ما زال إدوارد سنودن، المتعاقد الأميركي السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية واللاجئ حاليا في روسيا يثير الاهتمام في بلده الأصلي. وكان مايو (أيار) الحالي شهرا آخر من شهور التنقل «الافتراضي» الدولي لسنودن، مع عرض أشرطة فيديو تتطرق إلى قصته في جامعة برينستون الأميركية، وسلسلة من كبار الشخصيات الذين تناولوا قصته في جامعة ستانفورد الأميركية أيضا، وفي مؤتمر عقد حول قضيته في النرويج ثم أستراليا.
وقبل انقضاء الشهر، كان عليه الحديث مجددا أمام الكاميرا إلى الجمهور المتابع لقضيته في إيطاليا، وكذلك في الإكوادور التي تشهد عرضا لفيلم «المواطن أربعة»، وهو الفيلم الوثائقي الحائز على جائزة الأوسكار حول قصته.
ولكن كانت هناك انتصارات متراتبة وكثيرة لقضية سنودن بعد عامين من طيرانه إلى هاواي ثم إلى هونغ كونغ حاملا جهاز كومبيوتر مفعما بأسرار الأمن القومي الأميركي.
قبل أسبوعين، قضت محكمة الاستئناف الفيدرالية بأن برنامج وكالة الأمن القومي الأول الذي كشف عنه سنودن، والذي يجمع تسجيلات مكالمات الهواتف لملايين من المواطنين الأميركيين، غير قانوني. وفي الأسبوع الماضي، صوت مجلس النواب بأغلبية ساحقة على تحويل البرنامج عن طريق إبقاء معظم تسجيلات الهواتف بعيدا عن متناول الحكومة، وهو التغيير الذي أشرف الرئيس باراك أوباما عليه شخصيا ويخضع حاليا لمناقشات مجلس الشيوخ. وقد أغضبت شركتا «آبل» و«غوغل» المباحث الفيدرالية الأميركية بتصعيدهما لقضية التشفير، ومن بينها الهواتف الذكية، لتأمين الاتصالات وحماية العملاء من أي نوع من أنواع الرقابة الحكومية التي كشف عنها سنودن.
كانت تلك النتائج العارضة مصدر ارتياح عميق لدى سنودن، الذي خشي في بادئ الأمر من تجاهل المعلومات التي كشف عنها للجميع، كما أفاد بذلك بين ويزنر، وهو محام لدى «اتحاد الحريات المدنية الأميركي» الذي يمثل سنودن في القضية. غير أن الجدل الثائر حول سنودن لا يزال مستعرا وأبعد ما يكون عن الانتهاء.
يقول المحامي ويزنر «إن حياته غنية للغاية ومتكاملة»، في حرص منه على دحض توقعات النقاد في عام 2013 بأنه سوف ينتهي الحال بسنودن قابعا في الظل والخفاء داخل روسيا. وأضاف ويزنر «لقد أصبح مواطنا بارزا بحق، وصار قادرا على استخدام التكنولوجيا لهزيمة المنفى والمشاركة في الجدال الذي بدأه».
هناك قصة مغايرة يدلي بها المسؤولون في مجتمع الاستخبارات الأميركية عن المغامرة التي بدأت في 20 مايو 2013. وهو اليوم الذي طار فيه سنودن إلى هونغ كونغ. فلا يزال قرار سنودن بتسريب مئات الآلاف من وثائق وكالة الأمن القومي الأميركي السرية للغاية إلى الصحافيين يثير غضب وسخط الكثيرين في إدارة الرئيس أوباما، التي تقول إن المعلومات التي كشف عنها سنودن مكنت الإرهابيين وغيرهم من خصوم الولايات المتحدة من تفادي أنشطة التنصت والتجسس للوكالة. ويشيرون إلى أن إفصاحه عن تلك المعلومات، وبعض منها اتخذ طريقه للنشر عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، تجاوز مسألة تسجيل مكالمات الهواتف، حيث تلامس مع الكثير من البرامج التي تستهدف بعض الدول الأجنبية ولا تتعلق فقط بخصوصية المواطنين الأميركيين.
يقول ستيوارت بيكر، وهو مستشار سابق لدى وكالة الأمن القومي ومن النقاد الصرحاء لتسريبات سنودن «إن الجدل الوحيد الثائر لدينا في الولايات المتحدة يدور حول أول وثيقة كشف عنها سنودن»، مشيرا إلى الأمر القضائي السري الذي يخول حق استخدام برنامج التنصت الهاتفي للوكالة. وأضاف: «أما بقية الوثائق فما كانت إلا نوعا من أنواع الإباحية الاستخبارية لبقية دول العالم، على شاكلة: أوه، ألا ترون ما تصنعه وكالة الأمن القومي!».
وفي مذكرة حديثة، أعرب مايكل جيه. موريل، نائب المدير السابق والقائم بأعمال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، عن الرأي القاتم للكثير من رجال الاستخبارات المتقاعدين، والذين يلقون باللائمة على تسريبات سنودن من حيث تعزيزها لقدرات جماعة إرهابية مثل داعش. ويقول موريل في مذكرته بعنوان «الحرب العظمى الحالية»: «كان تنظيم داعش أحد الجماعات الإرهابية التي تعلمت من سنودن، ومن الواضح تماما أن تصرفاته لعبت دورا مؤثرا في صعود ذلك التنظيم الإرهابي. باختصار، تسبب سنودن في جعل الولايات المتحدة وحلفائها أقل أمنا عن ذي قبل. ولا أقول ذلك على سبيل التلطيف: إن المواطنين الأميركيين قد يتعرضون للقتل فعليا على أيدي الإرهابيين بسبب تصرفات إدوارد سنودن».
وفقا لتلك التقديرات، رفض الادعاء العام الأميركي منح سنودن أي فرصة لمساومة قد يتقبلها. وقد منحته الحكومة الروسية حق الإقامة لمدة ثلاث سنوات، في الصيف الماضي، وليست لديه أي خطط للمغادرة في أي وقت قريب. وحتى إذا تمكن سنودن من الحصول على وثائق السفر - مع إلغاء الولايات المتحدة لجواز سفره، وهو ليس من مواطني روسيا، ومن ثم لن يحصل على جواز سفر روسي - فإنه يواجه خطر إلقاء القبض عليه في أي دولة من الدول وإعادته إلى الولايات المتحدة لمحاكمته.
ويقول محامي سنودن إن مصدر دخله الوحيد يتلقاه من مقابل الأحاديث التي يدلي بها، والتي في بعض الأحيان تتجاوز حد 10 آلاف دولار مقابل الجلسة الواحدة. أما صديقته الأميركية، ليندسي ميلز، والتي مثلته شخصيا في حفل توزيع جوائز الأوسكار في فبراير (شباط) الماضي، فقد لحقت به في موسكو.
غير أن موقف سنودن، برغم تعقيده، لا يزال بعيدا عما كان عليه الأمر في أول تسريب يعلن عنه من هونغ كونغ في يونيو (حزيران) 2013 بوصفه مصدرا لتسريبات أرشيف وكالة الأمن القومي الأميركية. ففي الكونغرس وعلى شاشات التلفاز في ذلك الوقت، كان مجمل الحديث يدور حول الخيانة، وافتراضات تقول إن سنودن أحد عملاء روسيا أو الصين، كما خرجت دعوات لاغتياله من خلال غارة بطائرة بدو طيار.
حتى الآن، لم يبرز أي دليل يؤكد سحب سنودن لبيانات وكالة الأمن القومي الأميركية بإيعاز من دولة أخرى أو أنه تقاسم تلك البيانات مع أي جهة غير الصحافيين. (يقول موريل، المسؤول الاستخباري السابق، إنه يعتقد أن سنودن رفض أي عروض من روسيا أو الصين، باعتبار عقليته واستيائه الواضح من أجهزة الاستخبارات كافة).
في جامعة برينستون هذا الشهر، قدمت كيم شيبيل، وهي مديرة برنامج الجامعة حول القانون والشؤون العامة، إدوارد سنودن إلى الجمهور الذين ملأوا القاعة الكبيرة وغرفتين علويتين. وأقرت بأنه من غير المعتاد لبرنامج الجامعة حول القانون أن يقدم متحدثا يواجه ذلك القدر الخطير من الاتهامات الجنائية. وأضافت تقول: «نظرا لحجم الحضور هذا اليوم، فإنه يشير إلى أن إدوارد سنودن قد صنع شيئا مهما للغاية، من خلال الكشف عن المعلومات التي لفتت أنظار المجتمع إلى الأمور التي تجري في الظل باسم أمتنا». ثم ظهرت صورة ضخمة لسنودن ذاته على شاشة المسرح الكبير. وقد ضحك بخجل واضح، متمتما حول ظهوره في صورة الأخ الأكبر.
ثم يوم الجمعة الماضي، في جامعة ستانفورد، عرج سنودن على السؤال الحتمي المطروح: هل هو بطل أم أنه خائن؟.
وقد أجاب في إصرار قائلا: «ليس الأمر متعلقا بشخصي، بل إنه متعلق بنا جميعا. لا أدعي البطولة. كما أنني لست خائنا. أنا مجرد مواطن أميركي عادي مثل أي مواطن آخر في تلك الغرفة». غير أنه لم يكن في تلك الغرفة بولاية كاليفورنيا، وقد تحدث بحزن ظاهر عن ذلك، حيث قال: «إذا سنحت لي الفرصة، فسوف أعود إلى بلادي بلا أدنى شك. وذلك لأنه موطني الذي أعيش فيه. وهناك تعيش عائلتي».
* خدمة «نيويورك تايمز»