* الفيلم: «الإذلال» (The Humbling)
إخراج: باري ليفنسون
تمثيل: آل باتشينو، غريتا غرويك، دايان وايست، تشارلز غرودين.
تقييم الناقد: (* 3)
يبدأ «الإذلال» مثل بداية «بيردمان»: الممثل يناجي نفسه. لكن في حين أن المناجي في فيلم أليخاندرو غونزاليس إيناريتو هو الصوت الآتي تعبيرا عن ماضي الممثل، فإنه هنا تعبير عن صوته في الحاضر وهو يلقي نظرة على الماضي. في كليهما يحث صاحبه أن ينفض عنه الأمس ويقدم على الالتحاق بالحاضر، وأن يغض عن الفن ويخطو في العصرنة التجارية. النظر إلى المسيرة المتألّقة كوضع غير قابل للعيش أبدا والطلب من صاحب الصوت أن يصوغ نفسه كشخص جديد غير متمسّك بماضيه متشابه وإن اختلفت النوتات الموسيقية بين وضع وآخر.
في الحقيقة من المهم إلى حد كبير أن كلا الفيلمين يتناول الموضوع العريض ذاته، لكن كل بحكاية مختلفة. فيلم «الإذلال» مأخوذ عن رواية لفيليب روث. في مطلع الفيلم يوزع المخرج صورة ممثله الأول باتشينو على مرايتين وأصل واحد. الكاميرا من مرآة سفلية ثم ترتفع لمرآة تواجه سايمون أكسلر (باتشينو) ثم حركة «بان» قصيرة للوجه الأصلي وهو يتحدّث لنفسه. خلال الحديث يبدو منشغلا في تعريف التمثيل لنفسه وكيف يحضّر له. ثم إذ ينطلق إلى منصّة المسرح بعد ذلك يبدأ في لعب الدور. هنا يقع أمر لافت آخر: يلقي بنفسه من حافة المنصّة إلى أرض الصالة، وكان مايكل كيتون شهر مسدّسا حقيقيا وأطلق النار وأصاب أنفه خلال لعب دوره في المسرحية، ولو أن هذا المشهد جاء في النهاية وليس في البداية.
بالنسبة لسايمون فإن هذا الفعل كان إشارة لقراره وقف التمثيل، عندما دخلت باغين (غرويك) حياته. كان على علاقة غرامية بأمها (دايان وايست) قبل عقدين من السنين. الآن ها هي ابنتها تبوح له بأشكال شتّى بأنها تتمنّى العيش معه. لكنها ليست امرأة من دون مشكلة: إنها مثلية ولو أنها تبحث عن بديل مستقيم. التباعد الشديد من ناحية العمر بين الاثنين ليس مشكلة لديها. سايمون سيحاول مطارحتها الغرام لكنه سيفشل. وهذا كله في الوقت الذي تلاحقه فيه مريضة نفسية اسمها سيبيل (نينا أرياندا) طالبة منه قتل زوجها ومتمسّكة باختيارها له لتنفيذ الجريمة لأنه «ممثل».
يبدأ الفيلم من مستوى عال. لباري ليفنسون حب السرد الناعم والواضح، لكن ذلك لا يعني أنه فيلم سهل البلوغ أو سريع التفاعل مع الجمهور. في الحقيقة بعد نصف ساعة نجد الفيلم وهو مضطر لتكرار بعض ما جسّده من قبل من معطيات. لكن إذا ما كان منتصف الفيلم منخفضا دراميا، وملكية المخرج لما يود تقديمه تتأثر بميلودرامية المواقف، فإن الفيلم يعاود الوقوف على قدميه سريعا من بعد عندما يقبل الممثل العودة إلى المسرح لتمثيل شخصية الملك لير في اقتباس عصري. ما يحدث على المسرح مهم لأنه متّصل بما حدث في حياته وما آلت إليه تلك العلاقة غير المكتملة مع امرأة شابّة ما زالت في حال نزاع بين رغباتها. سايمون أراد أن يصنع منها امرأة كاملة (حسب قوله) وما إن نجح قليلا حتى فقدت توازنها وتمنّعت. لكن تمنّعها وخروجها من حياته عصف به أيضا وجعله في النهاية يفكر في أن يكون «الملك لير» آخر أنفاسه.
.. وباتشينو عاشقا
* الفيلم: «مانغلهورن» (Manglehorn)
إخراج: ديفيد غوردون غرين
تمثيل: آل باتشينو، هولي هنتر، هارموني كورين.
تقييم: (* 3)
آل باتشينو هنا لا يختلف عن باتشينو في الفيلم أعلاه. ليس فقط من حيث الملامح التي لا تتغير طبعا، ولا حتى بالنسبة لرونق عمله وعملقة تجربته، بل أيضا لناحية تمثيل شخصية تقف عند ذلك المفترق القاسي بين الأمس واليوم ومن دون مستقبل.
إنه مانغلهورن: يملك محل صنع مفاتيح. كان متزوجا من امرأة لا يحبها وأنجب منها ابنه جاكوب (كريس ماسينا) الذي ما إن نضج حتى بدأ العمل مضاربا في البورصة. لكن مانغلهورن لا يعيش في يومه الحاضر إلا من حيث الوجود البدني. في الواقع يكره الحاضر ويكره الناس المحيطين به. لقد سطا الأمس عليه كما سطا عليه في «الإذلال» ولو لسبب مختلف: كان يحب امرأة اسمها كلارا وخسرها لخطأ يذكره عابرا ولا يتحدث فيه. يكرر أن كلارا كانت الفرصة التي بحث عنها وحين وجدها أخفق في احتوائها. خسرها وهو لا يزال يعاني من وطأة تلك الخسارة. هولي هنتر تلعب دور موظّفة المصرف المستعدة للعب دور الحبيبة فهي معجبة به، لكن مانغلهورن متمسّك بكلارا التي لم يعد هناك وجود لها والتي يرسل لها يوميا الخطابات ويوميا ما تعاد إليه فيخرجها من صندوق البريد ويضمّها إلى عشرات الرسائل في غرفة صغيرة.
«مانغلهورن» ليس فيلم متساويا في توزيع أحداثه ولا في ترميم غاياته. هناك حكاية ليست مهمّة إلا من حيث أن المراد منها لا يتحقق. وهي حكاية حبّه لقطة ابتلعت مفتاحا. واللقاء بينه وبين موظّفة المصرف كان يمكن له ألا يقع. رجل مثله كان سيرغب في تجنّبه لأنه لا يريد التملّص من ماضيه والوقوف على مشارف علاقة جديدة. قيام المخرج بتصوير اللقاء دافئا في البداية ثم باردا وقاسيا في النهاية يطيح بقيمته. إلى ذلك، علاقته مع ابنه لا تحمل الكلمات الصحيحة للتعبير عنها. كلاهما يتحدّث على خط مختلف، لكن إذا ما كان هذا مقصودا فإن القليل من النجاح تحقق على صعيد منطقيّة العلاقة أو صدقها. وحين يخطو مانغلهورن ليخرج من الماضي ساعيا للعيش في الحاضر قبل نهاية الأوان فإن ذلك لا يتواكب جيدا مع كل المعطيات السابقة.
ما هو جيّد في هذا هو العنصر البصري. اختيارات المخرج من المشاهد الرمزية وطريقته في المزج بين اللقطات لخلق حالة وجدانية لا بأس بها. لكن هذا يتحوّل إلى تفاصيل للأسف، لأن المخرج يأتي بما يحتاجه من أحداث يملأ بها الفيلم من دون أن تكون لديه قصّة كاملة. من دونها لا يثير الفيلم ما يكفي من الفضول ولو أنه في الوقت ذاته لا يسقط في أي ملل أو ركاكة.
* المجتمع الإيراني على دواليب
الفيلم: «حكايات» Tales
إخراج: رخشان بني اعتماد
تمثيل: فاطمة معتمد، بيمان معادي، باران كوشاري، فرهد أصلاني.
تقييم: (* 3)
لا علم لهذا الناقد بالسبب الذي من أجله رأينا ولا نزال هوس المخرجين الإيرانيين بالتصوير داخل السيارات والباصات. من «البالون الأحمر» إلى «الدائرة» ومن «خمسة» إلى هذا الفيلم، مرورا بأعمال كثيرة أخرى، يقوم المخرجون بالتصوير في داخل سيارة (وغالبا هي تاكسي) أو في داخل حافلة (قد تكون حافلة للأجرة أيضا).
في فيلم الممثلة والمخرج رخشان بني اعتماد «حكايات» عدّة، قصص ثلاث منها تقع فوق العجلات الأربع، بما في ذلك الحكايتان الأولى والأخيرة. هل لأن التصوير تحت سقف المركبة هو بمثابة وضع داخلي يمكن البوح به على نحو آمن، أكثر من التصوير في الشوارع؟ ربما. الفيلم المذكور تم تصويره على مراحل تفاديا للفت نظر النظام الإيراني ثم تم تجميع هذه الحكايات تحت مظلّة واحدة. كل حكاية تكشف عن جوانب اجتماعية قد يعتبرها النظام مسيئة (حكايات عن النساء اللواتي يعانين من اغتصاب حقوقهن والرجال العنيفين والفساد الإداري الذي يطال الجنسين)، لكن الفيلم في نهاية أمره ليس منتقدا لدرجة المعاداة. والفيلم لم يمر بفلتر العلاقات الخاصة بين السينمائية بني اعتماد والمهرجان الدولي، بل سمحت به الدولة.
التصفيق الكبير الذي حصده الفيلم في نهايته (لخمس دقائق) هو تحية أوروبية لامرأة عرفت بأعمالها المؤيدة لحقوق المرأة والتي تسرد هنا، بين الحكايات، بعض تلك القصص التي تكشف عن هذا الضغط الذي تعيشه المرأة هناك. مهما يكن، حقيقة أن الفيلم خرج برضا النظام يدل على قدر من الحرية الآنية التي يبدو أن السُلطة في ذلك البلد بدأت توفّرها.
ذلك التصفيق ربما كان عاطفيا بدوره. الأوروبيون لا يجدون إشكالا في الإعجاب بأفلام تدور داخل السيارات مهما تشابهت، ولا بأفلام تتألف سيناريوهاتها من سطور حوار لا تنتهي. هناك أداء طبيعي جيد من قبل الجميع والحكايات تنسج من بعضها البعض. شخصيات من كل حكاية تدلف إلى الحكاية الأخرى. فالأم في الحكاية الأولى (غولاب أدينه) التي نرى فيها ابنها (حبيب رضائي) يلتقي، خلال عمله كسائق تاكسي، بالجارة المختفية (مهرافا شريفينيا) وقد تحوّلت إلى عاهرة، لديها مشكلة إدارية تبدأ في الحكاية الرابعة عندما يواجه موظف أمضى ثلاثين سنة من العمل مديرا فاسدا يمضي الوقت في الحديث مع زوجته حول ما أعدته من طعام ويرفض أن يمنحه الوقت والاهتمام الذي يطلبه لعرض حالته. بعد عرض المزيد من الحكايات بشخصيات تنتقل هنا وهناك (لتشكل النسيج الاجتماعي بمراميه النقدية) نصل إلى الحكاية الأخيرة التي تدور في حافلة بين السائق وموظفة في جمعية تنقل مريضة لمنزلها.
كل ما يمت للمواضيع المطروحة كان يمكن تلخيصه بكلمات أقل، وبصور أكثر. المفقود هو نسيج فني وجدناه مفقودا أيضا في فيلم محسن مخملباف «الرئيس»، ولو أن الموضوع هناك لم يفتقد إلى التنويع البصري بل إلى التوليف الأجدى.