«على كل صحافي يحترم نفسه أن يقرأ هذا المقال». هكذا غرد ليونيل باربر رئيس تحرير صحيفة «الفاينانشيال تايمز» البريطانية مشيرا إلى مقال بقلم الصحافي نيك كوهين المنشور على موقع صحيفة «نيويورك ريفيو أوف بووكس». مقال كوهيت تحت عنوان «كيف فقدت البي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية) مسارها في قضية «بريكست»، كان صادما وأثار الكثير من الجدل. يعود ذلك على هجومه المباشر للمؤسسة الإعلامية الأضخم في بريطانيا واتهامها بـ«الخوف من تغطية تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».
كوهين ليس المنتقد الوحيد لـ«بي بي سي». الكثير من المحللين والسياسيين والمغردين عبروا عن عدم رضاهم عن تغطية الهيئة فيما يتعلق بملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن في المقابل، هناك من يرى أن ذلك الانتقاد يأتي من معسكر «البقاء في الاتحاد الأوروبي» ويعبر عن رؤية الرافضين لبريكست. ويرى هؤلاء أن المدافعين عن البقاء في الاتحاد لم يتقبلوا هزيمتهم في الاستفتاء الذي جرى في عام 2016 ونتج عن فوز معسكر الخروج من الاتحاد.
كحال كل بريطانيا المنقسمة على نفسها ما بين مؤيد ومعارض لبريكست، وجدت «البي بي سي» نفسها في خضم المعارك والحملات المتبادلة بين المعسكرين، كل منها يتهم الإعلام بمحاباة «العدو» والتقليل من أهمية «اختيار الشعب» بالخروج من «الأوروبي».
في مقاله، اتهم كوهين نجوم البي بي سي «بالجبن الصحافي في تغطية الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016 وتبعاته»، يشرح كوهين أن مقدمي البرامج الإخبارية في المؤسسة لم تواتهم الجرأة لمحاكمة الادعاءات المضللة للحملات الداعية للخروج من الاتحاد الأوروبي وأبرزها أن بريطانيا ستوفر مبلغ 350 مليون جنيه إسترليني في الأسبوع.
يقتبس كوهين عبارة للمذيع السياسي في «بي بي سي» نيك روبنسون الذي قال عقب إعلان نتيجة الاستفتاء: «انتهى اليوم الذي التزمنا فيه كإعلاميين بالتوازن العام في عرض وجهات نظر الجانبين، لماذا؟ لأنه لم يعد هناك جانبان اليوم». يرى كوهين في العبارة تخليا عن روح الصحافة. قائمة الانتقادات طويلة في مقال كوهين ولكنه يركز على بعض منها بشكل أكبر، فهناك مثلا الفضائح والأخبار التي تتناول مخالفات للقانون أعلنتها لجنة الانتخابات والتي دانت فيها حملة الدعاية للخروج من الاتحاد «فوت ليف» بسبب تلقيها دعم مادي أكبر من المسموح به وفضائح أخرى تربط بين روسيا ومنظمي تلك الحملات، يقول إن تغطية البي بي سي لتلك الفضائح «لا يمكن القول بأنها متحيزة، فهي بالكاد موجودة».
يعدد القضايا الهامة التي غطاها الإعلام في الفترة الأخيرة والتي تشير للتلاعب في حملات الدعاية السابقة للاستفتاء ودور شخصيات يمينية متطرفة مثل ستيف بانون المستشار السابق لدونالد ترمب وروبرت ميرسر وهو رجل أعمال أميركي ومن داعمي ترمب. يقول بأن تغطية البي بي سي لتلك القضايا المتفجرة كانت «سطحية». ويشير إلى سلسلة المقالات التي نشرتها صحيفة «الأوبزرفر» للكاتبة كارول كادوالادر والتي فجرت قصة استغلال حسابات المستخدمين لفيسبوك للتأثير على الناخبين في أميركا وفي بريطانيا وتورط شركة بريطانية هي «كمبريدج أنالاتيكا» في استغلال حسابات الفيسبوك لتوجيه حملات دعائية لحساب «بريكست»، ويقول بأن البي بي سي رفضت التعاون مع كادوالادار لإعداد برامج استقصائية خاصة بتلك الملفات الشائكة.
الهيئة ترد
مقال كوهين تحول إلى نقطة جدل هامة في الساحة الإعلامية البريطانية، ومع كثرة تداولها على المواقع المختلفة وعلى «تويتر» أساسا وجدت البي بي سي نفسها في موقف يستدعي الرد وبالفعل أرسل كبير محرريها السياسيين جيمس باترسون خطابا للصحيفة ينكر فيه أن المؤسسة رفضت التعاون مع كادوالادر مشيرا إلى عدم توافر أدلة كافية للتحقيقات تناسب معايير المؤسسة ويشير إلى عدد المرات التي تناولت فيها النشرات المختلفة قضايا الفيسبوك وكمبريدج أنالاتيكا وتقرير لجنة الانتخابات حول تجاوزات حملة «فوت لييف» الداعية للخروج من الاتحاد الأوروبي، ويختتم باترسون رسالته بالتأكيد على مكانة بي بي سي «المتفردة» في عالم الصحافة وأنها تحظى بمتابعة الملايين حول العالم.
ولكن كوهين لم يكن وحيدا في انتقاده لبي بي سي فقد كتب آلان راسبريدجر رئيس تحرير صحيفة «الغارديان» السابق مقالا في مجلة «نيو ستاتسمان» ينتقد فيه تغطية البي بي سي لبريكست قائلا بأن «الحياد لا يعني الابتعاد عن وظيفة الصحافة وهي تكوين جمهور واع». راسبريدجر يعرف من خارطة الصحافة البريطانية أن هناك جناحا يمينيا يميل للمبالغة ولزرع الخوف والعنصرية مثل صحيفتي «ديلي ميل» و«ذا صن» ولكنه يراهن على واجب الصحافة المعتدلة في متابعة القضايا الحساسة والهامة في منعطف تاريخي هام. يشبه راسبريدجر موقف البي بي سي خلال الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي بموقفها أثناء أزمة قناة السويس في عام 1956 حيث تعرضت لضغوط من رئيس الوزراء أنتوني إيدن لكبح جماح صحافييها.
في جو تحولت فيه نقطة التوازن نحو اليمين، يجادل راسبريدجر، سيطر فيه المتشككون في أوروبا ودعاة الخروج على صحف شعبية مثل «ديلي ميل» و«ذا صن»، تصبح محاولة التزام الحياد معقدة للغاية. يختتم راسبريدجر مقالته بتساؤل «أين الصالح العام في كل هذا، هل إدارة البي بي سي قوية للدرجة الكافية لتصر على ممارسة واجبها في القيام بواجبها الصحافي تجاه الصالح القومي، ولكل هل تسمع البي بي سي؟».
ضحايا التغطية الإعلامية
غير أن ضحايا بريكست في بي بي سي ليس فقط أهم برامجها بل أهم مذيعيها، فالمحررة السياسية لورا كونسبورغ تعرضت لتهديدات دعت المؤسسة لتخصيص حراس شخصيين لها، الصحافي نيك روبنسون أيضا أصبح هدفا للنقد من داعمي البقاء في الاتحاد الأوروبي وأصبحت صفحته على «تويتر» مكانا للهجوم عليه وكذلك تحول المذيع أندرو مار إلى هدف للنقد. وتعرضت المذيعة كيرستي وارك من البرنامج الإخباري الشهير «نيوزنايت» أيضا إلى سهام النقد بعد مقابلة مع كريس وايلي مفجر قصة شركة «كمبريدج أنالتيكا» التي استغلت حسابات المستخدمين على «فيسبوك» لتصميم حملات إعلانية موجهة لدعم «بريكست». في البرنامج حاولت وارك التزام الحياد حينما ذكر وايلي أن لجنة الانتخابات أدانت حملة «فوت ليف» وأن «فيسبوك» سهل عملية خداع الناخبين، فحرصت وارك على الإشارة إلى أن تلك الاتهامات «مزعومة» ولكن وايلي هاجم البي بي سي. وانتقل الجدال على «تويتر» لينضم آخرون لوايلي في انتقاد المذيعة والبرنامج وأصدرت بي بي سي بيانا صحافيا لتوضيح الموقف ولتؤيد مذيعتها المخضرمة.
مأزق الـ«بي بي سي» في أنها الوسيلة الإعلامية القومية التي تحظى بالاحترام والمصداقية في بريطانيا كما أنها تتلقى تمويلها من اشتراكات المشاهدين ولهذا تحاول المؤسسة الحفاظ على توازن دقيق جدا قد يختل أحيانا ما بين معسكر البقاء ومعسكر الخروج، ولكن الحياد المنشود لم ينجح في إبعادها عن مرمى السهام وإنما زاد من حدة الهجوم عليها من كل فريق يرى أن وجهة نظره لم تحظ بالتغطية الكافية.