67 عامًا تفصل بين مشاركة الجيش السعودي في الدفاع عن فلسطين عام 1948 في عهد الملك المؤسس عبد العزيز وأوامره بتمويل وتجهيز أهل فلسطين بالمال والعتاد لإنقاذ فلسطين، وبين «عاصفة الحزم» التي وجّه بانطلاقتها الملك سلمان بن عبد العزيز، بمشاركة دول أخرى لإعادة الشرعية والاستقرار والأمن في اليمن، استجابة لنداء رئيسها الشرعي عبد ربه منصور هادي، وقطع الطريق على الميليشيات الحوثية والداعمين لها لفرض واقع جديد في الجارة الجنوبية للسعودية، وقبلها الوقفة السعودية مع جارتها البحرين جراء حوادث الشغب التي شهدتها المنامة، وتدخّل السعودية المباشر والفوري لإخماد نار الفتنة هناك، من خلال قوات درع الجزيرة.
وأعادت «عاصفة الحزم» الحديث عن الجيش السعودي ومشاركته في حرب فلسطين عام 48 من خلال كتاب للباحث والإعلامي السعودي محمد بن ناصر الياسر الأسمري، كشف فيه عن أسرار ووثائق سياسية، ومراسلات بين قيادات سعودية وعربية وعالمية تدور حول بداية التعامل مع القضية الفلسطينية، وكثير منها ينشر لأول مرة، من خلال إطار منهجي علمي متكامل، يعرض الحقائق كما هي دون دعاية أو تهويل.
ويعد الكتاب الذي حمل عنوان «الجيش السعودي في حرب فلسطين 1948» محاولة جادة لتقصي إسهامات القوات السعودية نظامية وغير نظامية وتسجيل مشاركتها البطولية في الدفاع عن أرض فلسطين وحماية شعبها من العدوان الصهيوني، من خلال مرحلتين، الأولى قبل دخول الجيوش العربية أرض فلسطين في أوائل مايو (أيار) عام 1948، والمرحلة الثانية بعد 15 مايو من العام ذاته.
بدأ المؤلف الأسمري كتابه بمقدمة قال فيها: «كنت مشغول الذهن والوجدان بقضية فلسطين سنوات طفولتي وشبابي، فقد ولدت في عام النكبة 1947 وتنامت مشاعري خلال مراحل العمر مما كنت أسمعه من والدي الراحل وغيره من الضباط السعوديين الذين شاركوا في حرب فلسطين 1948 من حكايات عن مسارات الحرب، مشيرًا إلى أن حرب فلسطين عام 1948 كانت مثالاً للتعاون العربي في الدفاع عن أرض فلسطين، حيث طلبت القيادة العربية وعلى رأسها مصر في ذلك الوقت تعاون الجيش السعودي من أجل حرب التحرير، وقد رحبت القيادة السعودية بهذا التعاون رغم ضعف الإمكانات، حيث استجاب الملك عبد العزيز لهذا المطلب، وأبلى الجيش السعودي في هذه الحرب بلاء حسنا، واستشهد كثير من خيرة الجنود السعوديين».
وشدد الأسمري بالقول: «السعودية ومصر قلب الأمة العربية، فمصر قلب العروبة، والسعودية دائمًا تقف بجانب مصر لأن مصر تقف بجانب المصالح العربية، وقد قرأت عن حروب فلسطين قراءات كثيرة فوجدت تطابقًا إلى حد ما مع أغلب ما سمعت من حكايات، سواء من أبي أو الضباط السعوديين الذين شاركوا في حرب فلسطين 1948 عن مسارات الحرب، وكنت أسمع التأوهات من أبي وغيره، وألاحظ تعبيرات الألم الطافح على المحيا، حكايات عن المناوشات الجانبية بين بعض قادة السرايا العربية في جبهات القتال على أشياء صغيرة كرفع علم الدولة من قبل جيش، مما أوجد شواغل عن الهدف الأسمى وهو إنقاذ فلسطين، كما كان حال الشكوى من فساد الخطط والتخطيط للحرب على كل الجبهات».
ويؤكد الأسمري أن فلسطين كانت وما زالت هي أكبر أرض عربية توحد العرب والمسلمين على مر العصور للجهاد من أجلها، ورغم تصدع أرض العرب إلى كيانات منفصلة وحدود مصطنعة، فإن فلسطين هي القلب النابض وما أشبه الليلة بالبارحة، فما يدور منذ بداية هذا العقد من مفاوضات وحركة تمثلت في انتفاضات من الفلسطينيين ضد إسرائيل هو شبيه بما كان يدور منذ أكثر من نصف قرن عندما بدأت الحرب النظامية بين الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي، وكذلك ما يجري من ممارسات وضغوط من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وغيرها على القيادات الفلسطينية والزعامات العربية.
ويضيف الأسمري أنه بعد مضي أكثر من نصف قرن (وقت تأليف الكتاب في طبعته الأولى قبل 17 عامًا، وأعيدت - أخيرًا - طباعته ثانية بمبادرة كريمة من الملك سلمان عندما كان وليًا للعهد ووزيرًا للدفاع) على حرب فلسطين ونكبة العرب، ثم نكساتهم المتتالية عسكريًا وسياسيًا ونفسيًا، فإن من حق الأجيال التي ورثت هذه الأحوال والأهوال أن تعرف شيئًا من التاريخ عما فعله وصنعه الأجداد والآباء من أعمال سلبية وإيجابية، فلعل في قراءة التاريخ وفق وقائعه ما يبعث إلى إفاقة القيم والأهداف التي تحقق النصر وتزيل آثار الهزيمة.
يقع الكتاب في 419 صفحة، حاول فيها المؤلف أن يقدم من خلاله كشفًا جديدًا لبعض الحقائق التاريخية عن مشاركة السعودية من خلال جيشها الذي شكل قرابة ربع الجيش المصري الذي حارب اليهود على الجبهة الجنوبية لفلسطين عام 1948، وذلك من خلال شهادات من القائد السعودي لجيش إنقاذ فلسطين اللواء الراحل سعيد الكردي في مذكراته التي هي أساس هذا الكتاب ونخبة من مرؤوسيه الذين قادوا وشاركوا في تلك المعارك، كما يرصد الكتاب المصادر المصرية بالذات والعربية الأخرى التي كتبت عن المشاركة العسكرية السعودية بشكل يسير وغير منصف لحقيقة الواقع إلى حد كبير».
وعن دوافعه في تأليف الكتاب يقول الأسمري: «هناك دوافع كثيرة، أهمها قلة الكتابات، بل ندرتها والتوثيق التاريخي لمشاركة الجيش السعودي النظامي في حرب فلسطين في العالم العربي بشكل عام والسعودية على وجه الخصوص، إذ لم أجد حسب علمي ومعرفتي واطلاعي أن أحدًا قام بالتدوين والتوثيق منذ نهاية الحرب عام 1949 حتى عام 2002، سواء من العسكريين السعوديين أو من الساحة الفكرية، رغم ما قام به صالح جمال الحريري في كتاب دعائي الطابع الذي اتسم بالتوثيق العام دون الدخول في التفصيلات، حيث اشتمل على كلمات قيلت في مناسبة احتفالية بعودة الجيش السعودي من فلسطين إلى جدة في أواخر عام 1949 دون تاريخ لسنة الطبع، وإذا كان لهذا الكتاب ميزة فهي أنه وثق أسماء بعض الضباط الذين شاركوا في الحرب، من خلال شرح لصورة فوتوغرافية جماعية التقطت لهم في معسكر الشط على السويس عام 1949، بعد إعلان الهدنة والتقسيم وقيام إسرائيل، وقد تابعت التقصي للأسماء من مقابلاتي للضباط الذين شاركوا في الحرب وما زالوا أحياء، فتوصلت إلى 100 ضابط، حيث لم يزد عدد مَن جاء ذكرهم في كتاب الحريري الراحل عن نحو 60 ضابطًا».
ويضيف المؤلف: «السبب الثاني الذي دفعني لكتابة هذا الكتاب هو الشعور بالتقصير والألم في عدم الوعي بأهمية هذا العمل التوثيقي البطولي المشرف للجيش والوطن السعودي من قبل الباحثين والمؤرخين، سواء في الجامعات أو الساحة الفكرية في وقت مبكر أو لاحق بعد نهاية الحرب وعودة الجيش من ميادين القتال، لا سيما أن جل المشاركين من الضباط وضباط الصف والجنود قد أنسأ الله لهم في الأجل وبقوا على قيد الحياة من زمن نهاية الحرب إلى عام 2000، واستمروا في العسكرية السعودية، وارتقى بعضهم إلى رتب وقيادات عليا، بالإضافة إلى وفاة بعض العسكريين الذين شاركوا في المعارك دون تسجيل شهادتهم أو إعطائهم حقهم في شرف المشاركة في الحرب، مما يزيد من مرارة الألم بعدم وجود تاريخ لجهاد ومشاركة السعوديين بالدم والأرواح من أجل إنقاذ فلسطين.. ولعلي هنا احتسب هذا الكتاب جهادًا فكريًا متممًا لجهاد أبي - الراحل - ولكل الشرفاء من الضباط وجند الجيش السعودي البطل والمجاهدين، وكلهم عندي آباء وأبطال، أثبتوا أن في السعودية أرض القبلة والاستقبال والأرومة مواطن للعز والبطولة والنخوة والشهامة وليس للنفط والريال فقط».
واعتبر المؤلف أن مشاركة السعودية في حرب فلسطين لم تكن مقتصرة على الجهاد التطوعي من المواطنين الذين انضووا تحت لواء الجهاد المقدس أو اشتراك الجيش النظامي مع الجيش المصري، بل لقد كان للقيادة السياسية جهود دبلوماسية مكثفة في المفاوضات بين العرب واليهود واجتماعات القيادات، سواء على مستوى الملوك والرؤساء أو رؤساء الوزارات ووزراء الخارجية أو من خلال المراسلات المتبادلة بين الملك عبد العزيز ورؤساء الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وكذا الحال في المفاوضات التي جرت بين العرب وبريطانيا في مؤتمر لندن.
وزاد: «كان الجهاد السعودي ضد الوجود الصهيوني في فلسطين بالنفس والمال على منوال متساوٍ من التسابق للبذل، وتكوّنت لجان شعبية في أنحاء البلاد السعودية لجمع التبرعات لأهل فلسطين، وهذا بطبيعة الحال خلاف ما التزمت به السعودية من أموال حسب قرارات جامعة الدول العربية رغم حداثتها، فقد كان لها دور كبير في حرب 1948، خصوصا في جمع العرب تحت لواء واحد لمواجهة الأزمات، حيث قررت الجامعة العربية رصد مليون جنيه مصري، وضعتها تحت تصرف القيادة العسكرية لتكوين قيادة عربية تتولى تدريب شباب العرب على الحرب، وتكوين جيش من المتطوعين داخل فلسطين يسمى جيش الجهاد المقدس، وآخر شبه نظامي يعبأ ويدرب خارج فلسطين، يسمى جيش الإنقاذ، علاوة على بعض الحاميات المحلية الفلسطينية، وقد دفعت مصر من تكلفة هذه الجيوش 42 في المائة، بينما دفعت سوريا ولبنان 22 في المائة، ودفعت السعودية 20 في المائة، ودفعت العراق الباقي».
ووجّه الملك عبد العزيز بتمويل وتموين وتجهيز أهل فلسطين والمجاهدين بالمال والعتاد، إيمانًا منه بأنه السبيل الأفضل لإنقاذ فلسطين بدلاً من تدخل الجيوش العربية، بالإضافة إلى ما بذله الملك عبد العزيز من جهود كبيرة منذ عام 1929 - 1936 من العمل السياسي لحل القضية سلميًا، وذلك من خلال المفاوضات والمراسلات والبعوث الدبلوماسية.
ووفقًا للكتاب فقد كانت البداية باشتراك الجيش السعودي النظامي في الحرب بعدما استقر رأي رؤساء الحكومات العربية على ضرورة الدفاع عن فلسطين، والاحتفاظ بعروبتها، والحيلولة دون تقسيم فلسطين وقيام الدولة اليهودية، وقد أمر الملك بالمشاركة في الحرب في ذات اليوم الذي قررت فيه مصر دخول الحرب، حيث تتابع سفر سرايا الجيش السعودي إلى ميادين القتال خلال 24 ساعة، مفصلاً ذلك بالقول: «وقد توجهت الدفعة الأولى من الطائرات المسلحة السعودية، مؤلفة من جند سرايا الرشاشات والأسلحة الخفيفة والمشاة على التتابع، وبقية السرايا أرسلت بالبواخر، وقد عُين لقيادة فرقة الجهاد السعودية الأولى العقيد سعيد بيك الكردي، ووكيله وكيل القائد عبد الله بن نامي، وألفت لها هيئة أركان حرب من بعض الضباط الذي جرى انتقاؤهم من المعسكرات والحرس الملكي».
ويضيف الأسمري: «لقد باشرت القوات السعودية القتال جنبًا إلى جنب مع القوات المصرية، وكانت المعركة الأولى للجيش السعودي في بيت حانون على بعد 9 كيلومترات عن غزة شمالاً، وتواجه المعسكر السعودي مستعمرة (بيرون إسحاق) التي تؤمن ثلاث قرى أخرى بالماء، وقد كان السجال بين القوات المصرية واليهود على هذا الموقع.. وتقرر طرد اليهود من الموقع، فتقدمت القوات المصرية ومعها السعودية بقيادة القائمقام (سعيد الكردي) من تقاطع طريق غزة - بئر السبع وتقدمت ثلاثة فصائل من الجناح الأيمن، ودخلت حتى مسافة 50 ياردة من الأسلاك الشائكة المحيطة بالمستعمرة وحصونها الأمامية، وعملت القوات السعودية حركة التفاف حول المستعمرة لتلتقي القوات المصرية الأمامية وجناحها الأيسر، ودمرت البئر، وانسحبت قوات اليهود من مواقع أخرى لمواجهة القوات السعودية، وحصل خلل في الميمنة أدى إلى تراجع وانسحاب بأمر القيادة».
ووصف المؤلف الأسمري المشاركة السعودية بأنها حدث يثير الإعجاب، محددًا أهم المواقع والمعارك التي شارك فيها الجيش السعودي في حرب فلسطين عام 48 قائلاً: «تعددت المواقع والمعارك التي شاركت فيها القوات السعودية على أرض فلسطين، ولعل ما يثير الإعجاب بالمقدرة القتالية للجيش السعودي ليس فقط الروح القتالية والحماسية والشجاعة والبطولة والنصر التي قابلها في أغلب المعارك التي خاضوها، بل بالكيفية التي مارسوها أثناء المعارك رغم حداثة العمر والتجربة للضباط السعوديين وعدم المعرفة بأرض مسرح القتال واختلاف مصطلحات التدريب والإيعازات والأسلحة، ومن أهم المواقع والمعارك التي شارك فيها الجيش السعودي في فلسطين معركة (دير سنيد، أسدود، نجبا، المجدل، عراق سويدان، الحليقات، بيرون إسحاق، كراتيا، بيت طيما، بيت حنون، بيت لاهيا، غزة، رفح، العسلوج، وتبة الخيش، على المنطار، الشيخ نوران)».
الجيش السعودي.. مشاركات بطولية من «حرب فلسطين» إلى «عاصفة الحزم»
كتاب يستقرئ التاريخ ويسجل دور السعودية العسكري والمادي في نصرة الشرعية
الجيش السعودي.. مشاركات بطولية من «حرب فلسطين» إلى «عاصفة الحزم»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة