يكرّس العلماء اليوم المزيد من وقتهم وجهودهم للتوصل إلى الطريقة التي ستسمح لهم بالتحكم بالعالم عبر البروتينات، العناصر التي تعتبر مسؤولةً عن النشاط الحي في الجسم. تحصل البروتينات على المعلومات المشفرة في الحمض النووي وتحوّلها إلى صيغة هيكلية معقّدة ثلاثية الأبعاد، يعمل عدد كبير منها كآلات صغيرة.
وتعمل البروتينات على نشر الأكسجين في مجرى الدّم، وتستمد الطاقة من الطعام، وتشحن الأعصاب، وتهاجم الأجسام الدخيلة. وهكذا، يبدو الحمض النووي وكأنه يعمل في خدمة البروتينات، فيحمل المعلومات حول كيفية، وتوقيت، والكميات المطلوبة لإنتاجها.
بروتينات صناعية
تنتج الأجسام الحيّة آلاف البروتينات المختلفة، التي سيزداد عددها بشكل كبير عما قريب، مع بدء العلماء بتعلّم تصميم بروتينات جديدة من الصفر لخدمة أهداف محددة. إذ يسعى البعض إلى تصميم بروتينات جديدة للأدوية واللقاحات، فيما يسعى آخرون لصنع محفزات أفضل لقطاعي الصناعة الكيميائية وصناعة المواد الجديدة.
يشبه ديفيد بيكر، مدير معهد تصميم البروتينات في جامعة واشنطن هندسة البروتينات بنزعة صناعة الأدوات ذات التصاميم الخاصة. ففي مرحلة معينة، ذهب الإنسان الأول بعيداً في استخدام الأشياء التي اكتشفها، فاستخدم قطع الخشب، والحصى والصخور، وبدأ بتصميم أدوات تناسب حاجاته الأساسية، ووصل إلى صناعة مفكات البراغي والسيارات الرياضية.
واليوم، بات من الممكن إحداث مرحلة انتقالية مشابهة على صعيد الجزيئيات، على اعتبار أن العلماء يمكنهم أن يصنعوا بروتينات بصيغ هيكلية لم تنتجها الطبيعة يوماً. وقال ويليام ديغرادو، عالم متخصص في الكيمياء من جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو: «هذه الصيغ ستتجاوز عالم البروتينات الطبيعية».
بدأ الحديث عن هندسة البروتينات منذ عقود، ولكن تنفيذها كان يعتبر مشكلة شاقة ومعقّدة قبل السنتين الأخيرتين. ولا توجد قواعد بسيطة لتوقّع كيف يمكن للبروتينات أن تتضاعف لتصبح بهياكلها المختلفة الثلاثية الأبعاد، لذا، حتى ولو تمكنتم من تصميم بروتين ما بالشكل الذي يلائم وظيفة معينة، لن تكون هناك طريقة واضحة لمعرفة كيف تمت صناعتها من للبنات الأساسية للبروتينات، أي الأحماض الأمينية.
وقال ديغرادو إن العلماء عملوا لسنوات طويلة على حلّ المشكلة. ولكن على عكس غيرها من المجالات التي تشهد ترويجاً، لم يرَ العالم احتفالاً بأي إنجازات في مجال هندسة البروتينات (كالاحتفال بإتمام مشروع الجينوم البشري الذي وصلت تكلفته إلى ثلاثة مليارات دولار)، كما لم نر أي اختراق علمي مفاجئ مثل تصميم طريقة «CRISPR» للقص الجيني التي اعتمدت على مكوّن من بكتيريا اللبن الزبادي ساهم في تطوير القدرة على تعديل الجينات. إلا أن بعض العلماء يرجحون اليوم أن تصميم البروتينات سيكتسب أهمية توازي الأهمية التي حاز عليها التلاعب بالحمض النووي في العقدين الأخيرين.
تمثّل التغيير الذي حصل أخيراً في القدرة على فكّ شفرة اللغة الصعبة لشكل البروتينات. إذ إن هناك طريقة بسيطة جداً تترجمها البنية الكيميائية الخطية التي تحملها فروع الحمض النووي إلى سلاسل من الأحماض الأمينية في البروتينات. ولكن قوانين الفيزياء تلعب دوراً في هذه العملية، إذ تتحوّل البروتينات فجأة إلى صيغ هيكلية مطوية بسبب انجذاب أو نفور الأحماض الأمينية الناتج عن أماكن أخرى كثيرة في السلسلة.
وقال بيكر من جامعة واشنطن إنّه حين بدأ حياته المهنية قبل 30 عاماً، حاول علماء متمرّسون إبعاده عن مجال هندسة البروتينات لغياب الضمانات بإمكانية إحداث أي تقدّم في هذا المجال. ولكنّه قال إنّه أحبّ التحدّي الذي يتطلب تعدّد الاختصاصات، من علوم الكومبيوتر إلى علوم الأحياء، والكيمياء، والفيزياء.
مشروع أبحاث
ومنذ ذلك الحين، طوّر العلماء مفهومهم حول فيزيائيات البروتينات، بينما تنامت قوّة الحوسبة. وبدأ بيكر تنفيذ نظام يعرف بـ«روزيتا»، ولكنّه لاحظ أنّ كومبيوتره الجامعي يفرغ بسرعة من الطاقة، فأشرك معه مواطنين قاموا بتأجير كومبيوتراتهم في إطار مشروع عُرف بـ«روزيتا @ هوم».
بعدها، ابتكر بيكر وزملاؤه نوعاً من الألعاب عرف بـ«فولديت»، يمكن للعلماء من خلاله أن يحاولوا التوصل إلى كيفية تصميم بعض أنواع البروتينات. وأخيراً، استعانوا بمساعدة أكثر من مليون شخص، حسب ما قال لي، مما أكسبهم القدرة على توقّع صغر الحجم الذي يمكن أن تصل إليه البروتينات، إلا أن البروتينات الأكبر حجماً كانت لا تزال شديدة التعقيد. وبحسب ما أورد خبر نُشر في مجلة «ساينس»، حصل العلماء على دعم من علماء آخرين يدرسون كيف أدّى التطوّر إلى البروتينات الموجودة لدينا اليوم. تنتج غالبية الطفرات الجينية التي تؤثر على هيكلية البروتينات شيء غير فعال، مما يؤدي إلى موت أي جسم يحصل عليه بالوراثة. ولكن بعض التركيبات التي تتألف من طفرات مختلفة ستنتج نسخة معدّلة من الشيء نفسه، وبالتالي ستسمح لبروتينات جديدة بالنشوء.
وأخيراً، نجح مشروع «روزيتا» البيولوجي خاصتهم في مهمته. فقد قال ديغرادو من جامعة كاليفورنيا إنّ مختبره يبحث في ابتكار أدوية جديدة تمتاز باستقرار أكبر، على رفوف الصيدليات وفي جسم الإنسان. كما أنّه يعمل على دراسة مرض ألزهايمر وحالات عصبية مشابهة، ترتكز على بروتينات دماغية تتحوّل بشكل خاطئ إلى مخزونات سامة.
يعمل مختبر بيكر على مجموعة أخرى متنوعة من التطبيقات، من بينها لقاح يحمي من جميع سلالات الإنفلونزا في وقت واحد، ونظاماً يعمل على تفكيك بروتين الغلوتين الشائع الموجود في الحبوب، في محاولة منه لمساعدة الناس الذين يعانون من الاضطرابات الهضمية. يبحث علماء آخرون أيضاً عن بروتينات تساعد في تحويل الطاقة الشمسية إلى وقود. وأشار بيكر إلى أن عدد البروتينات المحتملة والتي يمكن التوصل إليها عبر الهندسة قد يفوق عدد الذرات الموجودة في هذا الكون. لقد أنتج التطور جزءا صغيراً جداً، إلا أن مجال التوسع لا يزال كبيراً أمام العلم.
* خدمة «بلومبيرغ»