ملامح من تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي

مئوية ما يطلق عليها بـ«الإبادة» وعلاقتها بالأتراك

أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
TT

ملامح من تاريخ الأرمن في العالم الإسلامي

أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)
أطفال أرمن في أحد مخيمات اللاجئين عام 1915 (غيتي)

لقد عُنيت وأنا أسجل بعُجالة واختصار، مع شيء من العسر، بعرض تعريف هاد ربما يزيح بعض اللغط والكابوس، ويلطف ما يعتري النفوس، فقد ذهب أمس بما فيه وجاء يوم بما يقتضيه، ولقد حاولت منه جمع مضامين تاريخية غنية تنطلق بمعطيات علاقة الأرمن بالعالم الإسلامي بعيدة عن بلاء التكرار والنمطية، قريبة ما أمكن من التشويق بقدر ما يسمح فيه المجال، وقديمًا قالت العرب «المكان من المكين».
في نهاية سبتمبر (أيلول) 331 قبل الميلاد قضى الإسكندر المقدوني على الإمبراطورية الأخمينية الفارسية بعد إلحاقه الهزيمة بجيش داريوس (داريوش أو دارا) الثالث وضمه أراضيها إلى إمبراطوريته الممتدة من بلاد الإغريق إلى شبه القارة الهندية، وما بينهما، وبالتالي غدت أرمينيا جزءًا منها.
وعمومًا، تأخذ الأمصار أسماءها من تسميات شعوبها أو سكانها، في حالات أخرى تسميات حكامها ملوكًا كانوا أم زعماء، وثمة أسماء ترتبط بمواقع ومعالم جغرافية. وتبعًا لذلك يذكر المؤرخ الأرمني القديم موسى الخوريني أن تسمية أرمينيا جاء نسبة إلى الملك أرمو، وترجع إلى نهاية الإمبراطورية الآشورية، كما أنه يصرّ ومواطنه المؤرخ توما الأردزوني، وغيرهما من مؤرخي الأرمن القدماء، بأن الشعب الأرمني يتحدّر من نسل النبي نوح، ويعزون ذلك إلى قرب ديارهم أرمينيا من جبل آرارات الذي استقرّ عليه فلك نوح - أو سفينة نوح - بعد الطوفان الكبير، كما تذكر الديانات السماوية التوحيدية، ونحن هنا نعرض روايةً من وجهة نظر المؤرخين الأرمن ولا نجزم - طبعًا - بصحتها.
أما عن اتصال الأرمن بالعرب، فإنه بدأ منذ بداية الفتوحات الإسلامية وسقوط الإمبراطورية الساسانية الفارسية عام 642م. ونتج عنه احتكاكات بين الأرمن الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية عبر المُبشّر (المُنصّر) غريغوري (جرجورة) نحو عام 303م، وكثيرًا ما تدخّلت الكنيسة عبر رئيسها بتهدئة الاحتكاك والصراع بين أمراء الأرمن والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 702م. وهو ما أدى إلى استقرار الأمور وازدهار العلاقات، لا سيما، بعد العهود المواثيق التي وقعت بين الخليفة الأموي وملك الأرمن آشوت.
وما أن أخذت الإمبراطورية البيزنطية تبذل محاولات لكي يتبع الأرمن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية حتى ابتدأ السلاجقة التحرّش عام 1020م، ومن ثم انتهى الأمر باحتلال جزء كبير من بلاد بيزنطة، وفي ما بعد أدى إلى اتحاد الأرمن مع الكُرد ليتولى زعامتهم لاحقًا من أطلق عليه مسمى «شاه الأرمن»، وهو كردي من أبناء عمومة صلاح الدين الأيوبي، وذلك حتى الاحتلال المغولي عام 1240م، وحينذاك هاجر من أرمينيا أعداد كبيرة إلى أوروبا (بولندا وبلاد البلقان) وبقية أراضي بيزنطة.
تخبرنا الوثائق التاريخية بوجود أدلة يُستشفّ منها من الإقليم الذي تقع فيه أرمينيا كانت تسكنه أقوام لا تنتمي إلى العنصر الآري قبل الميلاد بألف وخمسمائة سنة من العنصر الذي يُطلَق عليه في علم الأعراق الحديث اسم «آرمينويد»، ويعتبر الحثيون هم من يمثّل هذا العنصر. وأما سكان تلك البقعة فيطلقون على أنفسهم اسم «كالديني» نسبة إلى ربّ كانوا يعبدونه. ولكن نحو 700 قبل الميلاد غزت أقوام هندو أوروبية (آرية) مرتفعات أرمينيا وفرضت على السكان الأصليين لغتها. وعند بروز الميديين والفرس امتزجوا بهم ليصبحوا ما بات يعرف بالأرمن لاحقًا. إن سكان سلسلة جبال طوروس (في جنوب هضبة الأناضول) ومعظمهم من الفلاحين، وفق علماء الأعراق، كانوا من أصحاب البُنيات القوية الطويلة القامة والأشكال الوسيمة الجميلة، وكانوا يتميزون بالشجاعة أيضًا. أما سكان الوديان فكانوا من أصحاب البنيات المليئة (جسيمون) النشطة والشعر الأسود السابل والأنوف المعقوفة وكانوا زرّاعًا مهرة ورعاة ماشية، وأما أهل المدن منهم فكانوا حرفيين بارعين وتجار ناجحين وذوي ذكاء حاد، مما جعلهم يتعاملون مع أصقاع بعيدة مثل الهند والصين، كما كانت أفراد الطبقة الراقية منهم متعلمين متفوقين.

الأرمن وتركيا

كان همّ السلطان العثماني محمد الثاني «الفاتح» أن يجعل من مدينة بيزنطة أو القسطنطينية - كما عُرفت لاحقًا تكريمًا للإمبراطور قسطنطين - التي غدت إسطنبول (أو إسلامبول أو الآستانة) بعدما فتحها، عاصمة الدولة العثمانية. ويجعل منها بوابة لتفاعل الإسلام والمسيحية. كذلك كان محمد الثاني، وفق المصادر التاريخية، معجبًا بالثقافة الإغريقية، وبالذات، بشخصية الإسكندر المقدوني الذي كان كُتّاب يونانيون يقرأون له سيرته في مجالسه الخاصة، وكان يفكّر كثيرًا بما يمكن أن يجلبه اليونانيون من غنى ورخاء لعاصمته إسطنبول.
وبالفعل، قرّر مع مشاوريه عام 1455م - بعد سنتين من فتحه عاصمة المسيحية الشرقية سابقًا عام 1453م وجعلها عاصمة الخلافة - زيارة مقر رئيس البطارقة جيناديوس، ولقد طلب منه أن يكتب له شرحًا عن المسيحية تُرجِم من اليونانية إلى التركية لكي يطلع عليه السلطان، وأطلق على الشرح اسم «التفسير القصير لدين المسيح». والحقيقة، إن ذلك العمل لم يكن قصيرًا أو بسيطًا بل إن فحواه كانت صعبة حتى على من اعتنق المسيحية بعدما آمن بها. غير أن هذه الصعوبة لم تضعف عزيمة السلطان العثماني على الاهتمام بالتعاليم المسيحية ومبادئها. وكان من مُجمل مقتنياته «مهد المسيح» الذي قال عنه إنه لن يتخلّى عنه ولن يبيعه بأغلى الأثمان، كذلك احتفظ بجمجمة وعظام يوحنا المعمدان. ومع أن ليس كل مستشاري محمد الثاني كانوا يشاركونه عقليّته المنفتحة، فإنهم لم يستطيعوا تغيير تفكيره واهتمامه باحتواء المسيحيين وحمايتهم حتى وإن حدثت أعمال من شأنها إثارة الفتنة من جانب بعض المسلمين.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن السلطان محمد الثاني «الفاتح» كان أول من شجّع الأرمن المسيحيين على التوطّن في عاصمته إسطنبول، بعدما كانوا جماعات معزولة تسكن منذ القرن السادس قبل الميلاد بين شرق الأناضول وجبال القوقاز، ولقد انقرضت آخر مملكة لها خلال القرن الرابع عشر وكانت لها لغتها وحروفها، وكانت من الناحية الدينية تؤمن بأن المسيح ذو طبيعة واحدة (مونوفيسية) إنسانية مقدسة، بينما كانت الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية تؤمنان بأن له طبيعتين (دووفيسية) واحدة إنسانية والثانية قدسية.
أما من الناحية الاجتماعية، ومع أن الأرمن من أبناء بيئة جبلية فإنهم أجادوا المهن والحِرَف التي تحتاج إلى دقة ومهارة كالصياغة والنسج والبناء والنشاط التجاري عمومًا. وبناء عليه، من يتمتع بمهارات كهذه يكون هدفًا مطلوبًا لبناء الإمبراطوريات. وحقًا كتب المؤلف مايكل كرتوفوليوس أن السلطان محمد الثاني اهتم بجلب الأرمن ووضعهم تحت رعايته «لحيازتهم على كفاءات ومهارات استثنائية في شؤون المال والصناعة والمعرفة والبناء والقدرة على التعامل في الأسواق». وقد تكون هذه العبارة هي الصفة الناعمة لما فعله السلطان العثماني، بيد أن ما كتبه التاجر الأرمني نرسيس عام 1480م ليس بالقدر نفسه من الإيجابية؛ إذ كتب لائمًا السلطان «على إثارته زوبعة بين قومه والمسيحيين عندما نقلهم من مكان إلى آخر، وإني أخلط بين الوقت والمرارة حينما تحوّلنا من أماسيا إلى القسطنطينية (أي إسطنبول) بالقوة وليس برضانا، وإني لأخطّ ذلك بدموع وعويل».
بدأ صعود نجم الأرمن في الدولة العثمانية منذ عام 1700 مقابل انخفاض مكانة اليهود، حتى إن بعض كنس اليهود وأماكن عبادتهم في إسطنبول مهددة بالإقفال لتعثّر الحالة المادية للجالية وتعذر صيانتها، في حين ارتفعت أعداد القادمين الأرمن إليها بنتيجة تردي الأوضاع السياسية في أرمينيا وغرب الأناضول بفعل الثورات والحروب. ولقد أمتهن في مطلع عهد استقرارهم في العاصمة العثمانية مهنًا بسيطة مثل بيع الخبز وأواني الفخّار واللحم المجفّف المقدّد (البسطرمة) في شوارع المدينة. ثم انتقلوا إلى أعمال أرفع بفضل مساعدة القصر السلطاني خلال حكمي السلطانين مراد الثاني وإبراهيم نتيجة بروز اسم المعماري الأرمني سركيس باليان الذي أصبح معماري القصر، كما عيّن الأرمني دوزيان مدير دار المسكوكات النقدية عام 1727 بدلاً من مديرها السابق اليهودي ياقو بونفيل. ومن ثم، أصبح جميع العاملين فيها من الأرمن بفضل استمرار تولي مدراء من أسرة دوزيان حتى 1890 لأن سجلات العمل كانت تكتب باللغة والأحرف الأرمنية التي يجهلها الجميع باستثناء الأرمن.
أيضًا غدا أبناء أسرة دوزيان مسؤولين عن جواهر السلاطين الذين كانوا يعتبرونهم أكثر أمانة وصدقًا من موظفيهم من اليهود واليونانيين. ومن ثم صار ممصلافي القصر من الأرمن بين عامي 1770 و1840، وهكذا صار الأرمن العنصر الرئيسي في تمويل الولايات وجباية الضرائب وسن تشريعاتها، فبلغوا من رفعة الشأن والشهرة حد إطلاق عليهم ألقاب كـ«قادة الأمة» و«الأمراء اللامعين» أو «أمراء الشرف الرفيع». وكان قصر أرتين دوزيان، مدير دار المسكوكات من أفخم قصور المدينة المطلة على مضيق البوسفور، وفي هذا دليل على الجاه والسطوة. كذلك كان السلطان محمود الثاني صديقًا حميميًا لمستشاره الأرمني بازديجان هوريتليان وكان يزوره في بيته، وعند وفاته أمر السلطان بنقل جثمانه إلى القصر ليودعه قبل دفنه. وكان مدينًا له بإنقاذه إسطنبول من المجاعة عام 1829.
وبالنسبة لأمور الصناعة العسكرية، لعب الأرمن دورًا لا يستهان به، وبرز في مجال صناعة البارود والمتفجرات أفراد من أسرة داديان الشهيرة التي حصلت على صيت كبير امتد نحو قرن من الزمن منذ عام 1795 بدءًا من عميدها أراكيل الذي كسب لقب «بارود باشي»، ولقبه السلطان محمود الثاني «أسطى أراكيل أمين وعامل مجد دام حفظ الله». وجاء من بعد ابنه أوهانس الذي تولى أعمال أبيه وأضاف إليها مصنعًا للورق وآخر للنسيج وثالثًا للبنادق. وكان أوهانس داديان يجيد عدة لغات أوروبية، وزار فرنسا وبريطانيا مرتين أقام خلالهما لمدة سنتين لدراسة تطور صناعة الأسلحة ومستلزماتها حتى ما عادت الدولة العثمانية بحاجة إلى استيرادها.
من ناحية ثانية، وكدليل على تطوّر مكانة الأرمن، أخذت الكنيسة الكاثوليكية تنشط لاختراق الأرمن. وحقًا بدأت اجتذاب بعضهم للالتحاق بالكنائس الغربية (الكاثوليكية) والاعتراف بسلطة البابا مع إبقاء معتقداتهم القديمة وتخفيف بعضها، مثل خفض مدة صيامهم من 240 يومًا إلى 40 يومًا فقط، وخفض ما كانوا يدفعونه للكنيسة ورجالها الإكليروس: وبالنتيجة نشأت كنيسة أرمنية كاثوليكية وبات الأرمن الكاثوليك يتوقون للانضواء تحت حماية فرنسا. غير أن غالبية الأرمن ظلوا أرثوذكس لم يقبلوا بالتغريب الكاثوليكي، ورفع بطريركهم شكوى إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء العثماني) عام 1707 ضد بعض القساوسة الأرمن الذين اعتنقوا الكثلكة، مطالبًا بمعاقبتهم بحجة أنهم يشقّون وحدة الطائفة وينقلون ولاءهم من «الدولة العلية» (أي الدولة العثمانية) إلى الإفرنج ليصبحوا عُملاء لهم، تلبية لطلب البطريرك أعدم عدد منهم.
لقد دفعت تحوّلات جيو سياسية، صاحبتها ضغوط اجتماعية واقتصادية كبيرة بعض المجتمعات لأن تستسلم لمعطيات وطنية وقومية، منها الدولة العثمانية وعاصمتها الكوزموبوليتانية إسطنبول. فعوامل كالأعراق والاقتصاد والثقافة وإن كان يمسكها رباط المعيشة بحدوده الحضارية المتوافرة، فإن الانصهار الكامل لا يتحقق بالضرورة. فـ«المدينة» عند البعض غير كافية بل يطمح إلى ما هو أكبر مثل «دولة» خاصة بهم. وبما يخص الأرمن، هذا ما عبر عنه نفر من مثقفيهم مثل كريكور أدويان، الذي درس في العاصمة الفرنسية باريس ولقد كتب بعد رجوعه إلى إسطنبول في كبريات صحفها «إن حب الأمة يبعث أقوى شعور هو في طبيعته كحب الإنسان لوالديه والبر والعاطفة لإخوته بالدم والحب والدفء اللامنتهي إلى أبنائه. كل ذلك بمجموعه لا يعادل حب الإنسان لأمته».
الأمة - أو الملّة - التي قصدها أوديان ما كانت الدولة العثمانية بل «الأمة الأرمنية». فهناك فارق حاسم بين النصين اللغويين الأرمني والعثماني تمثله نصوص دستور عام 1863، التي تقول إن «الأرمن طائفة (ملّت – أي ملّة) مثل اليهود واليونانيين»، ولقد هيئ لهم مجلسان أحدهما للشؤون الدينية والثاني للزمنية. وهذان المجلسان انتخبا بموافقة عامة وحقّقت النقابات والمثقفون في المدينة النصر على الكنيسة والطبقة المتنفذة، ومن ثم رأى الأرمن في ما تحقق «القانون الوطني للأرمن»، أما بالنسبة للعثمانيين الترك فرأوه مجرد تنظيمات للكنيسة الأرمنية.
ولقد كان أمل السلطان عبد الحميد الثاني أن يتخلى رعايا الدولة العثمانية عن هويّاتهم القومية لهويتهم إمبراطوريتهم على غرار مهاجري الولايات المتحدة غير أن ذلك لم يتحقق بين مصالح شللية العوائل والشعور القومي. فأسرة باليان كانت تبني قصور السلطان وأسرة داديان تصنع لجيشه البارود. وكان الأرمن موظفي المحاسبة والأطباء والطبّاعين والمصوّرين وخياطي القصور السلطانية. وباختصار، لم تتمتع أقلية بثقة السلاطين ومنافعهم مثل الأرمن.
السلطان عبد الحميد منح الأرمن المقربين منه شرف وضع الختم الذهبي على طرابيشهم، ومثل أبيه كان يزور بيوتهم عام 1832، وأقام في قصر داديان بين يومين وثمانية أيام في أعوام 1842 و1843 و1845 و1846؛ فأن يبيت السلطان في بيت مواطن يعد شرفًا لا يدانيه شرف، ولا سيما إذا كان هذا المواطن غير مسلم. ومن جهة ثانية، احتفظت كنيسة سان ستيفان الأرمنية بالإبريق والطشت اللذين استخدمهما السلطان لغسل يديه. وصرّح أحد أبناء أسرة داديان بفخر عام 1867 بـ«أن السلاطين يمحضون الأرمن ثقتهم الكاملة»؛ مما أثار سخط كثرة من المسلمين وحسدهم.
ومن ثم أخذت بوادر النزعات القومية تطل برؤوسها وتظهر على السطح بشكل احتجاجات على سوء إدارة ولاة المناطق وفسادهم في استغلال مواطنيها.
وهكذا، ظهر شعور اليونانيين بالتفوق التاريخي في كل المناسبات باعتبارهم أنفسهم «العنصر المنتصر» وأنهم في «أرض الآباء»، حسب تعبيرهم. وبلغت قمة العداء عند البلغار الذين حاولوا غير مرة إحراق العاصمة وظهر هذا العداء بوضوح على لسان أحد قادتهم الثوريين ليوبين كارافيلوف الذي كتب عام 1869 «التركي يبقى تركيًا، ولن تستطيع الآلهة أو الشياطين أن تجعل منه آدميًا».
واستمر كريكور أوديان بمقالاته مخاطبًا البطريرك: «لا تحبط نفسك بالآمال المزيفة يا ابن أرض الآباء الحبيب. إن طائر الفينيق لن ينهض من الرماد. هنا نرى القصور التي شيّدتها أيادي الأساتذة، دع عنك ذلك الرماد وارجع. تعال إلى هنا لكي تنام عيناك على رداء الكهنوت الذهبي». وفي المقابل، رد بعض المسلمين وتعالت أصواتهم مشبعة بنزعة وطنية قومية تركية، منهم الضابط الشاب سليمان باشا، آمر المدرسة العسكرية ومؤلف كتاب «قواعد اللغة التركية» الذي كتب عام 1876: «إن عبارة عثماني هي مجرد اسم لدولتنا فقط، بينما اسم أمتنا هو الترك، ومن المحتم أن لغتنا هي التركية وأدبنا هو الأدب التركي». وبالفعل، انتشرت النزعة القومية التركية أو «الطورانية»، وطالب المنادون بها «بالعودة إلى الجذور» آخذين المبادئ من جنكيز خان لا من الإسكندر وقيصر، كما راجت الأشعار في تمجيد «طوران» بلاد الترك الأسطورية في الشرق.
والتحق بالركب الأكراد، فأصدر السيد عبد القادر جريدة «كردستان» التي ظهرت باللغتين الكردية والتركية، وأسست «جمعية التقدم والتطوّع» المتبادل التي نادت بإنشاء المدارس الكردية، وبرز منهم لطفي فكري المبعوث (النائب) الكردي الذي كان يطالب بالحكم المدني لا الديني للدولة والكتابة بالأحرف اللاتينية.
وبحلول 1908 انضم العرب إلى مسيرة نهوض الشعور القومي، وصارت إسطنبول مركزًا لحركتهم وليست القاهرة أو بيروت. وازدادت الأمور تعقيدًا حين ظهر أن السلطان عبد الحميد أخذ يشجع جواسيس ومرافقين من العرب. ولما هاجمت جريدة «إقدام» التركية، العرب، تعرضت لرد عنيف من العرب المقيمين في إسطنبول أدى إلى تخريب مطابعها. كذلك أسّست في المدينة جمعيتان سرّيتان هما «القحطانية» و«العهد» بين عامي 1909 و1914 التحق بهما معظم الضباط العرب في الجيش العثماني.

«المسألة الأرمنية»

في ثمانينات القرن التاسع عشر، كما توقّع البطريرك كرمنيان، اختار الأرمن طريق الثورة والعنف؛ إذ أسّس نفر منهم بينهم أرمني روسي اسمه آفاديس نازاربكيان عام 1886 في مدينة جنيف بسويسرا حزب «الهنشاق» (أي: الناقوس) فكان أول منظمة ماركسية ثورية في المنطقة متأثرة بالمبادئ الشعبية والثورات العامية أو «العاميّات».
واستطاع «الهنشاق» ضم 700 عضو في إسطنبول معظمهم من الأرمن العاملين في مصالح وشركات أجنبية. وبعد ثلاث سنوات أسست منظمة ثورية أرمنية قومية حملت اسم «تروشاق» (أي: العلم) في مدينة تفليس (تبيليسي) - عاصمة جورجيا الحالية - ثم غير اسمها إلى «طاشناق» (أي: الاتحاد) عندما فقد الأرمن التأييد القيصري الحكومي الروسي، لكنه وفق بالحصول على التأييد الثوري المنظم. ومن ثم شن الحزبان الأرمنيان «الهنشاق» و«الطاشناق» حملة اغتيالات استهدفت الشخصيات الأرمنية العاملة في خدمة السلطان العثماني.
وعلى الأثر، أخذت شكوك الحكومة تحوم حول سلوك الأرمن. وعام 1889 أجريت مقابلة في قصر يلدز بين السلطان عبد الحميد والمؤرخ المجري فامبري المتخصّص بالشأن التركي الذي كان يقوم بعمليات تجسس لصالح بريطانيا، أبدى السلطان غضبه لدرجة أنه رفع غطاء رأسه عدّة مرات، وقال له: «أبلغ أصدقاءك الإنجليز، خصوصًا اللورد سولزبري، الذي أكن له الاعتبار والتقدير، بأنني أستطيع معالجة مصدر الشر في أرمينيا، لكنني (قالها بغضب بالغ) لاحقًا سأفضل أن أترك له أن يقطع هذا الرأس عن جسدي من أن أترك من يريد فصل أرمينيا».
واستمرت محاولات «الهنشاق»، ومعظمهم من أرمن القوقاز، إثارة المشكلات بين الأرمن في إسطنبول ووصلت إلى حد احتلال الكاتدرائية الأرمنية واحتجاز البطريرك وقراءة بيانات تهاجم السلطان، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات أسفرت عن سقوط 20 أرمنيًا من المتظاهرين ورجلي شرطة. وكانت تلك أول مواجهات دامية تشهدها المدينة منذ فتحها محمد الثاني عام 1453م وأول مرة يجرؤ فيها مسيحيون على مهاجمة رموز سلطة آل عثمان.
وبعدها تردّت الأوضاع، فاستقال البطريرك وارتفعت الشعارات والهتافات المنادية بحياة الأرمن وأرمينيا علنًا، وهكذا سقطت الحجب وظهر التحدّي بكل أبعاده. وفي العام التالي، عام 1894 جمّد «القانون الوطني للأرمن» وأصيب البطريرك بجروح خلال محاولة اغتياله على يد شاب أرمني متحمس. وفي سبتمبر 1895 سارت تظاهرة ضمت ألفين من الأرمن المسلحين بالمسدّسات والسكاكين أمام «الباب العالي» (مقر رئاسة الوزراء) وهتفت «الحرية أو الموت!» وأنشدت أناشيد قومية أرمنية. وجاء الردّ شديدًا وتحوّل المشهد إلى «حرب شوارع» بين المسلمين والأرمن، واستمر الوضع على هذا المستوى من التوتر حتى أغسطس (آب) من العام التالي حين أقدم أفراد من «الطاشناق» بتفجير قنابل في أنحاء متعددة من إسطنبول، كما هوجم المقر الرئيسي للبنك العثماني في حي غلاطة التجاري بالمدينة.
واستمرت الاعتداءات على الأرمن وبيوتهم ومحلاتهم التجارية وأدت تلك الحوادث سقوط نحو ستة آلاف قتيل، وشنت الصحف الأوروبية حملة عنيفة على العثمانيين ووجهت احتجاجات حكومية عنيفة طاولت أعلى المراتب بل أطلق الزعيم الفرنسي جورج كليمنصو على السلطان عبد الحميد بعد تلك الأحداث لقب «غول يلدز» (في إشارة إلى قصر السلطان) و«السلطان الأحمر» وينسب هذا اللقب الأخير إلى الصحافي بيار كيار. وفي المقابل، من جملة ما قاله السلطان عبد الحميد في مذكراته عن الأرمن «لقد عاملت الأرمن معاملة رحيمة لكنني منعت تجمعهم على فكر واحد».
غير أن الأمور وصلت إلى منتهاها حين وقعت محاولة اغتيال فاشلة استهدفت السلطان عبد الحميد في باحة جامع يلدز بعد صلاة الجمعة يوم 21 يوليو (تموز) 1905 حين انفجرت عربة ملغمة بقنابل موقوتة أعدها بلجيكي اسمه شارل إدوار جوريس، كان من مناصري «الطاشناق» في باريس، ومع أن السلطان لم يصب بأذى راح ضحية المحاولة نحو 80 بين قتيل وجريح.
بعد هذه المحاولة بأربع سنوات عُزل السلطان عبد الحميد الثاني يوم الثلاثاء 27 أبريل (نيسان) 1909 ومن ثم نُفي إلى مدينة سالونيك (في شمال شرقي اليونان اليوم) وعاش فيها ثلاث سنوات حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 1912. ثم نقل إلى بيلرباي المطل على البوسفور في إسطنبول حتى وفاته عام 1918.
بين 1909 و1914 تحسنت الأوضاع بين حكومة جمعية «الاتحاد والترقي» – التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد – وبين الأرمن، وساد جو من الهدوء على الساحة السياسية. وعقدت اجتماعات بين مجلس المبعوثان (البرلمان) وأعضاء من حزب «الهنشاق» في إسطنبول. وعلى أثر هذا التحسن في العلاقة عيّن الأرمني جبرائيل نردونجيان وزيرًا للخارجية، ولاحقًا عرضت خطط للتحديث والتطوير في شرق الأناضول.
ولكن، ما أن حلّ عام 1914 ودخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا، في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، حتى بدأت الأجواء تكفهر. ومن ثم بادرت جهات أرمنية إلى التعاون مع الروس ضد القوات العثمانية في الأناضول، أعقبتها أعمال عنف في مدينة فان (وان) بشرق الأناضول، كما بدا واضحًا تأييد الأرمن في إسطنبول لروسيا وسرورهم بنجاحات الروس العسكرية على الجبهة الشرقية في أوروبا.
عندها قررت «الاتحاد والترقي» الحاكمة اتخاذ سياسات حازمة والقضاء على تدخلات الأرمن، ووصلت الأمور في النهاية إلى إقصائهم وطردهم نهائيًا من الأناضول، وهنا اندلعت المجازر التي بلغ عدد ضحاياها من الأرمن مئات الألوف. وفي سياق الحملة، صدرت أوامر عليا بنفي وعزل ألفين من الشخصيات الأرمنية البارزة من النواب والساسة وكبار الموظفين والكتّاب، تلتها عمليات تهجير جماعية للأرمن نحو بلاد الرافدين (العراق) باتجاه الموصل ودير الزور في ظروف سيئة للغاية، وهام المهجّرون الأرمن على وجوههم في الجبال والصحارى حفاة عراة، شيوخًا ونساء وأطفالاً، وتوفي الألوف ضحايا الجوع والعطش والمرض.



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».