ضحايا «الربيع العربي» يهيمون في مصر بحثا عن مستقبل

بينهم ليبيون وسوريون ويمنيون.. وبعضهم ساند «ثوار» بنغازي وصنعاء واللاذقية

إحدى جلسات اللاجئين في مصر تضم ليبيين وسوريين (تصوير: الشرق الأوسط»)
إحدى جلسات اللاجئين في مصر تضم ليبيين وسوريين (تصوير: الشرق الأوسط»)
TT

ضحايا «الربيع العربي» يهيمون في مصر بحثا عن مستقبل

إحدى جلسات اللاجئين في مصر تضم ليبيين وسوريين (تصوير: الشرق الأوسط»)
إحدى جلسات اللاجئين في مصر تضم ليبيين وسوريين (تصوير: الشرق الأوسط»)

حتى أواخر العام الماضي كان رجل الأعمال الليبي، محمود علي، ابن مدينة درنة، الذي شارك في تمويل الانتفاضة المسلحة ضد حكم معمر القذافي، يقيم مع ولديه وزوجته في فندق فخم يقع في قلب القاهرة الصاخبة، لكن استمرار الفوضى والاقتتال في بلاده وطول بقائه بمصر هربا من المتطرفين، اضطره، في الأشهر الأخيرة، للإقامة في فندق آخر أقل تكلفة يقع في ضاحية المهندسين غرب العاصمة. وهو اليوم، مثل آخرين، يعض بنان الندم.
وبعد مرور نحو 4 سنوات، أصبح عدة آلاف من العرب غالبيتهم ممن تزعموا وشاركوا في إطلاق ما يعرف باسم «ثورات الربيع العربي» في مطلع 2011، يشعرون بالمرارة وهم يتابعون الأخبار الفاجعة عن بلدانهم من مقار إقاماتهم الجديدة بعيدا عن أوطانهم. ويتركز أكثر هؤلاء في مصر التي تحولت إلى الهدوء والاستقرار سريعا بعد إسقاط الرئيسين السابقين حسني مبارك ومحمد مرسي.
كما لجأ آلاف آخرون لدول مثل تونس والأردن وتركيا. ويقول عمرو فركاش، المدير التنفيذي في شركة «أويا» للاستثمارات الليبية، الذي يقيم في الوقت الحالي بمصر، بعد أن شارك في ثورة «17 فبراير (شباط)» لإسقاط القذافي، إن كثيرا من الليبيين ممن لديهم قدرة مالية، بدأوا في تقليل الإنفاق المالي، بعد أن اكتشفوا أنهم ربما لن يعودوا قريبا إلى وطنهم.
ويضيف فركاش لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لرجل من مثل هذه الشريحة من المواطنين، أي ذلك الذي اعتمد على مدخراته حين جاء لمصر، فإن لديه أموالا.. نعم، لكنه اضطر أخيرا لتغيير أولوياته في الإنفاق، لأنه لا يعرف متى سيعود، إن كان بعد سنة أو غيره، وبدلا من أن يقيم في فيلا ذات طابقين، أصبح يبحث عن شقة متواضعة».
أما بالنسبة لرجل الأعمال، محمود، الذي يطلق عليه أصدقاؤه العرب بمصر، «الدرناوي» نسبة لمدينته، فقد كان يدير فرعا لشركة استيراد في تلك المدينة الصغيرة التي سيطر عليها تنظيم داعش في شرق ليبيا، وحاول نقل نشاطه إلى مدينة بنغازي لكنها هي الأخرى لم تسلم من الاقتتال، إلى أن حط الرحال في القاهرة. وهو ينتظر منذ شهرين أن يبعث له والده بمساعدة مالية، لكنه يقول إن تحويل الأموال من ليبيا أصبح صعب المنال. ثم يتابع، على الشاشة التلفزيونية في بهو الفندق، تطورات الاقتتال في بلاده بذهن شارد.
هذا النوع من الوافدين، أي الأثرياء الذين لم يستثمروا أموالهم هنا انتظارا للعودة لبلادهم، يشكون، من دون صوت، من اقتراب نفاذ مدخراتهم بمرور الأيام. وبعد أن كانوا يقيمون في فنادق وفيلات فخمة، أصبح من السهل أن تتعثر في بعضٍ منهم وهم يهيمون على وجوههم بين منتديات الطبقات الدنيا، وفنادق الدرجة الثالثة، وبعض الضواحي الشعبية، في انتظار المجهول.
وتكشف مصادر أمنية مصرية لـ«الشرق الأوسط» عن أن جماعة الإخوان المسلمين حين وصلت للحكم في كل من القاهرة وطرابلس عامي 2012 و2013، شجعت على فتح باب اللجوء لمصر أمام أعداد كبيرة من ذوي المقاتلين المتطرفين من السوريين والليبيين، مشيرة إلى أن «التنظيم الدولي للجماعة» بالتعاون مع «إخوان مصر» وأطراف كانت تعمل في السفارة الليبية في القاهرة خصصت، خلال تلك الفترة، ملايين الدولارات لمساعدة ذوي المقاتلين المتشددين الفارين لمصر وتجاهلت باقي اللاجئين الذين لا ينتمون للإخوان أو التيار المتطرف.
الفارون العراقيون من نيران الحرب كانوا يشكلون الأغلبية في الضواحي المحيطة بالقاهرة، حتى 5 سنوات خلت، لكن التنافس على استئجار الشقق هنا أصبح ينحصر غالبا في الليبيين والسوريين، ولحق بهم اليمنيون أيضا بعد اجتياح الحوثيين صنعاء.
ويضيف مسؤول حكومي مختص بشؤون الوافدين بالقاهرة، أن غالبية اللاجئين العرب تتشكل من 3 طبقات، الأكثرية منهم أصبحوا يزاحمون حاليا الفلسطينيين والأفارقة على أبواب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. والطبقة المتوسطة، وهي خليط من موظفين سابقين فارين من الاقتتال في بلدانهم. وطبقة الأثرياء ومعظمها من الليبيين.
لكن بالنسبة لمن يعيش على مدخراته فقط، مثل «الدرناوي»، فقد أصبح يواجه شبح الإفلاس والسقوط في هاوية العوز والحاجة. ويقول السيد «فركاش»، وهو في العقد الثالث من العمر: «هؤلاء.. لم يكن أي منهم يتخيل أن أمد الأزمة في بلاده سيطول». ويضيف: «لكن يوجد ليبيون تمكنوا، بعد قدومهم لمصر، من وضع أموالهم في مشاريع مختلفة»، مشيرا إلى أن «السوريين يمكن أن يكونوا منافسا قويا لليبيين».
لم يتمكن «الدرناوي» من الاستثمار في أي مجال، لأنه، مثل آخرين، ترك الأيام تمر على «أمل لم يتحقق». وتعرَّف في مقر إقامته الجديد بالفندق في شارع شهاب بضاحية المهندسين على نحو 10 من اللاجئين العرب، من بينهم يمني اسمه «خالد» هرب من صنعاء حين دخلها الحوثيون قبل شهرين، وسوري يدعى «سليمان» فر من تهديدات نظام بشار الأسد.
وأصبح بين «الدرناوي» و«خالد» و«سليمان» وآخرين من المقيمين هنا، مواعيد للقاء في البهو الواسع الموجود في الطابق الأرضي، حيث يمكن شرب العصائر وتناول الوجبات ومشاهدة نشرات الأخبار حينا، ومشاهدة قنوات كرة القدم الأوروبية لتغيير المزاج حينا آخر. وحين يضربهم الضجر يخرجون للتمشية على أرصفة القاهرة المزدحمة، حيث يقابلون زملاء لهم في مقاهي شارع جامعة الدول العربية.
وعلى أحد المنتديات المجاورة يمضي محمد الورفلي، الذي يرأس اللجنة القانونية بالمجلس الأعلى للقبائل العربية في ليبيا، أمسياته القاهرية، وهو يتابع أحوال اللاجئين من بلاده ومن بلاد عربية أخرى. ويقول «الورفلي» الذي يرفض الاعتراف بـ«ثورة فبراير»، متحدثا لـ«الشرق الأوسط» إن الجالية الليبية هنا تنقسم إلى قسمين من ناحية القدرة المادية.. قسم لديه أموال وحالته ميسورة، ويقوم بالاستثمار في مجالات استهلاكية وعقارية.
البعض من هؤلاء اشترى فنادق في «شرم الشيخ» و«الغردقة» و«العين السخنة»، إضافة لامتلاك مزارع على طريق السويس وطريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوي، وكذا في محافظتي الفيوم والبحيرة. معظم أبناء هذا القسم يعيشون في مساكن مملوكة لهم في أماكن راقية بالعاصمة وبالقرب منها مثل «الرحاب» و«مدينة نصر» و«الشيخ زايد» و«أكتوبر».
أما القسم الثاني من الجالية الليبية فيضم شريحة الطبقة الوسطى «التي تعتمد غالبيتها، خلال إقامتها التي طالت في مصر، على تحويلات مالية تأتيها من أسرها وأقاربها في ليبيا. وهذه الطبقة تشكو من الضائقة المالية في الوقت الحالي». ويقول «الورفلي»، وهو في العقد الخامس من العمر، إن هؤلاء أصبحوا يواجهون حياة صعبة بالفعل، بعد أن توقفت التحويلات المالية من ليبيا منذ سقوط العاصمة طرابلس في أيدي المجموعات المسلحة الصيف الماضي.
كان يجري تحويل الأموال للاجئين الليبيين بمصر من ذويهم في ليبيا عن طريق مكاتب «ويسترن يونيون» أو من خلال البنوك. لكن «الورفلي» يقول إن «كل هذا توقف.. كما توقفت الرحلات الجوية أيضا، بعد أن كان البعض من أقارب المقيمين بمصر يأتي لهم من ليبيا بالأموال نقدا، كل شهرين أو 4 أشهر، لمساعدتهم في المعيشة هنا».
ويجري «الدرناوي» اتصالا بأسرته في طبرق لكي تحول له أموالا جديدة، لكن هذا لم يعد ميسورا. ويجيبه والده من الطرف الآخر عبر الهاتف: «الله غالب». ولم يكن «الدرناوي»، البالغ من العمر 43 عاما، يتخيل هذا السيناريو لحياته. فقد تخرج قبل 15 سنة في قسم الآداب بجامعة بنغازي، لكنه يمتلك عقلية اقتصادية فطرية، وينتمي لقبيلة العشيبات المشهورة بحب التجارة.
كان يكره حكم القذافي بسبب نظام تأسيس الشركات الليبية الخاصة الذي كان متبعا في ذلك العهد. ولهذا عمل لبعض الوقت في «تشاركية تجارية» تشرف عليها الدولة، إلى أن أسس شركته الخاصة بعد مقتل القذافي، رغم أنه لم يكن قد جرى بعد تعديل القوانين الاقتصادية القديمة. وأخيرا، كما يقول، «استولى متطرفو درنة على شركتي بكل ما فيها». ويضيف: «نصحني أبي، منذ البداية، أن أترك درنة وأن أنقل الشركة إلى طبرق، لكنني كنت أقول إن الأحوال ستتحسن، وإن الفوضى لا يمكن أن تستمر. لم أكن أدرك أن الأمور تتغير سريعا، وأن من كانوا رفاقا بالأمس سيستحلون حرمة مالي ويتحولون اليوم إلى أعداء».
ومثل كثيرين تحمسوا لثورات الربيع العربي، ساعد هذا الشاب المعارضين المتشددين بعد عودتهم من القتال في أفغانستان وباكستان والشيشان والعراق، إلى درنة، ومن أشهر هؤلاء عبد الحكيم الحصادي الذي أمضى 7 سنوات مع الأفغان في «كابل» و«جلال آباد» و«خوست».
ويقول: «ما يحزنني أنني كنت أعتقد أنهم قادرون على إصلاح حال ليبيا إذا تخلصنا من القذافي. حين بدأت الثورة لم أبخل عليهم.. خصصت للثوار، مع عائلتي، 5 سيارات دفع رباعي، وخصصنا لهم، عبر شهور على الجبهة الشرقية لبنغازي، أطنانا من المؤن الغذائية ومياه الشرب».
في ذلك الوقت اتهم القذافي تنظيم القاعدة والمتطرفين بتأجيج العمليات المسلحة ضد حكمه. ويتذكر «الدرناوي» قائلا إن هذا الأمر كان يتردد كثيرا حينها، وأن القادة الذين حولوا درنة اليوم إلى إمارة برايات سوداء، كانوا يقولون لنا أثناء الثورة، إنهم يقفون مع مطالب الشعب في الديمقراطية والحرية والعدالة.. «كل هذا تبخر، وقالوا الديمقراطية كفر!».
وفر من ليبيا إلى دول أخرى، مئات الآلاف، وفقا لتقديرات غير رسمية. ويتعرض كثير من دول منطقة الشرق الأوسط لما يشبه الخلخلة في بنيتها الأساسية بعد أن عززت تنظيمات متشددة تضم عناصر أجنبية، قدراتها القتالية في العراق وسوريا واليمن وليبيا، ومن بينها تنظيمات «داعش»، و«أنصار الشريعة»، و«أنصار الحق» وغيرها من المجموعات الموالية لتنظيم القاعدة والمتطرفين والحوثيين أيضا.
وبعد ساعات من الملل داخل الفندق، اقتنع «الدرناوي» بالخروج لاستنشاق الهواء في شارع «جامعة الدول العربية» الواسع. ويتذكر، وسط صخب السيارات، أنه منذ جاء إلى هنا أخذ ينفق من مدخراته، على نفسه وعلى المحتاجين من اللاجئين، وهو يظن أن شوكة المتشددين في «درنة» ستنكسر، وأن الحرب بين الميليشيات والجيش ستضع أوزارها، وسيعود خلال أشهر قليلة، أو في بداية عام 2014 على أكثر تقدير، لكن الاقتتال أدى لإطالة غربته.
وتآكلت مدخرات «الدرناوي»، وقال إنه ترك الفندق الفخم المطل على النيل بسبب نفقاته، حيث تبلغ الليلة الواحدة له وأسرته نحو 350 دولارا في اليوم، وانتقل إلى فندق آخر مقابل نحو 90 دولارا في اليوم.
وتعرفت زوجته على زوجات عرب آخرين، وأصبحن يتجولن معا، لقتل الوقت، أمام واجهات المحال الزجاجية المضيئة، حيث ينتشر اللاجئون الفقراء. من السهل أن تسمع في الأرجاء أصواتا لعجائز وصِبية يتسولون بلهجات عربية مختلفة.
وتتوقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن يزيد عدد اللاجئين لمصر في 2015 أيضا. وعلى سبيل المثال، كان عدد السوريين المسجلين بالمفوضية في القاهرة حتى نهاية 2014 يبلغ نحو 140 ألف سوري، وقالت إن العدد بنهاية 2015 قد يصل إلى 160 ألفا، وإن إجمالي اللاجئين لمصر من دول عربية وأفريقية مرشح للارتفاع من نحو 217 ألفا في آخر 2014 إلى 229 ألفا في آخر العام الحالي.
لكن أحد مسؤولي المفوضية يقول لـ«الشرق الأوسط» إن العدد قد يزيد على ذلك بكثير بسبب عدم تسجيل كثير من هؤلاء في سجلاتها، لافتا إلى أنه، وبشكل عام «يحصل قطاع كبير من اللاجئين العرب على الخدمات والرعاية في المؤسسات العامة المصرية، سواء الصحية أو التعليمية أو غيرها، مع ملاحظة أن مصر نفسها تعاني من مصاعب اقتصادية وما زالت في طور التحول للاستقرار السياسي».
ويخرج «الدرناوي» عن صمته، ثم يقول وكأنه كان يحلم: «لو رجعت لليبيا سأستأنف نشاطي على الفور.. سأعوض ما فات». لكن الكل يعلم أن هذا أمل ما زال بعيدا له ولغيره. وعلى سبيل المثال، ورغم الحنين، فإنه «فركاش» لا يستطيع أن يعود إلى ليبيا في الوقت الحالي، رغم أنه كان مشاركا، مثل «الدرناوي»، في ثورة «فبراير».
يقول «فركاش» وهو يخبط بكف يده على المنضدة: «سبب عدم رجوعي لليبيا ليس سياسيا، بل لأنه لا يوجد استقرار هناك، ولا يوجد عمل.. إذا أقمت هناك سأكون من دون مصدر رزق، خصوصا أنني أقيم في مصر منذ زمن».
ويضيف: «للأسف يوجد هنا ليبيون ممن يطلق عليهم في ليبيا لقب (أزلام)، وهو لقب يشبه كلمة (الفلول) بمصر، أي أنصار النظام السابق.. مثل هؤلاء كيف يعودون لليبيا. الأمر صعب في الوقت الحالي. وهناك من لا يستطيع الرجوع رغم أنه كان من المشاركين في الإطاحة بالقذافي، لأنهم منخرطون سياسيا، وأصبحوا مستهدفين (من الميليشيات المسلحة)».
ولا يخلو الحديث من التطرق، بشكل شبه يومي، لمشكلات إلحاق التلاميذ بالمدارس، ومشكلات المناهج الدراسية وما فيها من موضوعات عن نظم الحكم، سواء في المدارس الليبية أو السورية.. أو غيرها، التي تشرف عليها سفارات بلادهم، أو المدارس التي افتتحها رجال أعمال لهم توجهات سياسية مختلفة. هناك أيضا شكوى دائمة من صعوبة حركة المواصلات في العاصمة المزدحمة دائما.. هذا بالإضافة لقضايا يومية أخرى، منها تردد بعض سفارات هؤلاء في تجديد جوازات السفر الخاصة بهم خوفا من انتماءاتهم السياسية.
يقول فركاش: «طبعا مشكلات إلحاق الأولاد بالمدارس لها الأولية.. أما بالنسبة للانخراط في المجتمع القاهري، فهو أمر سهل على الأقل بالنسبة لليبيين الذين اعتادوا على هذه الأجواء حين كانوا يزورونها في السابق، لكن بطبيعة الحال حين تطول الإقامة، كما يحدث الآن، تظهر المشكلات. مثلا مصروفات المدارس في ليبيا لا تذكر، وليست بكل هذه التكلفة الموجودة في مدارس القاهرة».
أما «خالد» الهارب من جحيم الاقتتال في اليمن، فيبلغ من العمر 41 عاما وكانت لديه شركة سياحية في مبنى قريب من مقر إدارة الشؤون المعنوية للجيش اليمني الذي هجم عليه الحوثيون أثناء اجتياحهم للعاصمة أخيرا. يقول إنه شارك في الثورة ضد الرئيس علي عبد الله صالح، وكانت شركته المتخصصة في تأجير السيارات للسياح، تنقل الثوار والمؤن. ويوضح مبتسما: «ركبنا قطار الربيع العربي»، لكنه يضيف أنه عقب خروج صالح من السلطة لم تهدأ الأمور واستمرت الخسائر، وفقد الأمل في عودة الانتعاش لقطاع السياحة «بعد دخول الحوثيين على الخط».
ولجأ لمصر بصعوبة بالغة بسبب تشديد المطار إجراءات دخول اليمنيين بعد عدة حوادث إرهابية حول العالم كان مصدرها عرب وأجانب قادمون من صنعاء. ويضيف، وهو يدخن النارجيلة، على رأس شارع وادي النيل، إنه حاول أن ينقل نشاطه إلى جنوب اليمن، لكن الوضع هناك غير مستقر أيضا بسبب قلاقل يثيرها كل من تنظيم القاعدة من جانب، والحراك الداعي إلى انفصال الجنوب من جانب آخر.
ومثل أحوال شريحة العرب المقتدرين ممن لم يبادروا بالانخراط في مشروعات اقتصادية فور وصولهم لمصر، أقام «خالد» لفترة في شقة راقية في ضاحية الزمالك كان إيجارها في الشهر يبلغ نحو 1500 دولار، وكان أيضا يستقبل كل أسبوع أو أسبوعين يمنيين فارين من الاقتتال الأهلي.. «يقيمون عندي حتى يتمكنوا من تدبير أمورهم».
وحين أدرك أن أزمة بلاده مرشحة للتفاقم، بدأ يشعر بالخوف من الإفلاس، وانتقل إلى فندق صغير يقع في «المهندسين» أيضا. ويقول إنه، في البداية، كان ينفق على اليمنيين الهاربين من الدمار الذي تتعرض له صنعاء من دون حساب.. «حتى أصبحت مثل الجمعية الخيرية. طبعا هذا الحال كان مؤقتا. كنت أساعد بقدر ما أستطيع على أمل أن أعود قريبا، لكن في الوقت الحالي بالكاد يمكن أن أساعد أسرتي، بل أريد من يساعدني».
السوريون الفارون من جحيم «الربيع العربي» تمكنوا سريعا من التكيف في المجتمع المصري. لا تخلو منطقة في قلب القاهرة والإسكندرية من مطاعم الشاورما والمأكولات الشامية. يوجد بطبيعة الحال من كانت طموحاته أكبر من الواقع، مثل «سليمان» البالغ من العمر نحو 55 عاما، الذي فر من اللاذقية العام قبل الماضي. لحظِّه العاثر أن الشبان التابعين للثورة الذين كان يقدم لهم العون المالي، لم يصمدوا تحت آلة التعذيب حين أمسكهم جنود النظام السوري. واعترفوا عليه.
يقول إنه علم بأن جنود بشار يبحثون عنه، فأخذ أسرته وأمواله وهرب إلى الأردن، ثم تمكن من دخول مصر بينما ظلت زوجته وولده وابنته في عمَّان. وبعد أن عاش في ضاحية «جاردن سيتي» الراقية بإيجار باهظ، اضطر أخيرا لاستئجار شقة متواضعة في منطقة نائية قرب مدينة السادس من أكتوبر، على طريق الواحات، في جنوب غربي العاصمة.
ويتحدث سليمان، الذي كان يدير في بلده محلا للفطائر والحلويات، عن عروض كثيرة كانت أمامه لاستثمار ما معه من أموال بافتتاح محل مأكولات، لكنه كان يرفض على أمل حل أزمة بلاده والعودة لجمع شمل أسرته وفتح دكانه في اللاذقية من جديد. ويقول إن مدخراته شارفت على النفاد وإن الحرب لا تريد أن تنتهي.
معظم السوريين اللاجئين لمصر من المعادين لنظام الأسد، وغالبيتهم من ذوي التوجهات الراديكالية.. وهؤلاء تدفقوا بشكل كبير إلى هنا أثناء حكم جماعة «الإخوان» لمصر، حيث عاشوا على مساعدات الجمعيات الخيرية الإخوانية، التي كانت تقدم لهم السكن والمعيشة والمساعدات. كان مقر هذه الجمعيات يقع في مسجد الحصري بمدينة السادس من أكتوبر، ومسجد رابعة العدوية، ومسجد النور في شرق القاهرة.. وغيرها. كما أن «إخوان مصر» هم مَن ابتدعوا تزويج اللاجئات السورىات لمصريين. ووفقا للمعلومات الأمنية، كان الزواج في الأغلب من عناصر جماعة الإخوان نفسها.
«الورفلي» الذي يحتفظ بعلاقات كثيرة مع لاجئين عرب في القاهرة، منهم سوريون، يذكر أيضا أنه منذ عام 2012 وحتى مطلع 2014 (وقت حكم «الإخوان» في طرابلس)، تعهدت سفارة ليبيا في القاهرة بتعليم أبناء اللاجئين السوريين على نفقتها، في المدارس الليبية الأربع الموجودة بمصر، لمجرد أنهم تابعون لـ«الإخوان» والجماعات الأخرى، بينما حرمت أبناء الليبيين في ذلك الوقت من هذا الحق، وهم الأوْلى، حتى لو لم يكونوا من الموالين للتيارات المتشددة.
من جانبه، لا ينتمي «سليمان» لهذه الشريحة من اللاجئين بطبيعة الحال، بل يعد نفسه من السوريين الميسورين «لولا ظروف البلد». لكنه يقول إن «إخوان مصر كانوا بالفعل يقدمون مساعدات كبيرة للعائلات، لكن بتوصية من إخوان سوريا.. أما أنا فلا علاقة لي بهم لا في سوريا ولا هنا. ولم أتلق منهم أي قرش أبيض أو أسود.. (الإخوان) خربوا الثورة والبلد.. أنا سيد نفسي».
يقول أحد مسؤولي السفارة الليبية إن الوضع تغير بعد انتخاب البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، وإن مكتب شؤون النازحين بالسفارة شكل أخيرا لجنة ميدانية للوقوف على احتياجات الليبيين من دون تفرقة، بداية من تقديم مساعدات مالية لمن لا يملكون دخلا، وحتى إلحاق الطلاب الليبيين في الجامعات المصرية.
والمشكلة أن الليبيين، بخلاف اللاجئين من الدول الأخرى، لا يحصلون على المساعدات المتوقعة من الأمم المتحدة، بسبب وجود خطاب موجه من السلطات المصرية، إلى مفوضية اللاجئين، يقول إنه تجري معاملة الليبيين بمصر معاملة المواطنين المصريين، في التملك والإقامة والعمل، بناء على اتفاقية سابقة موقعة بين البلدين. ولهذا، كما يشير «الورفلي»، لم يتمكن الليبيون الذين جاءوا لمصر هربا من الاقتتال، من تسجيل أنفسهم بصفتهم لاجئين بمقر المفوضية السامية للاجئين الموجود في مدينة السادس من أكتوبر.
وبصفته رئيس اللجنة القانونية للمجلس الأعلى للقبائل العربية في ليبيا، وجهت الأمم المتحدة لـ«الورفلي» دعوة للمشاركة في الحوار في جنيف، إلا أنه رفضها، وهو ينظر لنفسه على أنه من الشريحة المتوسطة التي تعتمد على انتظار التحويلات المالية من ذويه في ليبيا، وهو أمر بات شديد الصعوبة. ولهذا شارك مع زملاء له في إنشاء جمعية بمصر للمهجرين الليبيين بمجهود ذاتي، يقع مقرها في مدينة الرحاب بجوار القاهرة.
ويقول إن رجال أعمال ليبراليين من ليبيا ومصر، ساعدوا ما يسمى بـ«ثورة فبراير»، لكن منذ سيطرة «الإخوان» على حكم ليبيا لم يتمكنوا من الاستثمار فيها أو الدخول إليها. وهذا الأمر تواجهه أيضا جمعيات حقوقية ونقابات وشخصيات سياسية من العلمانيين والليبراليين.. «كل هؤلاء أصبحوا يعضون بنان الندم على ما جرى. كل من لا ينتمي إلى توجهات الجماعة يجري استهدافه بالعزل والاغتيالات والتفجيرات».



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».