«منذ بداية العام، سمعنا أن البرازيل ليست في وضع يسمح لها باستضافة كأس العالم أو يضمن الأمن وحالة البنية الأساسية. وما رأيناه هو أن البرازيل أنشأت الاستادات والبنية الأساسية والسياسة الأمنية الفيدرالية».. هكذا جاء رد ديلما روسيف على المنتقدين الذين علا صوتهم على مدار الشهور الماضية مؤكدين قلقهم من تنظيم باهت وربما فاشل لمونديال 2014.
لقد نجحت البرازيل في استضافة النسخة العشرين من العرس الكروي العالمي رغم الشكوك التي فرضت نفسها قبيل انطلاق البطولة بسبب تأخر الأعمال في الملاعب والمظاهرات والإضرابات المطلبية، لكنها أخفقت على أرضية الملعب شر إخفاق بعدما تلقت أسوأ هزيمة في تاريخ مشاركاتها في كأس العالم بخسارتها في الدور نصف النهائي 1 - 7 أمام ألمانيا التي ظهرت في هذه المباراة وكأنها البرازيل بأفضل حالاتها بفضل أسلوبها الهجومي السلس والقاتل في آن معا. وزاد من مرارة أصحاب الأرض تلقي الفريق هزيمة جديدة بثلاثية أمام هولندا في مباراة تحديد المركز الثالث.
وقبل شهر واحد فقط كانت هذه الأصوات لا تزال تعلو بالانتقادات والتحذيرات من إمكانية تحول المونديال من «نعمة» إلى «نقمة» على أرض كرة القدم وعلى بلد راقصي السامبا، خاصة أن هذه الاحتجاجات والمظاهرات اجتاحت الشوارع في معظم المدن خلال استضافة هذا البلد كأس القارات 2013 وكادت تتسبب في فشل البطولة. وتضاعفت حالة القلق من الجميع قبل أيام من انطلاق فعاليات المونديال البرازيلي بسبب استمرار وتزايد موجة الاحتجاجات والإضرابات وأبرزها في مترو ساو باولو الذي تسبب في شلل مروري تام بهذه المدينة الكبيرة التي يزيد تعدادها على 11 مليون نسمة.
ورغم تعليق العاملين والموظفين في مترو ساو باولو إضرابهم قبل بداية فعاليات المونديال مباشرة، فإن الفتور والأجواء غير المشجعة كان هي شعار الأيام الأولى للبطولة لدرجة صرح معها البعض بأنهم لا يشعرون بوجود كأس العالم في البرازيل؛ أرض كرة القدم.
لكن مع توالي المباريات تغيرت الحال تماما، وساهمت النتائج والمفاجآت العديدة التي شهدها الدور الأول في إشعال أجواء المنافسة والتشجيع قبل الجولة الثالثة من مباريات هذا الدور.
والحقيقة أن عروض المنتخب البرازيلي ونتائجه في الدور الأول لم تكن مشجعة لجماهيره على الشعور بالمونديال، حيث أفلت الفريق من الكمين الكرواتي في المباراة الافتتاحية للبطولة بفوز 3 – 1، ثم تعادل سلبيا مع المنتخب المكسيكي في المباراة الثانية، قبل أن يحقق فوزا منطقيا على نظيره الكاميروني. ورغم عبور الفريق إلى الدور الثاني بعد تصدره المجموعة بفارق الأهداف أمام المكسيك، فإن سمة المشجعين البرازيليين في الدور الثاني كانت القلق أيضا، حيث كانت المواجهة مع منتخب تشيلي العنيد الذي أكد لاعبوه سعيهم أيضا للفوز باللقب والذي قدم عروضا قوية في الدور الأول استكمالا لمسيرته الناجحة في التصفيات.
وكان قلق المشجعين في محله، حيث عبر الفريق البرازيلي هذه المواجهة بركلات الترجيح فقط بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من الخروج. ولم يكن القلق قاصرا على مشجعي المنتخب البرازيلي فحسب، وإنما على مشجعي معظم المنتخبات الكبيرة، وربما كان السبب في هذا هو المفاجآت العديدة التي شهدها الدور الأول.
ولكن النتائج النهائية لدور الستة عشر بددت كثيرا حالة القلق ليحل مكانها الشعور بالإثارة وبأن كأس العالم بدأت للتو من خلال مباريات دور الثمانية، لا سيما أن جميع المنتخبات التي تأهلت لهذا الدور كانت المنتخبات التي تصدرت مجموعات الدور الأول، مما يعني أن المنافسة عادت لنصابها الطبيعي بعيدا عن مزيد من المفاجآت.
وجاءت مباريات دور الثمانية لتفجر موجة هائلة من الإثارة وأجواء الاحتفالات اللائقة بكأس العالم، وليس أدل على هذا من الاحتفالات التي اجتاحت المدن البرازيلية بعد تغلب منتخبها على نظيره الكولومبي عابرا عقبة أخرى هائلة نحو تحقيق الحلم الكبير وهو إحراز لقبه العالمي السادس.
ولكن هذه الإثارة والاحتفالات، التي ازدادت لدى المنتخبات الأخرى
المتأهلة للمربع الذهبي، أخذت اتجاها آخر بالنسبة للمنتخب البرازيلي ومشجعيه، حيث أفسدت إصابة اللاعب نيمار دا سيلفا مهاجم الفريق احتفالات السامبا. ولم تكد جماهير البرازيل تفيق من أثر صدمة إصابة نيمار حتى كانت الكارثة التي ستظل محفورة في أذهان الجميع بالسقوط المدوي للفريق في مواجهة الماكينات الألمانية، حيث خسر راقصو السامبا 1 - 7 في المربع الذهبي لتتحول أجواء البرازيل إلى نغمة حزينة لم يكن يتوقعها حتى أكثر المتشائمين.
ومن رحم هذه الأحزان، جاءت موجة إثارة جديدة حيث أصبح على جماهير البرازيل أن تفاضل بين خيارين كليهما صعب ومر في النهائي؛ فهي إما أن تشجع المنتخب الأرجنتيني المنافس اللدود لمنتخبها، أو أن تقف بجوار «ألمانشافت» الذي ألحق بفريقها أقسى هزيمة في تاريخ مشاركاته بالمونديال. لكن الإثارة والسخونة وأحزان السامبا لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما جاءت الهزيمة الثقيلة صفر - 3 أمام الطاحونة الهولندية في مباراة تحديد المركز الثالث لتضاعف أحزان السامبا من ناحية، وتؤكد من ناحية أخرى مدى قوة المونديال الحالي رغم بدايته الفاترة.
وربما يكون السقوط البرازيلي على أرض الملعب قد انعكس على الأجواء العامة بالبلاد، إلا أن ذلك لا يمكن معه إغفال النجاح الذي تحقق في التنظيم والإقبال الجماهيري الكبير على الملاعب الرائعة التي جرى تشييدها.
ولم تخرج رئيسة البرازيل عن السياق في الإعراب عن حزنها لخسارة المنتخب القاسية على ملعبه أمام ألمانيا وضياع حلم الفوز باللقب السادس، وأكدت روسيف على أنها ستدشن عملية إصلاح لنظام كرة القدم في بلادها تهدف إلى عدم السماح للاعبين بترك البرازيل في سن صغيرة وذلك أملا في عدم تكرار الهزائم المؤلمة التي تعرض لها المنتخب في كأس العالم 2014. وقالت روسيف: «لا أعتقد أنه في بلد بهذا الحجم الهائل من المهارات الكروية، وبه هذا العشق الذي نشعر به تجاه كرة القدم، يمكن أن يهجر النجوم هذا البلد بهذه السرعة وأن يندمجوا في المدارس الكروية الأجنبية دون المساهمة في خلق حضارة جديدة لبلادهم».
وأوضحت روسيف: «علينا أن نفعل ما أقدمت عليه ألمانيا بعد خسارتها في يورو 2000. علينا أن نبدأ عملية الإصلاح». وقالت روسيف إن المدربين البرازيليين يجب أن يعملوا في ظروف مماثلة للظروف التي يعمل فيها نظراؤهم بأوروبا، مع ضخ استثمارات أكبر في أنظمة رعاية اللاعبين الشبان وإعدادهم، إضافة لمزيد من الشفافية في النواحي
المالية بالأندية البرازيلية. وقالت روسيف: «البرازيل بها سابع أكبر اقتصاد في العالم. ليس لدينا مبرر يمنع تطبيق هذا.. علينا أن نجري تقييما عميقا لما يحدث في كرة القدم البرازيلية. نريد المطالبة بالشفافية والإنفاق المناسب من جانب الأندية».
وأنشأت البرازيل وجددت 12 استادا للمونديال، وأشارت روسيف: «هناك فقط مخاطرة (لأن بعض الاستادات ستظل بلا فائدة) إذا فشلنا في إصلاح الكرة البرازيلية». وقالت روسيف: «الاستادات تكلفت ثمانية مليارات ريال برازيلي (3.66 مليار دولار أميركي) وهو المبلغ الذي سددت الحكومة نصفه. وفي مجالي الصحة والتعليم فقط، استثمرنا 1.7 تريليون ريال (772 مليار دولار) على مدار
السنوات الأربع الماضية».وبالتأكيد فإن البنية التحتية التي أنشأتها البرازيل لن تذهب هباء، بل ستستفيد منها الأندية واللعبة مستقبلا، إلا أن ما حصل في نصف نهائي مونديال 2014 على أرضها أمام الألمان سيترك جرحا عميقا في قلب عشاقها الذين شاهدوها تنهي مشاركتها بهزيمة أمام هولندا (صفر - 3) على المركز الثالث.
لطالما عرفت البرازيل بالجمالية والإبداع والأسلوب الهجومي الرائع الذي صبغ منتخباتها بأقدام لاعبين أسطوريين مثل بيليه وغارينشيا وجيرزينيو وليونيداس وريفيلينو مرورا بزيكو وسقراطيس وفالكاو وصولا إلى رونالدو وروماريو، لكن ما حصل في مونديال 2014 كان صدمة بكل المقاييس.
لقد سقطت البرازيل على أرضها للمرة الأولى منذ 39 عاما وكانت في بيلو هوريزونتي أيضا أمام ألبيرو 2 - 3 في نصف نهائي كأس «كوبا أميركا»، وتلقت أقسى هزيمة منذ سقوطها أمام أوروغواي صفر - 6 في عام 1920 في «كوبا أميركا»، واستقبلت شباكها خمسة أهداف للمرة الثانية في المونديال منذ عام 1938 عندما تغلبت على بولندا 6 - 5. كانت نتيجة مباراة الدور نصف النهائي كارثية على البرازيل لأنها رفعت الأهداف التي دخلت شباكها في هذه النسخة إلى 14، أي أكثر بخمسة أهداف من أسوأ دفاع في البطولة (الكاميرون وأستراليا بتسعة أهداف)، فعادلت أكبر عدد أهداف يدخل شباكها في نسخة واحدة (1938)، وأصبحت أول مضيف يدخل شباكه هذا العدد من الأهداف، ثم أضافت ثلاثة أهداف أخرى في شباكها خلال مباراة المركز الثالث أمام هولندا، لتصبح أول منتخب منذ 1986 يدخل شباكه 14 هدفا أو أكثر (بلجيكا حينها واهتزت شباكها 15 مرة). كان البرازيليون يحلمون بتعويض خيبة خسارتهم نهائي مونديال 1950 على أرضهم أمام جارتهم أوروغواي، لكن الألمان جعلوا من ذلك السقوط ذكرى أقل قسوة لأصحاب الضيافة بعدما أذلوهم وألحقوا بهم أسوأ هزيمة في تاريخهم على الإطلاق وعلى كل الأصعدة والمسابقات.
ومع إسدال الستار، لن تكفي البرازيليين ذهبية التنظيم، وكما قال فليبو سكولاري المدير الفني لمنتخب السامبا: «كانت الأيام الماضية صعبة، وسنواجه أياما صعبة لما تبقى من حياتنا ونتذكر هذا الأمر لوقت طويل.. تهشمت صورتي بسبب النتيجة الكارثية أمام ألمانيا، وسيظل العار يلاحقني».
البرازيل تنجح في الحصول على ذهبية التنظيم وتفشل بجدارة على أرضية الملعب
مونديال 2014 بدأ بفتور وانتهى بإثارة بالغة وبالتحدي التقليدي بين الكرتين الأوروبية واللاتينية
البرازيل تنجح في الحصول على ذهبية التنظيم وتفشل بجدارة على أرضية الملعب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة