يستضيف بارك غاليري بلندن معرضا للفنان السعودي عبد العزيز عاشور يضم مجموعة كبيرة من أعماله الأخيرة ويسلط الضوء على أحد أهم الأسماء الفنية في الفن السعودي المعاصر. الفنان الذي يعد هذا المعرض رقم واحد في معارضه المنفردة بلندن تحدث لـ«الشرق الأوسط» حول نقطة التحول التي حملته من عالم الفن التشكيلي لرحاب الرواية ثم أعادته إلى عالم الفن مرة أخرى حاملا معه أهم عنصر في عالم الكتابة: الورق. تلك الرحلة التي غاص فيها عاشور في عالم من نسج روائيين عالميين وعرب أمثال ميلان كوندير وباولو كويللو وإيزابيل ألليندي وغابرييل ماركيز، حملته بمضامين وأحاسيس استثمرها فنيا ليخرج منها مجموعة من اللوحات التي تخاطب وجدان وأحاسيس المتلقي بقدر ما تحرك عقله.
المعرض الذي سماه عاشور «أكثر من ورق» يستكمل تجربة لمعرض سابق أقامه في الرياض حمل العنوان ذاته، كما سيعرض عددا من تلك الأعمال في معرض «آرت 15» الذي تستضيفه لندن حاليا.
لماذا الورق؟ يقول عاشور إن فكرة استخدام الورق ارتبطت بتلك الرحلة التي فارق فيها الفن في بداية التسعينات وقيام حرب الخليج، يقول: «استوقفني طويلا سؤال جدوى الفن وما إذا كان (الفن) يستطيع تحمل مسؤولياته في ظل هذه الأزمة التي حلت بإنسان المنطقة برمتها. حينها وعلى مضض اتخذت قرارا بعدم الوثوق بالسياسة مطلقا. قررت العزلة على ممارسة الفن وعوضا عن ذلك اخترت أن أكون مع الرواية». عالم الرواية أغرى عاشور بمحاولة الكتابة ولكن الورق سرعان ما شده مرة أخرى لعالمه الأول: «اكتشفت حساسية الورق، قيمته وملمسه.. رائحة الورقة وبلاغتها.. في ذلك الحين جال في ذهني خاطر أن الورق كائن حي يمكن أن يعيد ترتيب النفس داخليا».
أتتبع كلمات عاشور وأتساءل: هل تقصد الورق بما يحتويه أم فقط الورق كمادة خام؟ يقول: «نعم أقصد الورق عندما يكتب عليه وحتى عندما لا يكتب عليه، ففي لوحاتي المعروضة هنا استخدمت الورق الذي يستخدم في صنع الجرائد، أحضرته خاما.. هو جميل جدا، أعطاني قدرة وحساسية لفهم الورق.. فهناك نوع من الورق عندما نراه نجده فقيرا في القيمة ولكن به حساسية عالية؛ لأنه أقرب للطبيعة. وهذا أعطاني دافعا لأعيد ترتيب لوحاتي. في الاستوديو عملت مع الورق وأعددت أعمالا وحتى كنت أغير في شكله وتكوينه وأعجنه وأكحته مثل النحت وأرجع أرتبه مرة أخرى.. فمن الأمور الموحية في التعامل مع الورق هو أنك يمكن أن تغير شكله بقطرة ماء حتى يمكن تشكيله مرة أخرى، ببساطة يحمل حياة كاملة».
يشير إلى أن عمليات البحث والتحقق من تقنيات فن الورق والورق المعجن والورق المقهر عبر الحضارات وفن الكولاج في عصر النهضة كانت محل اهتمامه منذ عام 2004. يقول: «في تجربتي الماثلة في المعرض هناك عمليات متعددة تبدأ من اختيار نوعية الأوراق وجودة الألوان وتنوع درجاتها التي تقع على جسدها ومن ثم هناك ممارسات تقنية وعمليات متواصلة من الكحت والحت تجري على سطوح من طبقات لا حصر لها من الورق التي تتشيأ فيما بعد بحضور درجات مختلفة من الصور والألوان التي تثير الدهشة بفعل متخيلات كما في مروج يتصل بعضها بالطبيعة وآخر بمتخيلات يتدخل فيها الفنان كما في تنظيم قطعة موسيقية يتحقق فيها نوع ما من الجمال البصري».
استخدام الورق مادة للتعبير ظهر في أكثر معرض للفنان، منها المعرض الذي أقامه في الرياض ومعرض سابق أقامه في دبي بعنوان «محظور» وفيه يقدم نظرة مبدعة للخامة الأثيرة لديه. يشرح فكرة المعرض بقوله: «كل دولة في العالم لديها محظورات، وفي العالم العربي نجد أن بعض الصور التي قد لا تناسب الثقافة المحلية أو القوانين تحجب سواء عبر تلوينها باللون الأسود وهو ما كان يحدث قديما، أو عبر تغطيتها بالورق اللاصق. في الأعمال التي أعددتها لمعرض (محظور) أخذت مجموعة من تلك الصفحات التي تحمل الورق اللاصق وأعدت ترتيبها كعمل فني وبهذا تحولت إلى لوحة فنية وصار مشروع الورق متعلقا في داخلي».
الأوراق التي استخدمها عاشور في لوحاته تأتي من مصادر مختلفة، فبعضها من جرائد عربية وأجنبية أو من أوراق ملصقات دعاية أو من كتب. يشير إلى تفضيله لنوع معين من الأوراق وهو ورق الروايات: «ذهبت للحراج في جدة حيث تباع الكتب القديمة ووجدت كتبا وروايات أجنبية، ورقها يحمل اللون الأصفر وهو من النوع الفاخر. وجدت أن أعلى مستوى في الورق كان يستخدم للروايات؛ فهي من أفضل الكتب التي نرى فيها نوعية الورق، ولهذا استخدمتها في أعمالي».
أتساءل إن كانت للأوراق المختارة أي دلالات بالنسبة له وهل يختار الورق كمادة خام حسب نوعيته وجودته أم حسب المضمون الموجود فيه؟ يقول: «اخترتها لنوعية الورق الذي يمكن أن يحقق لي المعادلة الجمالية التي أنشدها، لأن الورق مثل المادة الفنية كاللون الذي نستخدمه، فالورق أصبح بالنسبة لي مادة عضوية لتشكيل العمل ولكن مع ذلك لا أنسى أعمال باولو كويلو وميلان كونديرا أو دان براون، فرواياتهم أثارت في ذلك التعلق بالورق أيضا، فأحيانا كانت الصفحة تحمل عبارات جميلة تسمو بالروح، لذلك كانت هذه المكتسبات معي وأنا أعمل». ويستطرد: «الفن يتطلب بعض المعادلات الجمالية فمثلا أحضرت مجموعة من الجرائد من الحي الصيني بلندن، تتميز بشكل خاص، ألوانها مميزة، من الممكن أن نجد جريدة يابانية تحمل لونا أحمر يختلف عن اللون المستخدم في جريدة إنجليزية مثلا. كلما سافرت ورأيت اختلاف ألوان الورق اكتشفت أن الورق يحمل الخصائص نفسها، فكان أساتذتنا يقولون لنا إن الألوان تختلف من بلد لآخر ويمكن أن تعرف بلد اللوحة من نوعية الألوان».
بعض الأوراق تحمل أسماء وصورا وأحداثا، فهل يمثل ذلك أهمية في العمل الفني؟ يقول: «هناك الكثير ويعتمد المعرض على عدد من الأوراق التي تضم صورا، ويجب أن أذكر هنا أن تلك الصور موضوعة لتحقق شكلا جماليا مجردا وليست كمعنى، بعض الأعمال أحس أنها مثل السجادة الإيرانية، مرتبة بشكل عفوي لا عقلاني. أردت أن أحقق دلالات، بعض الأعمال تضم 20 طبقة من الأوراق، أكحتها وأهذبها لتصبح وحدة واحدة. أنا لم أكن مهتما بالشكل والمعنى، بل كنت أبحث عن مضمون جمالي خالص».
هل يصرف ذلك المتلقي عن تقدير الجانب الجمالي؟ يجيب: «طبعا، فهناك من المتلقين من يبحث عن هذا الجانب، وهذا المتلقي أيضا يعنيني. صحيح أنا أكرس الرؤية لدي ولكن ذلك لا يحجب عن الآخرين ماذا يريدون أن يروا، وإذا توصلوا لحب العمل عبر طريقتهم فذلك أمر جيد، فعلى الأقل أكون وصلت إلى منطقة يحبونها. العمل الفني قادر على فتح مناطق قد لا يكون الفنان لم يكرس لها. أنا مؤمن في أعمالي بالنص المفتوح سواء كان مقروءا أو مرئيا، فهو قادر على تفجير الجدل، أما النص المقفول فأحيانا لا يمنح، الفن يجب أن يكون مفتوحا لأن ذلك يزيد من ثرائه.
حين يتغنى الفن بالورق وملمسه ورائحته
«أكثر من ورق» أول معرض للفنان السعودي عبد العزيز عاشور في لندن
حين يتغنى الفن بالورق وملمسه ورائحته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة