بعد نجاح مرحلته الأولى، التي احتضنها متحف «اللوفر» في باريس، ما بين 17 أكتوبر (تشرين الأول) و19 يناير (كانون الثاني) الماضي، حط معرض «المغرب الوسيط - إمبراطورية من أفريقيا إلى إسبانيا» رحاله بـ«متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر»، بالرباط.
ويشكل هذا المعرض المتنقل، المنظم من طرف المؤسسة الوطنية للمتاحف بتعاون مع متحف «اللوفر»، والذي سيتواصل في محطة الرباط، إلى غاية ثالث يونيو (حزيران) المقبل، مناسبة لـ«تسليط الضوء على أصالة المغرب واستمرارية وحدته وإشعاعه الحضاري وحفاظه على جميع مكونات هويته عبر العصور».
ويتيح هذا المعرض، الذي ترأس حفل تدشينه الأمير مولاي رشيد، شقيق العاهل المغربي الملك محمد السادس، إعادة قراءة مرحلة زمنية ممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر الميلاديين، التي تعاقب على الحكم خلالها كل من المرابطين (1049 - 1147) والموحدين (1147 - 1269) والمرينيين (1269 - 1465)، الذين تمكنوا من تحقيق وحدة سياسية بمجال شاسع ضم أجزاء ترابية من شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء وبلاد الأندلس.
ونقرأ في «الموسوعة الحرة» (ويكيبيديا) أن دولة المرابطين «امتدت على مستوى منطقة تسيطر جغرافيا من المحيط الأطلسي غربا وبلاد شنقيط وحوض نهر السنغال جنوبا، وهو مكان مخاض ميلاد الحركة، إلى الامتدادات الشرقية محاذية إمبراطورية كانم ومزاحمة إياها على بحيرة تشاد في الصحراء الكبرى. وامتد هذا المجال في الشمال مخترقا جبال الأطلس بتلالها وكبيرها ومتوسطها وصغيرها، وامتد إلى أن وصل إلى البحر الأبيض المتوسط مخترقا مياهه ودخل شبه الجزيرة الأيبيرية، وسيطر على الأندلس. وعرفت أوج امتدادها في عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي أسس مراكش واتخذها عاصمة للدولة، ودخل الأندلس وأخضعها لسلطته بعد معركة الزلاقة. وكانت تجاور سلطانه في الشمال كل من مملكة قشتالة ومملكة نافارا ومملكة أراغون، وفي الشرق بنو زيري وبنو حماد، وفي جنوب الصحراء، بحكم الأمر الواقع، كل من ممالك بامبوك، وبوري، ولوبي وإمبراطوريتي مالي وغانا. كما نقرأ في الموسوعة نفسها أن «الدولة الموحدية إمبراطورية إسلامية أسسها الموحدون وهم من سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا) والأندلس سنوات 1121م - 1269م، أسسها أتباع حركة المهدي بن تومرت، واستطاع عبد المؤمن بن علي الكومي (1130م - 1133م - 1163م) أن يستحوذ على المغرب الأقصى (سقوط مراكش عام 1147م) والمغرب الأوسط ومن ثم على كامل أفريقية (حتى تونس وليبيا عام 1160م) والأندلس (1146م - 1154م). عاصمتها مراكش. وكانت إشبيلية مقر الوالي الموحدي على الأندلس». فيما تقدم لنا الموسوعة نفسها المرينيين بوصفهم «سلالة حكمت بلاد المغرب الأقصى من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر الميلاديين، وتوسعت حدود دولتهم خارج نطاق المغرب في عهد السلطان أبي سعيد الأول، ويوسف بن يعقوب، وخاصة أيام أبي الحسن المريني، الذي ضَم لدولته المغرب الأوسط والأدنى فوحد المغرب الكبير تحت رايته، مسيطرا على بلاد السوس ومعاقل الصحراء جنوبا إلى مصراتة قرب الحدود المصرية شرقا، ورندة بالأندلس شمالا. وبنى المرينيون مدنا جديدة كفاس الجديد وتطاوين والمنصورة بالمغرب والبُنيَة بالأندلس، كما اهتموا ببناء المدارس والمارستانات والمساجد والأربطة والمؤسسات الوقفية المختلفة. واستحدث المرينيون نظما إدارية وعسكرية، كمشيخة الغزاة، وبرز في عصرهم كبار الرحالة أمثال ابن بطوطة، وابن رشيد السبتي، والعبدري، والتجيبِي، والبلوي وأحمد زروق، حيث حرص المرينيون على تمتين الوحدة الإسلامية مع المشرق عن طريق هذه الرحلات. واحتضنت عاصمتهم فاس كبار المؤرخين والأدباء والعلماء أمثال لسان الدين بن الخطيب وابن خلدون وابن البناء المراكشي».
ويشتمل معرض «المغرب الوسيط» على نحو 220 تحفة فنية، تبرز الحس الفني الرفيع الذي طوره المغرب إبان عهد المرابطين والموحدين والمرينيين، فيما تعكس ما جرى تحقيقه من منجزات خلال هذا العصر في مجال الهندسة المعمارية والخزف والمنسوجات وفن الخط والنقش على الخشب وصناعة الكتاب من توريق وتنميق وتزويق وتسفير، والأعمال الإبداعية في مختلف العلوم العقلية والنقلية؛ كما يضم المعرض تحفا فنية ذات رمزية دينية عالية، كثريا القرويين ومنابر لمساجد جامعة وعناصر معمارية كالأبواب وتيجان المسلات والأعمدة ولوحات من الزليج وأوانٍ خزفية وأثواب حريرية ومخطوطات نادرة مكتوبة بالخط العربي، وزخرفات معمارية، وأدوات ذات صلة بالحياة اليومية، كالصحون والجرار وصناديق حفظ الأثواب والقناديل وغيرها، فضلا عن أدوات تتعلق بتقنيات استنباط المياه، ومصاحف ومخطوطات مختلفة في موضوعات فقهية وعلمية وأدبية.
وقد جرى استقدام أهم معروضاته من المتاحف المغربية والبرتغالية والفرنسية والإيطالية والإسبانية: «مناسبة للتعريف بالمآثر العمرانية وتقديم صورة مشرقة عن أصالة المغرب واستمرارية وحدته وإشعاع حضارته، وإبراز الروافد الثقافية التي نهلت منها الحضارة المغربية ومواطن التأثير والتأثر بينها وبين محيطها الإقليمي والدولي». ويعكس تنظيم المعرض، حسب المنظمين، «عزم المملكة على مشاطرة موروثها التاريخي والعلمي والثقافي والديني والمعماري الغني مع الجميع. وهو تراث استطاع المغرب بناءه في استقلالية تامة عن المشرق، لا سيما عبر اعتماد إسلام معتدل قائم على المذهب المالكي والفكر الصوفي، الخيارين اللذين يشكلان حتى اليوم الهوية السياسية والروحية للبلاد».
وقال المهدي القطبي، رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف، إن «تنظيم المعرض يأتي في زمن يحرص فيه المغرب على العناية بثقافته وفنونه وفق تصور جديد، ويعمل على توسيع مجال الاهتمام بها»، مبرزا أن الحدث «يعكس صورة مشرقة عن الإسلام المعتدل والمتسامح الذي طالما طبع تاريخ المملكة المغربية».
ورأى القطبي في تنظيم المعرض «تكريما لبلد ظل عبر التاريخ فضاء للحوار والتبادل والتسامح»، و«دليلا على خصوصية المغرب التي تتميز بالانفتاح واحترام الآخر».
من جهتها، أوضحت بهيجة سيمو، مديرة الوثائق الملكية، أن المعرض يسلط الضوء على «أصالة الدولة المغربية، ووحدتها الترابية، وكذا الروافد المتعددة من عربية وأمازيغية وعبرية وأندلسية، التي أغنت حضارتها»، فيما «يتيح إعادة قراءة الفترة التي تمتد من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر، والتي تعد بمثابة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي في عهود الدول المرابطية والموحدية والمرينية».
وأشارت سيمو إلى أن «المعرض يمنح الزائر فرصة التعرف على الحضارة المغربية في العصر الوسيط والنفاذ إلى أسرارها من خلال رؤية نابعة من الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، كما يسمح باستعراض محطات من هذه المرحلة التاريخية التي عرف فيها الغرب الإسلامي أوج ازدهاره في المجالات الثقافية والمعمارية والفنية، بالإضافة إلى ما يتيحه هذا المعرض من تتبع لنشأة الدولة المغربية وما عرفته من تطورات خلال 4 قرون، والتعرف على مرتكزاتها وأسباب استمراريتها ورصد إشعاعها الحضاري على مدى ألف سنة».
ولاحظت سيمو أن «المتتبع لتاريخ المغرب يخلص إلى أن هذا التاريخ محكوم في حركيته وصيرورته بقيم موروثة ترجع لآلاف السنين، وهي قيم تتجلى في التناسق بين رغبتين تتعلق أولاهما بالوحدة، أي وحدة الهوية والمحافظة على الموروث وإعادة استنطاق الذاكرة، والثانية بقبول الاختلاف الذي يشجع على الانفتاح والانخراط الإيجابي في مسار حركية التاريخ، وهاتان الرغبتان هما اللتان ساهمتا في تكوين نموذج مغربي خاص يقوم على الاندماج والانفتاح على الآخر وليس على الإقصاء والانغلاق على النفس». ورأت سيمو أن المعرض بقدر ما يبرز الموقع الجغرافي المتميز للمغرب، باعتباره جسرا للتواصل بين القارتين الأوروبية والأفريقية وملتقى للحضارات وأرضا للقاء والحوار والتسامح والتعايش، يمثل مناسبة لإعادة التفكير في التراث المغربي الوسيط وتثمينه.
واتفق القطبي وسيمو على دعوة المغاربة، أفرادا وعائلات، لزيارة المعرض لكي يطلعوا على تاريخ بلدهم، مشددين على الحاجة إلى التأمل في التراث المغربي وإيلاء العناية القصوى لترميمه وصيانته، بما يحفز على الانخراط الناجع في مجال التحافة وتربية الجيل الناشئ على تذوق فنونها، حفظا للذاكرة التاريخية وصونا للهوية الوطنية.
معرض «المغرب الوسيط» في الرباط يختصر 4 قرون من حكم المرابطين والموحدين والمرينيين
220 تحفة فنية تبرز أصالة وإشعاع «إمبراطورية من أفريقيا إلى إسبانيا»
معرض «المغرب الوسيط» في الرباط يختصر 4 قرون من حكم المرابطين والموحدين والمرينيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة