حتى أواخر العام الماضي كان رجل الأعمال الليبي، محمود علي، ابن مدينة درنة، الذي شارك في تمويل الانتفاضة المسلحة ضد حكم معمر القذافي، يقيم مع ولديه وزوجته في فندق فخم يقع في قلب القاهرة الصاخبة، لكن استمرار الفوضى والاقتتال في بلاده وطول بقائه بمصر هربا من المتطرفين، اضطره، في الأشهر الأخيرة، للإقامة في فندق آخر أقل تكلفة يقع في ضاحية المهندسين غرب العاصمة. وهو اليوم، مثل آخرين، يعض بنان الندم.
وبعد مرور نحو 4 سنوات، أصبح عدة آلاف من العرب غالبيتهم ممن تزعموا وشاركوا في إطلاق ما يعرف باسم «ثورات الربيع العربي» في مطلع 2011، يشعرون بالمرارة وهم يتابعون الأخبار الفاجعة عن بلدانهم من مقار إقاماتهم الجديدة بعيدا عن أوطانهم. ويتركز أكثر هؤلاء في مصر التي تحولت إلى الهدوء والاستقرار سريعا بعد إسقاط الرئيسين السابقين حسني مبارك ومحمد مرسي.
كما لجأ آلاف آخرون لدول مثل تونس والأردن وتركيا. ويقول عمرو فركاش، المدير التنفيذي في شركة «أويا» للاستثمارات الليبية، الذي يقيم في الوقت الحالي بمصر، بعد أن شارك في ثورة «17 فبراير (شباط)» لإسقاط القذافي، إن كثيرا من الليبيين ممن لديهم قدرة مالية، بدأوا في تقليل الإنفاق المالي، بعد أن اكتشفوا أنهم ربما لن يعودوا قريبا إلى وطنهم.
ويضيف فركاش لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لرجل من مثل هذه الشريحة من المواطنين، أي ذلك الذي اعتمد على مدخراته حين جاء لمصر، فإن لديه أموالا.. نعم، لكنه اضطر أخيرا لتغيير أولوياته في الإنفاق، لأنه لا يعرف متى سيعود، إن كان بعد سنة أو غيره، وبدلا من أن يقيم في فيلا ذات طابقين، أصبح يبحث عن شقة متواضعة».
أما بالنسبة لرجل الأعمال، محمود، الذي يطلق عليه أصدقاؤه العرب بمصر، «الدرناوي» نسبة لمدينته، فقد كان يدير فرعا لشركة استيراد في تلك المدينة الصغيرة التي سيطر عليها تنظيم داعش في شرق ليبيا، وحاول نقل نشاطه إلى مدينة بنغازي لكنها هي الأخرى لم تسلم من الاقتتال، إلى أن حط الرحال في القاهرة. وهو ينتظر منذ شهرين أن يبعث له والده بمساعدة مالية، لكنه يقول إن تحويل الأموال من ليبيا أصبح صعب المنال. ثم يتابع، على الشاشة التلفزيونية في بهو الفندق، تطورات الاقتتال في بلاده بذهن شارد.
هذا النوع من الوافدين، أي الأثرياء الذين لم يستثمروا أموالهم هنا انتظارا للعودة لبلادهم، يشكون، من دون صوت، من اقتراب نفاذ مدخراتهم بمرور الأيام. وبعد أن كانوا يقيمون في فنادق وفيلات فخمة، أصبح من السهل أن تتعثر في بعضٍ منهم وهم يهيمون على وجوههم بين منتديات الطبقات الدنيا، وفنادق الدرجة الثالثة، وبعض الضواحي الشعبية، في انتظار المجهول.
وتكشف مصادر أمنية مصرية لـ«الشرق الأوسط» عن أن جماعة الإخوان المسلمين حين وصلت للحكم في كل من القاهرة وطرابلس عامي 2012 و2013، شجعت على فتح باب اللجوء لمصر أمام أعداد كبيرة من ذوي المقاتلين المتطرفين من السوريين والليبيين، مشيرة إلى أن «التنظيم الدولي للجماعة» بالتعاون مع «إخوان مصر» وأطراف كانت تعمل في السفارة الليبية في القاهرة خصصت، خلال تلك الفترة، ملايين الدولارات لمساعدة ذوي المقاتلين المتشددين الفارين لمصر وتجاهلت باقي اللاجئين الذين لا ينتمون للإخوان أو التيار المتطرف.
الفارون العراقيون من نيران الحرب كانوا يشكلون الأغلبية في الضواحي المحيطة بالقاهرة، حتى 5 سنوات خلت، لكن التنافس على استئجار الشقق هنا أصبح ينحصر غالبا في الليبيين والسوريين، ولحق بهم اليمنيون أيضا بعد اجتياح الحوثيين صنعاء.
ويضيف مسؤول حكومي مختص بشؤون الوافدين بالقاهرة، أن غالبية اللاجئين العرب تتشكل من 3 طبقات، الأكثرية منهم أصبحوا يزاحمون حاليا الفلسطينيين والأفارقة على أبواب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. والطبقة المتوسطة، وهي خليط من موظفين سابقين فارين من الاقتتال في بلدانهم. وطبقة الأثرياء ومعظمها من الليبيين.
لكن بالنسبة لمن يعيش على مدخراته فقط، مثل «الدرناوي»، فقد أصبح يواجه شبح الإفلاس والسقوط في هاوية العوز والحاجة. ويقول السيد «فركاش»، وهو في العقد الثالث من العمر: «هؤلاء.. لم يكن أي منهم يتخيل أن أمد الأزمة في بلاده سيطول». ويضيف: «لكن يوجد ليبيون تمكنوا، بعد قدومهم لمصر، من وضع أموالهم في مشاريع مختلفة»، مشيرا إلى أن «السوريين يمكن أن يكونوا منافسا قويا لليبيين».
لم يتمكن «الدرناوي» من الاستثمار في أي مجال، لأنه، مثل آخرين، ترك الأيام تمر على «أمل لم يتحقق». وتعرَّف في مقر إقامته الجديد بالفندق في شارع شهاب بضاحية المهندسين على نحو 10 من اللاجئين العرب، من بينهم يمني اسمه «خالد» هرب من صنعاء حين دخلها الحوثيون قبل شهرين، وسوري يدعى «سليمان» فر من تهديدات نظام بشار الأسد.
وأصبح بين «الدرناوي» و«خالد» و«سليمان» وآخرين من المقيمين هنا، مواعيد للقاء في البهو الواسع الموجود في الطابق الأرضي، حيث يمكن شرب العصائر وتناول الوجبات ومشاهدة نشرات الأخبار حينا، ومشاهدة قنوات كرة القدم الأوروبية لتغيير المزاج حينا آخر. وحين يضربهم الضجر يخرجون للتمشية على أرصفة القاهرة المزدحمة، حيث يقابلون زملاء لهم في مقاهي شارع جامعة الدول العربية.
وعلى أحد المنتديات المجاورة يمضي محمد الورفلي، الذي يرأس اللجنة القانونية بالمجلس الأعلى للقبائل العربية في ليبيا، أمسياته القاهرية، وهو يتابع أحوال اللاجئين من بلاده ومن بلاد عربية أخرى. ويقول «الورفلي» الذي يرفض الاعتراف بـ«ثورة فبراير»، متحدثا لـ«الشرق الأوسط» إن الجالية الليبية هنا تنقسم إلى قسمين من ناحية القدرة المادية.. قسم لديه أموال وحالته ميسورة، ويقوم بالاستثمار في مجالات استهلاكية وعقارية.
البعض من هؤلاء اشترى فنادق في «شرم الشيخ» و«الغردقة» و«العين السخنة»، إضافة لامتلاك مزارع على طريق السويس وطريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوي، وكذا في محافظتي الفيوم والبحيرة. معظم أبناء هذا القسم يعيشون في مساكن مملوكة لهم في أماكن راقية بالعاصمة وبالقرب منها مثل «الرحاب» و«مدينة نصر» و«الشيخ زايد» و«أكتوبر».
أما القسم الثاني من الجالية الليبية فيضم شريحة الطبقة الوسطى «التي تعتمد غالبيتها، خلال إقامتها التي طالت في مصر، على تحويلات مالية تأتيها من أسرها وأقاربها في ليبيا. وهذه الطبقة تشكو من الضائقة المالية في الوقت الحالي». ويقول «الورفلي»، وهو في العقد الخامس من العمر، إن هؤلاء أصبحوا يواجهون حياة صعبة بالفعل، بعد أن توقفت التحويلات المالية من ليبيا منذ سقوط العاصمة طرابلس في أيدي المجموعات المسلحة الصيف الماضي.
كان يجري تحويل الأموال للاجئين الليبيين بمصر من ذويهم في ليبيا عن طريق مكاتب «ويسترن يونيون» أو من خلال البنوك. لكن «الورفلي» يقول إن «كل هذا توقف.. كما توقفت الرحلات الجوية أيضا، بعد أن كان البعض من أقارب المقيمين بمصر يأتي لهم من ليبيا بالأموال نقدا، كل شهرين أو 4 أشهر، لمساعدتهم في المعيشة هنا».
ويجري «الدرناوي» اتصالا بأسرته في طبرق لكي تحول له أموالا جديدة، لكن هذا لم يعد ميسورا. ويجيبه والده من الطرف الآخر عبر الهاتف: «الله غالب». ولم يكن «الدرناوي»، البالغ من العمر 43 عاما، يتخيل هذا السيناريو لحياته. فقد تخرج قبل 15 سنة في قسم الآداب بجامعة بنغازي، لكنه يمتلك عقلية اقتصادية فطرية، وينتمي لقبيلة العشيبات المشهورة بحب التجارة.
كان يكره حكم القذافي بسبب نظام تأسيس الشركات الليبية الخاصة الذي كان متبعا في ذلك العهد. ولهذا عمل لبعض الوقت في «تشاركية تجارية» تشرف عليها الدولة، إلى أن أسس شركته الخاصة بعد مقتل القذافي، رغم أنه لم يكن قد جرى بعد تعديل القوانين الاقتصادية القديمة. وأخيرا، كما يقول، «استولى متطرفو درنة على شركتي بكل ما فيها». ويضيف: «نصحني أبي، منذ البداية، أن أترك درنة وأن أنقل الشركة إلى طبرق، لكنني كنت أقول إن الأحوال ستتحسن، وإن الفوضى لا يمكن أن تستمر. لم أكن أدرك أن الأمور تتغير سريعا، وأن من كانوا رفاقا بالأمس سيستحلون حرمة مالي ويتحولون اليوم إلى أعداء».
ومثل كثيرين تحمسوا لثورات الربيع العربي، ساعد هذا الشاب المعارضين المتشددين بعد عودتهم من القتال في أفغانستان وباكستان والشيشان والعراق، إلى درنة، ومن أشهر هؤلاء عبد الحكيم الحصادي الذي أمضى 7 سنوات مع الأفغان في «كابل» و«جلال آباد» و«خوست».
ويقول: «ما يحزنني أنني كنت أعتقد أنهم قادرون على إصلاح حال ليبيا إذا تخلصنا من القذافي. حين بدأت الثورة لم أبخل عليهم.. خصصت للثوار، مع عائلتي، 5 سيارات دفع رباعي، وخصصنا لهم، عبر شهور على الجبهة الشرقية لبنغازي، أطنانا من المؤن الغذائية ومياه الشرب».
في ذلك الوقت اتهم القذافي تنظيم القاعدة والمتطرفين بتأجيج العمليات المسلحة ضد حكمه. ويتذكر «الدرناوي» قائلا إن هذا الأمر كان يتردد كثيرا حينها، وأن القادة الذين حولوا درنة اليوم إلى إمارة برايات سوداء، كانوا يقولون لنا أثناء الثورة، إنهم يقفون مع مطالب الشعب في الديمقراطية والحرية والعدالة.. «كل هذا تبخر، وقالوا الديمقراطية كفر!».
وفر من ليبيا إلى دول أخرى، مئات الآلاف، وفقا لتقديرات غير رسمية. ويتعرض كثير من دول منطقة الشرق الأوسط لما يشبه الخلخلة في بنيتها الأساسية بعد أن عززت تنظيمات متشددة تضم عناصر أجنبية، قدراتها القتالية في العراق وسوريا واليمن وليبيا، ومن بينها تنظيمات «داعش»، و«أنصار الشريعة»، و«أنصار الحق» وغيرها من المجموعات الموالية لتنظيم القاعدة والمتطرفين والحوثيين أيضا.
وبعد ساعات من الملل داخل الفندق، اقتنع «الدرناوي» بالخروج لاستنشاق الهواء في شارع «جامعة الدول العربية» الواسع. ويتذكر، وسط صخب السيارات، أنه منذ جاء إلى هنا أخذ ينفق من مدخراته، على نفسه وعلى المحتاجين من اللاجئين، وهو يظن أن شوكة المتشددين في «درنة» ستنكسر، وأن الحرب بين الميليشيات والجيش ستضع أوزارها، وسيعود خلال أشهر قليلة، أو في بداية عام 2014 على أكثر تقدير، لكن الاقتتال أدى لإطالة غربته.
وتآكلت مدخرات «الدرناوي»، وقال إنه ترك الفندق الفخم المطل على النيل بسبب نفقاته، حيث تبلغ الليلة الواحدة له وأسرته نحو 350 دولارا في اليوم، وانتقل إلى فندق آخر مقابل نحو 90 دولارا في اليوم.
وتعرفت زوجته على زوجات عرب آخرين، وأصبحن يتجولن معا، لقتل الوقت، أمام واجهات المحال الزجاجية المضيئة، حيث ينتشر اللاجئون الفقراء. من السهل أن تسمع في الأرجاء أصواتا لعجائز وصِبية يتسولون بلهجات عربية مختلفة.
وتتوقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن يزيد عدد اللاجئين لمصر في 2015 أيضا. وعلى سبيل المثال، كان عدد السوريين المسجلين بالمفوضية في القاهرة حتى نهاية 2014 يبلغ نحو 140 ألف سوري، وقالت إن العدد بنهاية 2015 قد يصل إلى 160 ألفا، وإن إجمالي اللاجئين لمصر من دول عربية وأفريقية مرشح للارتفاع من نحو 217 ألفا في آخر 2014 إلى 229 ألفا في آخر العام الحالي.
لكن أحد مسؤولي المفوضية يقول لـ«الشرق الأوسط» إن العدد قد يزيد على ذلك بكثير بسبب عدم تسجيل كثير من هؤلاء في سجلاتها، لافتا إلى أنه، وبشكل عام «يحصل قطاع كبير من اللاجئين العرب على الخدمات والرعاية في المؤسسات العامة المصرية، سواء الصحية أو التعليمية أو غيرها، مع ملاحظة أن مصر نفسها تعاني من مصاعب اقتصادية وما زالت في طور التحول للاستقرار السياسي».
ويخرج «الدرناوي» عن صمته، ثم يقول وكأنه كان يحلم: «لو رجعت لليبيا سأستأنف نشاطي على الفور.. سأعوض ما فات». لكن الكل يعلم أن هذا أمل ما زال بعيدا له ولغيره. وعلى سبيل المثال، ورغم الحنين، فإنه «فركاش» لا يستطيع أن يعود إلى ليبيا في الوقت الحالي، رغم أنه كان مشاركا، مثل «الدرناوي»، في ثورة «فبراير».
يقول «فركاش» وهو يخبط بكف يده على المنضدة: «سبب عدم رجوعي لليبيا ليس سياسيا، بل لأنه لا يوجد استقرار هناك، ولا يوجد عمل.. إذا أقمت هناك سأكون من دون مصدر رزق، خصوصا أنني أقيم في مصر منذ زمن».
ويضيف: «للأسف يوجد هنا ليبيون ممن يطلق عليهم في ليبيا لقب (أزلام)، وهو لقب يشبه كلمة (الفلول) بمصر، أي أنصار النظام السابق.. مثل هؤلاء كيف يعودون لليبيا. الأمر صعب في الوقت الحالي. وهناك من لا يستطيع الرجوع رغم أنه كان من المشاركين في الإطاحة بالقذافي، لأنهم منخرطون سياسيا، وأصبحوا مستهدفين (من الميليشيات المسلحة)».
ولا يخلو الحديث من التطرق، بشكل شبه يومي، لمشكلات إلحاق التلاميذ بالمدارس، ومشكلات المناهج الدراسية وما فيها من موضوعات عن نظم الحكم، سواء في المدارس الليبية أو السورية.. أو غيرها، التي تشرف عليها سفارات بلادهم، أو المدارس التي افتتحها رجال أعمال لهم توجهات سياسية مختلفة. هناك أيضا شكوى دائمة من صعوبة حركة المواصلات في العاصمة المزدحمة دائما.. هذا بالإضافة لقضايا يومية أخرى، منها تردد بعض سفارات هؤلاء في تجديد جوازات السفر الخاصة بهم خوفا من انتماءاتهم السياسية.
يقول فركاش: «طبعا مشكلات إلحاق الأولاد بالمدارس لها الأولية.. أما بالنسبة للانخراط في المجتمع القاهري، فهو أمر سهل على الأقل بالنسبة لليبيين الذين اعتادوا على هذه الأجواء حين كانوا يزورونها في السابق، لكن بطبيعة الحال حين تطول الإقامة، كما يحدث الآن، تظهر المشكلات. مثلا مصروفات المدارس في ليبيا لا تذكر، وليست بكل هذه التكلفة الموجودة في مدارس القاهرة».
أما «خالد» الهارب من جحيم الاقتتال في اليمن، فيبلغ من العمر 41 عاما وكانت لديه شركة سياحية في مبنى قريب من مقر إدارة الشؤون المعنوية للجيش اليمني الذي هجم عليه الحوثيون أثناء اجتياحهم للعاصمة أخيرا. يقول إنه شارك في الثورة ضد الرئيس علي عبد الله صالح، وكانت شركته المتخصصة في تأجير السيارات للسياح، تنقل الثوار والمؤن. ويوضح مبتسما: «ركبنا قطار الربيع العربي»، لكنه يضيف أنه عقب خروج صالح من السلطة لم تهدأ الأمور واستمرت الخسائر، وفقد الأمل في عودة الانتعاش لقطاع السياحة «بعد دخول الحوثيين على الخط».
ولجأ لمصر بصعوبة بالغة بسبب تشديد المطار إجراءات دخول اليمنيين بعد عدة حوادث إرهابية حول العالم كان مصدرها عرب وأجانب قادمون من صنعاء. ويضيف، وهو يدخن النارجيلة، على رأس شارع وادي النيل، إنه حاول أن ينقل نشاطه إلى جنوب اليمن، لكن الوضع هناك غير مستقر أيضا بسبب قلاقل يثيرها كل من تنظيم القاعدة من جانب، والحراك الداعي إلى انفصال الجنوب من جانب آخر.
ومثل أحوال شريحة العرب المقتدرين ممن لم يبادروا بالانخراط في مشروعات اقتصادية فور وصولهم لمصر، أقام «خالد» لفترة في شقة راقية في ضاحية الزمالك كان إيجارها في الشهر يبلغ نحو 1500 دولار، وكان أيضا يستقبل كل أسبوع أو أسبوعين يمنيين فارين من الاقتتال الأهلي.. «يقيمون عندي حتى يتمكنوا من تدبير أمورهم».
وحين أدرك أن أزمة بلاده مرشحة للتفاقم، بدأ يشعر بالخوف من الإفلاس، وانتقل إلى فندق صغير يقع في «المهندسين» أيضا. ويقول إنه، في البداية، كان ينفق على اليمنيين الهاربين من الدمار الذي تتعرض له صنعاء من دون حساب.. «حتى أصبحت مثل الجمعية الخيرية. طبعا هذا الحال كان مؤقتا. كنت أساعد بقدر ما أستطيع على أمل أن أعود قريبا، لكن في الوقت الحالي بالكاد يمكن أن أساعد أسرتي، بل أريد من يساعدني».
السوريون الفارون من جحيم «الربيع العربي» تمكنوا سريعا من التكيف في المجتمع المصري. لا تخلو منطقة في قلب القاهرة والإسكندرية من مطاعم الشاورما والمأكولات الشامية. يوجد بطبيعة الحال من كانت طموحاته أكبر من الواقع، مثل «سليمان» البالغ من العمر نحو 55 عاما، الذي فر من اللاذقية العام قبل الماضي. لحظِّه العاثر أن الشبان التابعين للثورة الذين كان يقدم لهم العون المالي، لم يصمدوا تحت آلة التعذيب حين أمسكهم جنود النظام السوري. واعترفوا عليه.
يقول إنه علم بأن جنود بشار يبحثون عنه، فأخذ أسرته وأمواله وهرب إلى الأردن، ثم تمكن من دخول مصر بينما ظلت زوجته وولده وابنته في عمَّان. وبعد أن عاش في ضاحية «جاردن سيتي» الراقية بإيجار باهظ، اضطر أخيرا لاستئجار شقة متواضعة في منطقة نائية قرب مدينة السادس من أكتوبر، على طريق الواحات، في جنوب غربي العاصمة.
ويتحدث سليمان، الذي كان يدير في بلده محلا للفطائر والحلويات، عن عروض كثيرة كانت أمامه لاستثمار ما معه من أموال بافتتاح محل مأكولات، لكنه كان يرفض على أمل حل أزمة بلاده والعودة لجمع شمل أسرته وفتح دكانه في اللاذقية من جديد. ويقول إن مدخراته شارفت على النفاد وإن الحرب لا تريد أن تنتهي.
معظم السوريين اللاجئين لمصر من المعادين لنظام الأسد، وغالبيتهم من ذوي التوجهات الراديكالية.. وهؤلاء تدفقوا بشكل كبير إلى هنا أثناء حكم جماعة «الإخوان» لمصر، حيث عاشوا على مساعدات الجمعيات الخيرية الإخوانية، التي كانت تقدم لهم السكن والمعيشة والمساعدات. كان مقر هذه الجمعيات يقع في مسجد الحصري بمدينة السادس من أكتوبر، ومسجد رابعة العدوية، ومسجد النور في شرق القاهرة.. وغيرها. كما أن «إخوان مصر» هم مَن ابتدعوا تزويج اللاجئات السورىات لمصريين. ووفقا للمعلومات الأمنية، كان الزواج في الأغلب من عناصر جماعة الإخوان نفسها.
«الورفلي» الذي يحتفظ بعلاقات كثيرة مع لاجئين عرب في القاهرة، منهم سوريون، يذكر أيضا أنه منذ عام 2012 وحتى مطلع 2014 (وقت حكم «الإخوان» في طرابلس)، تعهدت سفارة ليبيا في القاهرة بتعليم أبناء اللاجئين السوريين على نفقتها، في المدارس الليبية الأربع الموجودة بمصر، لمجرد أنهم تابعون لـ«الإخوان» والجماعات الأخرى، بينما حرمت أبناء الليبيين في ذلك الوقت من هذا الحق، وهم الأوْلى، حتى لو لم يكونوا من الموالين للتيارات المتشددة.
من جانبه، لا ينتمي «سليمان» لهذه الشريحة من اللاجئين بطبيعة الحال، بل يعد نفسه من السوريين الميسورين «لولا ظروف البلد». لكنه يقول إن «إخوان مصر كانوا بالفعل يقدمون مساعدات كبيرة للعائلات، لكن بتوصية من إخوان سوريا.. أما أنا فلا علاقة لي بهم لا في سوريا ولا هنا. ولم أتلق منهم أي قرش أبيض أو أسود.. (الإخوان) خربوا الثورة والبلد.. أنا سيد نفسي».
يقول أحد مسؤولي السفارة الليبية إن الوضع تغير بعد انتخاب البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، وإن مكتب شؤون النازحين بالسفارة شكل أخيرا لجنة ميدانية للوقوف على احتياجات الليبيين من دون تفرقة، بداية من تقديم مساعدات مالية لمن لا يملكون دخلا، وحتى إلحاق الطلاب الليبيين في الجامعات المصرية.
والمشكلة أن الليبيين، بخلاف اللاجئين من الدول الأخرى، لا يحصلون على المساعدات المتوقعة من الأمم المتحدة، بسبب وجود خطاب موجه من السلطات المصرية، إلى مفوضية اللاجئين، يقول إنه تجري معاملة الليبيين بمصر معاملة المواطنين المصريين، في التملك والإقامة والعمل، بناء على اتفاقية سابقة موقعة بين البلدين. ولهذا، كما يشير «الورفلي»، لم يتمكن الليبيون الذين جاءوا لمصر هربا من الاقتتال، من تسجيل أنفسهم بصفتهم لاجئين بمقر المفوضية السامية للاجئين الموجود في مدينة السادس من أكتوبر.
وبصفته رئيس اللجنة القانونية للمجلس الأعلى للقبائل العربية في ليبيا، وجهت الأمم المتحدة لـ«الورفلي» دعوة للمشاركة في الحوار في جنيف، إلا أنه رفضها، وهو ينظر لنفسه على أنه من الشريحة المتوسطة التي تعتمد على انتظار التحويلات المالية من ذويه في ليبيا، وهو أمر بات شديد الصعوبة. ولهذا شارك مع زملاء له في إنشاء جمعية بمصر للمهجرين الليبيين بمجهود ذاتي، يقع مقرها في مدينة الرحاب بجوار القاهرة.
ويقول إن رجال أعمال ليبراليين من ليبيا ومصر، ساعدوا ما يسمى بـ«ثورة فبراير»، لكن منذ سيطرة «الإخوان» على حكم ليبيا لم يتمكنوا من الاستثمار فيها أو الدخول إليها. وهذا الأمر تواجهه أيضا جمعيات حقوقية ونقابات وشخصيات سياسية من العلمانيين والليبراليين.. «كل هؤلاء أصبحوا يعضون بنان الندم على ما جرى. كل من لا ينتمي إلى توجهات الجماعة يجري استهدافه بالعزل والاغتيالات والتفجيرات».
ضحايا «الربيع العربي» يهيمون في مصر بحثا عن مستقبل
بينهم ليبيون وسوريون ويمنيون.. وبعضهم ساند «ثوار» بنغازي وصنعاء واللاذقية
ضحايا «الربيع العربي» يهيمون في مصر بحثا عن مستقبل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة