في «محاكاة ساخرة لكتب تعلم اللغات، في خمسة أيام ومن دون معلم»، أتى كتاب «كيف تصبح فرنسياً في 5 أيام (ومن دون معلم)» للكاتب المغربي جمال بُدومة، ليقترح علينا تجربة «تخييل ذاتي» تضع القارئ في خضم لعبة «أنا مخاتلة» تجمع بين «فرنسي جبان» و«مغربي خائب».
على عكس ما يظهره وجه غلاف الكتاب، حيث نقرأ إشارة إلى أن الكاتب هو «جيرار لو لاش (جمال بدومة سابقا)»، يشير الظهر، بشكل واضح، كما هو حال الكعب، إلى اسم جمال بدومة، مع نبذة مقتضبة، تقول إن جمال بدومة كاتب وشاعر مغربي، من مواليد 1973، صدر له «الديناصورات تشتم ستيفن سبيلبرغ» (شعر، 2001) و«نظارات بيكيت» (شعر، 2006)، مع صورة شخصية تظهره (أي جمال بدومة) وهو يحتسي فنجان قهوة.
تضع إشارة «جيرار لو لاش (جمال بدومة سابقاً)»، على وجه الغلاف، القارئ في منطقة تجاذب بين جيرار لو لاش وجمال بدومة: بين الشخصية الخيالية والشخصية الواقعية. بين جيرار لو لاش وهو يفضح جمال بدومة، وجمال بدومة وهو يخترع جيرار لو لاش.
بالنسبة لبدومة، الكاتب، يبقى «التخييل الذاتي»، ربما، هو «الجنس الأدبي السردي الأقرب إلى مزاج الشعراء»، مشيراً إلى أن هذا النوع من التخييل «ليس بالضرورة لعبة تمويه؛ بل انحياز حر وواع لجنس إبداعي لم نتعود عليه كثيراً في الأدب العربي»، مرجعاً سبب الاختيار إلى «الرغبة في اختبار بعض الأدوات المتعلقة ببناء الشخصيات، انطلاقاً من المعطيات الذاتية»، من دون أن يخفي أن لذلك، ربما، علاقة بتكوينه المسرحي، بشكل يجعل من النص «لعبة تخييلية ودراماتورجيا ذاتية، مستلهمة مما يسميه المسرحي الروسي ستانيسلافسكي بـ(لو السحرية)، أي أنك تقول: (لو كنت كذا ماذا سأصنع؟)، وتشرع في التخيل»، مع تشديده على أنه «ليس في المسألة أي تخف أو تصفية حساب؛ بل هو بناء درامي له منطقه الخاص»، إذ «كما أن هناك رواية تخييلية وسيرة ذاتية، هناك التخييل الذاتي».
مع إشارة وجه الغلاف إلى «جيرار لو لاش (جمال بدومة سابقاً)»، نكون مع اسمين يتنازعان شرف من يكون الكاتب، غير أن كلمة «سابقاً»، التي ارتبطت باسم جمال بدومة، تعيد الشرف لجيرار لو لاش، من دون أن تصرفه عن بدومة؛ لأننا كقراء «أذكياء» (هذا ما يفترضه فينا بدومة، على الأقل) سنفهم أن جيرار لو لاش، ليس، في نهاية المطاف، إلا بدومة البطل والمخرج، وأنه واحد في ثلاثة؛ فيما اعتمد الكاتب ضمير الأنا؛ لكنه، كما يقول: «أنا مخاتلة تتحول وفق لعبة محبوكة، السيرة الذاتية فيها جزء من التخييل، يرتبط بالذاكرة، وبالنرجسية وأنا الكاتب؛ لأنك مهما استحضرت الأحداث التي عشتها بصدقية، فلا بد أن تنسى بعض التفاصيل أو تحور أخرى. إنه تخييل غير إرادي. أما التخييل، في جنس التخييل الذاتي، فهو متعمد في إطار إخراج بالمعنى المسرحي بطله شخصية الكاتب»؛ الشيء الذي يبرر لمَ صدّر الكاتب نصه، في الصفحتين 3 و5، بتنبيهين: الأول «تنبيه للقارئ... جيرار لو لاش شخصية خيالية، أنا اخترعتها»، من توقيع «ج. بدومة»؛ والثاني «تنبيه للقارئ الغبي... جمال بدومة شخصية واقعية، أنا فضحتها»، من توقيع «ج. لو لاش».
انطلاقاً من خلفيته المسرحية، يدفع الكاتب بشخصية جيرار لو لاش إلى الواجهة، جاعلاً منها «أكثر من قناع»، مشدداً على أنها «شخصية متخيلة بالكامل، يلعب دورها الكاتب بالاعتماد على طريقة التشخيص (التمثيل)، كما تحددها مدرسة ستانيسلافسكي. وأول مفتاح لتقمص الشخصية، وفقاً للمسرحي الروسي، هو الانطلاق من المعطيات والأحاسيس والطباع الشخصية، ثم تطويرها وتلوينها والدفع بها إلى مناطق قصية، كي تنتج شخصية كثيفة وحية، تملك مزاجاً وخصائص، ليست، في آخر المطاف، سوى تنويع على طباع الممثل الأصلية»؛ الشيء الذي يبرر ربط جيرار لو لاش بجمال بدومة، في الحيز المخصص للكاتب، في اختيار يبرره بدومة، بقوله: «ربما لأنني فشلت في أن أصبح ممثلاً (رغم أنني درستُ التمثيل في المعهد العالي للمسرح)، أعوض ذلك في الكتابة عن طريق تقمص شخصيات بالمعنى المسرحي للكلمة. الكاتب عادة يكتفي باختراع شخصيات يحركها في فضاء الحكاية. أما أنا فقد اخترعت الشخصية وتقمصتها وأعلنت ذلك منذ البداية. هناك شخصية الكاتب (جمال بدومة) وشخصية جيرار لو لاش، التي يتقمص دورها الكاتب»، مع حرص على أن يبقى «لكل شخصية مزاجها».
بقدر ما يدخلان القارئ في لعبة التخييل، يكشف التنبيهان عن مزاج الشخصيتين الرئيسيتين: «جمال بدومة، الذي يتحدث إلى القارئ باحترام كما يصنع أي كاتب يؤكد لقرائه أن (أي تشابه للأحداث والشخصيات مع الواقع هو مجرد صدفة)، وجيرار لو لاش، الشخصية (السينيكية)، التي تحمل حَنَقاً كبيراً على العالم، يريد أن يصرخ ويشتم ويفضح كل شيء، ويتحدث بنبرة مستفزة ومغرقة في السخرية السوداء».
لا يخفي بدومة أن الكتاب «يشتغل على السخرية، خصوصاً السخرية من الذات»، مستحضراً مجموعة من النصوص الغائبة مع مسحة من السخرية، مرتبطة أحياناً بالعناوين أو بسيرة الكتّاب: «السخرية خيار استراتيجي في بناء الكتاب، جيرار لو لاش يسخر من العالم كله، سخرية سوداء وسينيكية، وأول واحد يسخر منه هو جمال بدومة».
لن يحيط القارئ بما يثيره التنبيهان من أسئلة، تتراوح بين الاختراع والفضح، إلا في آخر النص، حيث نقرأ: «يبدو أنني سافرت أبحث عن الحياة وضيّعت نفسي في الطريق. لست متصوفاً أكره التوحّد والتعدد؛ لكن صدقوني: ذهبت بمفردي إلى فرنسا وعدت ثلاثة أشخاص متفرقين... ثلاثة في واحد... أنا المغربي الخائب، والفرنسي الجبان، ومن يحدثكم عنهما».
لا يتعلق الأمر، هنا، إذن، بجيرار لو لاش أو بجمال بدومة، أو كليهما؛ بل بثلاثة في واحد: ثلاث شخصيات تتنفس هواء مختلفاً، كما أن لها خطاباً مختلفاً، وكل هذا يرتبط بالجنس الأدبي للكتاب، الذي هو رواية بطلها الكاتب، مع كثير من التخييل. لعبة أقنعة، وثلاث شخصيات في واحد: شخصية الكاتب الذي يروي كل هذا، والشخصية الرئيسية التي هي جيرار لو لاش، والتي هي، أيضاً، شخصية جمال بدومة الكاتب: ثلاث شخصيات تتحدث لتصنع هذه الرواية، فيما يشبه الإخراج السينمائي لتحريك الشخصيات، حين يلعب المخرج دوراً في فيلم أو في مسرحية.
يبقى أن التنبيه الموجه إلى «القارئ الغبي»، والذي يحمل توقيع جيرار لو لاش، لا يعني أن جمال بدومة (الكاتب، هذه المرة) لا يهتم بـ«القارئ الذكي»، وذلك من منطلق أن رهانه يبقى على هذا القارئ (أي القارئ الذكي)، الذي سيفهم أن الكاتب يتحدث عن ذاته، من خلال لعبة تخييل ذاتي، في كتاب يعتمد في أساسه، كما يقول كاتبه، على «معطيات حقيقية تم الاشتغال عليها، وتحويل ملامحها وإغنائها بما يخدم البناء الدرامي، ويسند السرد، ويجعله مشوقاً»؛ حيث إن «هناك أماكن حقيقية وأخرى متخيلة. شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة. هناك أفعال حقيقية وأخرى متخيلة؛ لكن هناك أماكن وشخصيات وأفعالاً هجينة، يختلط فيها الواقعي بالتخييلي، وهي الغالبة. التخييل الذاتي لعبة تنطلق من شخصيات حقيقية، وتخترع لها مصيراً، وتجعلها تلتقي بشخصيات متخيلة، تعتمد على أماكن حقيقية يمكن تحويلها وتأثيثها بما يخدم الحبكة، وتتحدث عن أحداث حقيقية يتم التصرف في عقدتها وتطورها ونهايتها».
لا يمكن لمضمون باقي كتابات بدومة إلا أن تورطنا، أكثر، في مزيد من الأسئلة بصدد حدود الواقعي والمتخيل، الحقيقة والكذب، في كتاب «كيف تصبح فرنسياً في 5 أيام»، متسائلين عن جدوى تعمد كاتبه التخفي وراء قناعه، مستبعداً المحافظة على حضوره في نصه بشكل صريح، بدليل لعبة الأقنعة التي جعلته يتحدث، مرة عن جيرار لو لاش، أي «الفرنسي الجبان»، وأخرى عن جمال بدومة، أي «المغربي الخائب»، من جهة أن ما يسعى النص، ربما، إلى «فضحه»، من خلال شخصية جيرار لو لاش، موجود في نصوص وكتابات أخرى، لم يكن فيها جمال بدومة (الكاتب) في حاجة إلى التخييل الذاتي للتعبير عن المضامين التي تناولها؛ رغم تشديده على أنه ليس في اختراع شخصيات النص وتحريكها في فضاء الحكاية «أي تخف أو تصفية حساب»، وأنه «بناء درامي له منطقه الخاص»، إذ «كما أن هناك رواية تخييلية وسيرة ذاتية، هناك التخييل الذاتي».
يعتبر بدومة أن حضور كثير من المواقف، المعبر عنها في عمله التخييلي، في كثير من كتاباته الأخرى: «شيء طبيعي»؛ لأن بناء شخصية جيرار لو لاش: «ينطلق من طباع وخصائص في شخصية جمال بدومة، كما تقتضي لعبة التخييل الذاتي»، سوى أن «لو لاش أكثر جذرية في أحكامه وفِي مواقفه، وفخور بحقارته وبجبنه»، من منطلق أن جيرار لو لاش - يوضح بدومة - هو «الابن العاق للبلاد التي... والابن الشرعي لهذا الجيل الضائع الذي تحدثت باسمه في كتابي الأخير. طباعه ومزاجه ومواقفه تختزل وتكثف أفكار هذا الجيل»؛ حيث يتأرجح الكتاب بين أنا الكاتب الواقعي، التي تحاول أن تطغى على حلم أنا أخرى، بعد أن أصيبت بالإحباط وخيبة الأمل وتحول أملها، واستيهامات جيل بكامله، إلى كابوس مرعب، وغدت مدينة الأنوار سجناً كبيراً من العذاب والبؤس لكل المهاجرين والطامعين في أوراق الإقامة، لخصتها حالة الغضب التي تملكت الكاتب، في نصه، فاتحة إمكانية جديدة للاشتغال على «لو» السحرية، كما طورتها مدرسة ستانيسلافسكي، التي كانت المحرك الرئيسي لـ«كيف تكون فرنسياً في خمسة أيام»، حيث نقرأ: «لسوء حظنا أننا نولد دون أن يستشيرنا أحد. لأجل ذلك أحمل في نفسي غضباً قديماً. يسميه العارفون: (الغضب الوجودي). وأتساءل الآن: كيف صار سارتر وجودياً وسط كل الجمال الباريسي؟ كيف كان سيكون لو ولد مغربياً».
لعبة «تخييل ذاتي» بين «فرنسي جبان» و«مغربي خائب»
كيف تصبح فرنسياً في 5 أيام ومن دون معلم ... لجمال بدومة
لعبة «تخييل ذاتي» بين «فرنسي جبان» و«مغربي خائب»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة