في تاريخ المؤامرات والمكائد السياسية في الولايات المتحدة الأميركية ثلاثة اغتيالات ما زالت مغلّفة بالأسرار: اغتيال جون كينيدي، خلال زيارته المشؤومة إلى دالاس، برصاصة اخترقت عنقه ليسقط مضرّجاً بدمائه بين يدي زوجته جاكلين؛ واغتيال مارتن لوثر كينغ برصاصة من بندقية ليس معروفاً بعد من أطلق زنادها؛ واغتيال روبرت كينيدي على يد الشاب الفلسطيني سرحان سرحان بثلاث عشرة رصاصة من مسدّس لا يتسّع لأكثر من ثمانية عيارات.
في مثل هذا اليوم منذ خمسين عاماً، كان بوب كينيدي يخرج عبر قاعة المطابخ في فندق آمباسادور، في لوس أنجليس، بعد نهاية لقاء مع مؤيديه في حملة انتخابات رئاسة الجمهورية، عندما اقترب منه سرحان وأطلق عليه ثلاثة عيارات نارية فارق الحياة على أثرها بعد أربع وعشرين ساعة في المستشفى. حتى اليوم، لا أحد يعرف كيف تمكن سرحان، الذي كان فارساً لخيول السباق، من الوصول إلى مكان الحادث، ومن أطلعه على تغيير الخطة في اللحظات الأخيرة لإخراج كيندي من المطابخ، وهل كان وحده، وما هي الأسباب التي دفعته إلى اغتيال السيناتور الذي كان قد فاز بترشيح الحزب الديمقراطي، وبات مرجحاً فوزه ضد المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.
لم تستغرق محاكمة سرحان طويلاً، وانتهت بإصدار حكم بالإعدام، خُفِّض إلى السجن المؤبد لأن ولاية كاليفورنيا كانت قد قررت إلغاء العقوبة القصوى قبل الموعد المحدد لإرساله إلى غرفة الغاز. وقد فشلت كل المحاولات التي بذلتها عائلة سرحان لإعادة فتح ملف التحقيقات، التي تمّت بسرعة قياسية من غير أن تبدد الشكوك والتساؤلات الكثيرة التي تناولتها عشرات المؤلفات التي صدرت بعد ذلك، وتحدّث معظمها عن وجود مؤامرة دبّرتها وكالة الاستخبارات المركزية، وكان سرحان أداة التمويه فيها.
ومع مرور الوقت وعدم انكشاف الحقيقة وراء تلك الحادثة، راح يزداد عدد المشككين في صدقية التحقيق والمقتنعين بنظرية المؤامرة، من بينهم مقّربون من بوب كينيدي وبعض مرافقيه ومساعديه، وكان آخرهم أحد أبنائه، روبرت (جونيار) الصغير، الذي زار سرحان عدة مرات في السجن، وتحدث إليه مطولاً، وقال: «يؤرقني احتمال براءة الذي يقضي حياته في السجن بتهمة اغتيال والدي». ويؤكد مقرّبون من روبرت الابن أن ملابسات اغتيال والده مصدر قلق دائم بالنسبة له، وأنه مصّر على كشف الحقيقة مهما طال الزمن، ويردد دائماً أن والده لو كان حياً «لكان قد تصرّف على هذا النحو».
يقول جيف شيسول، الذي وضع كتاباً مرجعياً ضخماً عن روبرت كينيدي، بعنوان «الاحتقار المتبادل» The Mutual Contempt: «منذ صغره، كان بوب محتَقراً من رفاقه، مما دفعه لاحقاً إلى التعاطف مع الفقراء والسود والذين يكافحون كل يوم من أجل البقاء». ويرى كثيرون من الذين يهتمون بسيرة عائلة كينيدي أنه على الرغم من الإعجاب الكبير الذي يكنّه الأميركيون للرئيس الشهيد، والإجماع على أنه كان من أهمّ الرؤساء في التاريخ الأميركي الحديث، فإن ثمة اعتقاداً راسخاً بأن بوب كان مرشحاً ليترك إرثاً أهمّ على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
ويعتقد المؤرخ السياسي إيفان توماس أن اغتيال روبرت كيندي فتح الباب أمام أبشع الحقب في التاريخ الأميركي الحديث، مع انتخاب نيكسون وفضيحة ووترغيت، وما رافقها من فساد وتدهور في الأخلاقيات السياسية، وعزوف المواطنين عن متابعة الشؤون العامة والاهتمام بها. ويؤكد روس بيكير، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا، أن بوب كيندي كان عازماً، في حال وصوله إلى البيت الأبيض، على سحب القوات الأميركية بسرعة من فيتنام، وأنه ما كان ليتخذ القرار باجتياح كمبوديا، حيث ارتكبت أفظع المجازر.
لكن يرى آخرون أن روبرت كينيدي، الذي استحق لقب «الرجل الأبيض الأكثر حظية بثقة أميركا السوداء» كان متقلباً في مواقفه. فهو الذي أمر مكتب التحقيقات الفيدرالي، عندما كان وزيراً للعدل على عهد شقيقه جون، بمراقبة مارتن لوثر كينغ، والتحقيق في حياته الخاصة، وما كان يُزعم عن علاقته بموسكو، فضلاً عن أنه بدأ نشاطه السياسي بالتعاون مع السيناتور جون ماكارثي في ملاحقة الليبراليين وفلول الشيوعيين.
أما سرحان، الذي شارف على الخامسة والسبعين من عمره، فهو يقضي أيامه بالمطالعة في زنزانته الصغيرة، والعناية بالمزروعات في حديقة السجن، غير مكترث بما شاع عنه في صحف كثيرة بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، من أنه «أول إرهابي مسلم في أميركا»؛ هو الذي وُلد، وما زال، مسيحياً.
من تاريخ المؤامرات والمكائد السياسية
من تاريخ المؤامرات والمكائد السياسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة