القطع بألوان متنوعة، أصبح الآن يتسوق بانتظام ويتطلع إلى الجديد في كل موسم».
تنامي قطاع الأزياء الرجالية تطلب من علامة «تومي هيلفيغر» أن تخرج من إطار المحلية وأن تتعلم لغة عالمية لكن دائما بأسلوب أميركي. واللغة التي تتكلم بها حاليا بسيطة وسلسة أساسها أزياء تناسب كل الشرائح، من التلميذ والطالب إلى رجل الأعمال الذي يسافر كثيرا ويريد قطعا متنوعة ينسقها حسب حاجته. وهذا ما يتأكد ونحن ندور ونجول في قاعة العرض وما فيها من أزياء وإكسسوارات، وصوت تومي هيلفيغر الهادئ يشرح أن كل ما يريده الزبون يجده هنا «أيا كان أسلوبه وثقافته وهواياته وميوله، أما الأناقة الشخصية، أو الاختلاف، فيكمن سرها في طريقة مزج هذه القطع مع بعض، وهو ما يفرق شخصا عن آخر، رغم أنهما قد يلبسان نفس القطع والإكسسوارات». ويتابع: «هذا ما نطلق عليه الأسلوب الشخصي والعالمي».
طوال حديثه، كان هيلفيغر يؤكد بأن أكثر ما يحرص عليه أن يقدم الترف بأسعار معقولة، أو حسب قوله: «الترف المقدور عليه». ترف لأن كل قطعة مصنوعة بأقمشة جيدة وتصميم أنيق. ومقدور عليه، لأنه بأسعار معقولة «فأنا أرفض أن تكون هناك أي تنازلات على مستوى الجودة، ولا يمكنني أن أقبل وضع اسمي على منتج لا يحترم الزبون أو لا يدوم طويلا». يقول هذا ثم يتوجه نحو مجموعة من الأزياء «السبور» معلقة في جهة من القاعة، ويلتقط قميصا مقلما تزينه حواشي مبتكرة: «خذي مثلا هذا القميص، فإنه يمكن أن يبقى مع الرجل مدى العمر إن هو اعتنى به بالطريقة الصحيحة، لن يؤثر عليه الزمن أبدأ بفضل قماشه، وهو ما اعتبره ترفا».
يبدو واضحا أن المصمم يستهدف الطبقات المتوسطة بشكل أساسي، ولم لا؟ فهي الطبقات التي يُعول عليها صناع الموضة عموما ويعقدون عليها الآمال بأن تُبقي حب الموضة مشتعلا، لا سيما أن عددها يزيد ومعه تعطشها للجديد والأنيق، الذي لا يُروى بسهولة.
ثم أن هذا «الترف المقدور عليه» والمحسوب هو الذي أعاده إلى الواجهة في السنوات الأخيرة، ويجعله يعيش حاليا نهضة جديدة. فقد توسعت خريطة زبائنه، وافتتح محلات جديدة في عواصم رئيسية من العالم، رغم أنه أكد، بابتسامة لها ألف معنى، بأنه لا ينوي أن يتحمس كثيرا ويتوسع بشكل مبالغ فيه. فهو لا يمكن أن ينسى أن أحد أسباب تعرضه لمشاكل مادية كبيرة في السابق، توسعه المبالغ فيه في السوق الأميركية، ما جعل بضاعته تفقد صورتها اللامعة. يشرح: «تعلمنا الدرس جيدا، ومن الغباء الوقوع في نفس الخطأ مرتين، لهذا فنحن لن نتوسع بشكل مبالغ فيه، وكل شيء يخضع لدراسة وحساب شديدة قبل أي خطوة».
وبالفعل، فكل افتتاح الآن يخضع لشبه عملية حربية تؤخذ فيها كل العناصر والتفاصيل بعين الاعتبار من الأسعار إلى نوع الأقمشة وشكل التصاميم وغيرها، خصوصا أن الشركة باتت تحقق أكثر من 6.7 مليار دولار أميركي في السنة، ولها زبائن أوفياء من كل أنحاء العالم. لكن هل هذا النجاح يعني أنه ضمن المستقبل؟ يرد بأن تجارب الماضي علمته أن لا يوجد شيء مضمون، وبأنه لا يجب أن يبقى مكانه ساكنا وقانعا بنجاح الحاضر «أكثر ما أخاف منه أن أصبح راضيا عن نفسي وقانعا بما حققته، لهذا لا أتوقف عن التفكير في طرق للتطوير والتقدم. أريد أن أقوم غدا بكل شيء أقوم به اليوم لكن بطريقة أفضل وأجمل».
كلما تطور الحديث، تلاحظ أنه ينفتح أكثر وبأنه قاموس من التجارب. فقد ذاق حلاوة النجاح، كما ذاق مرارة الفشل، معترفا بأن من بين أهم الدروس التي تعلمها أن الإبداع والابتكار وحدهما لا يشبعان من جوع ولا يمكنهما إسناد أي مصمم، لأن الجانب العملي والتجاري يلعب نفس الأهمية في أي مشروع. لهذا على المصمم أن يتعلم الجانبين ويتقنهما «على الأقل عليه أن يدرك أهمية تصميم أزياء تبيع لتُلبس في كل المناسبات، وإلا ما الفائدة منها؟».
ويضيف وكأنه يبرر أهمية البيع: «إن عروض الأزياء، والحملات الدعائية والمحلات وديكوراتها تحتاج إلى تمويل كبير».
تومي هيلفيغر : تعرضي للإفلاس وعمري 23 عامًا كان بمثابة شهادة ماجستير
إمبراطورية تأسست بـ150 دولارًا وتقدر الآن بأكثر من 6.7 مليار في السنة
تومي هيلفيغر : تعرضي للإفلاس وعمري 23 عامًا كان بمثابة شهادة ماجستير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة