* ينحو «في ظروف غامضة» للمثني صُبح، في اتجاه تقديم مدينة دمشق كما لو كانت جنيف. أمان ورخاء وجمال، أو كما تقول إحدى الممثلات في إحدى الحلقات الأخيرة «الناس مرحين ومبسوطين».
أكثر من ذلك، فإن هم الحرب المحيطة لا يخدش جدار معظم الشخصيات المتوفرة في هذا المسلسل، لأنها تعيش حالات حب وهيام وفيه ما يكفي ويزيد من الأمثلة. من الفتاة الرومانسية إلى الفتاة الهادفة، ومن تلك التي لا تدري أين ستقودها خطاها وهي تحلم بزيارة بيروت مع امرأة لا يبدو أنها تكن لها الخير.
هناك أيضًا علاقة صعبة المراس بين امرأة لها ماضٍ أواها إلى ملكيّته رجل أعمال قاسٍ تهابه. يكتشف أنها لم تقطع علاقتها بالآخرين هناك في منزله، فيهوي عليها بالضرب. لم أشاهد كفّا يصفع، بل شيء مثل محاولات الوصول إلى الخد والاكتفاء بالكتف.
علامتان بارزتان في هذا المسلسل على الرغم من ذلك: إخراج جيّد من المثنى صُبح يوازي إخراجه الجيد في «العرّاب» (لجانب مونتاج سينمائي التجربة) وجمال الممثلات المستعان بهن لتأدية أدوارهن: نادين تحسين بك، نسرين طافش، نجاح سكوفوني. وستجد هذا الجمال متوفرًا في معظم المسلسلات السورية الأخرى عبر ممثلات من وزن سلاف فواخرجي وسلافة معمار وهبة نور. في هذا النطاق، المسلسلات السورية تأتي أولاً هذا العام.
هذا المستوى العالي من الجمال ليس من دون مضمون. إلى الآن، أداء الممثلات السوريات في المسلسلات التي شاهدت (وهي كثيرة وكثير منها معروض على شاشات «mbc» ودبي وسواهما) مبهر في عفويته وسلاسته، تلقائي يصنع من حوار باهت أحيانا مناسبة للاحتفاء. يتجاوز ما تعرفه المسلسلات عمومًا من رغي وعك بالطريقة التي يتفوّهن بها بالكلمات وبمنهج عمل يمنحهن حضورًا يحتل الأهمية المطلقة.
فقط يا ليت يخلو «في ظروف غامضة» مما يشوب بعض حلقاته من أسلوب خطابي عندما يريد أن يؤكد لمشاهديه أن الأحوال عال العال.. «نحن بخير طمنونا عنكم».
بالنسبة لنسرين طافش، من باب التوثيق، لا أكثر، أنها في بطولة ثلاثة مسلسلات هذا العام هي «العراب» و«في ظروف غامضة» والمسلسل المصري الطموح «ألف ليلة وليلة».
* كنت أود أن أرى في «حواري بوخارست» المستوى ذاته من التمثيل، لكن هناك ذلك الميل إلى إبداء قوّة في الأداء في كل موقف وفي كل مشهد كما لو أن التمثيل هو نوع من القبض على الكلمات والمواقف بيد تعلمت رفع الأثقال. من المفيد هنا لكل من المخرجين والممثلين العودة إلى استكشاف إدارة الممثلين التي مارسها كل من صلاح أبو سيف ويوسف شاهين في كلاسيكياتهما. هذا ليس عيبًا. لكن ما نشاهده هو تكرار اللوازم ذاتها وانفعالات نفسها مما يصيب الممثل والمسلسل ومن بعدهما المشاهدين بآثار وخيمة في مسلسل كان انطلق كدراما اجتماعية عاطفية وفي مكان ما بين الحلقة الأولى والرابعة أخذ يفقد خيوطه لكثرتها.
هذا محتمل لأن ما هو واضح - عادة - لدى الكاتب لا يعني أنه يبقى واضحًا للمشاهد، خصوصًا أن كثرة المسلسلات الشبيهة تخلق حالة من الخلط.. ألم يكن هذا زوج المذيعة؟ لا.. هذا في مسلسل آخر، هذا كان الابن العاق في مسلسل ثالث والفتاة التي معه هي الطالبة في كلية الزراعة في مسلسل رابع.
* في إحدى حلقاتنا هنا، قدّمت مسلسلاً خليجيًا بعنوان «دبي لندن دبي» وأحداثه، كما يشي العنوان، تدور حول حكايات تقع في المدينتين. مجمل هذه الحكايات هي العلاقات القائمة بين الطلاب الذين يدرسون في مدينة المصارف ورجال الأعمال (مدينة الضباب سابقًا) وأسرهم في مدينة دبي.
بالمرور على مسلسلات خليجية أخرى، وجدت مسلسلاً شبيهًا من إنتاج كويتي عنوانه «ذاكرة من ورق» (على شاشة الراي) يدور أيضا حول مجموعة من الشباب الخليجي الذي يدرس في أوروبا من ناحية، والمشكلات العائلية بين أسرهم في الكويت من ناحية أخرى.
المسلسل من إخراج علي العلي، وفيه جهد جيّد مبذول لتقديم عمل ينتقل بالدراما الخليجية إلى مستوى محترف ومتقدّم. التمثيل هو مسألة نسبية. هناك من يجيده وهناك من يرتاح في أحضان الإرث التقليدي. لكني وجدت أن بعض هذا وذاك له علاقة أيضا بالحوار والموقف.
عندما تصرخ الأم الملتاعة من تصرّفات ابنها، لن تجد (ولن يجد الكاتب عادل الجابري) ما تتفوه به سوى العبارات المتوقعة. هذا الاضطرار لاستخدام تلك العبارات يمكن تجاوزه لو أن الكاتب، وهذه مسألة مشاعة بين الكثير من الكتّاب، فتح قوسين حول شخصياته المساندة ومنحها لحظات صمت قبل الانفجار العاطفي. فتح لها نافذة تخرج بها من الفعل ورد الفعل إلى بلورة شخصياتها على نحو أمتن.
* في هذا الإطار، ومهما كانت الرغبات المحقّة واضحة والجهد المبذول ناتج عن إيمان بأهمية العمل، تسقط الكثير من المسلسلات من حيث لم تقصد. فالمزيد من مشاهد الضرب أو المزيد من مشاهد البكاء أو المزيد من مشاهد الصراعات، يدوية أو لفظية، تصبح بدورها سببًا في نفور المشاهد أو، على الأقل، تبرّمه. ما يحتاجه المخرج في هذه الحالة هو نص يلزمه بالتنويع، أو إذا ما استطاع اكتشاف ذلك التكرار قبل التصوير، قدرة على الخروج منه في مشاهد قد تبدو غير منتمية للمشهد السابق أو ما يليه، لكن المشاهد سيعلم، إذا ما نجح المخرج في توظيفها، أنها فواصل مهمّة تحد من الشعور بأن كل شيء عليه أن يدور في كل الوقت وبكل الحدّة.